مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوكمعالم

إسهام العلامة سيدي محمد بن الحاج الصغير الإفراني في علم التراجم.

 

يفتخر كل منا بانتمائه لبلد العلم والعلماء كيف لا وحواضرها شاهدة على ذلك، وشاهدة على أن موطأ أقدامنا كان في يوم من الأيام موطأ قدم العديد والكثير من العلماء الأفذاذ والفقهاء الأعيان، والشيوخ فرسان كل ميدان من ميادين العلوم والفنون بكل الأشكال و الصنوف، فيقف المرء وقفة إجلال وإكبار أمامأعلام فاس ومكناس ومراكش وغيرها، أعلام جهابذة نبغاء فقهاء وعلماء، ويقف المرء وقفة تأمل ونظر أمام الكم الزاخر الذي خلفه أولئك العلماء في مختلف المجالات والعلوم، فلماذا ذاك الإجلال و الإكبار؟.

         لقد استطاع علماء مراكش على مر عصور أن يثبتوا جدارة، وكفاءة، ونباهة، وذكاء، غيرمسبوقين، يُعلم ذلك من خلال جهودهم التي بذلوها في التأليف والتصنيف، والتدريس والنظر، والاجتهاد مسخرين في ذلك كل ما يمكن أن يُسهم في خدمة العلم وأهله، فأغنوا بذلك رصيدهم العلمي والمعرفي، كما الساحة العلمية دراسة و تحصيلا تأليفا وتدريسا.

  ويعتبر العلامة سيدي محمد بن الحاج الصغير الإفراني أحد العلماء المتضلعين بالعلوم، المتبحرين في الفهوم، الذين شدوا الرحال إلى فاس، وتحديدا إلى جامعة القرويين للنهل من علومها، والاستفادة من شيوخها، نظرا لاشتهارها وذيوع صيتها بين سائر البلدان والأقطار، وهو واحد من أولئك الذين وهبوا حياتهم وأنفقوا أعمارهم في خدمة العلم وأهله درسا ودراسة و تدريسا، تعلما و تعليما، تأليفا و تصنيفا، يشهد على ذلك لوامع مصنفاته، وسواطع مؤلفاته الدالة على علو كعبه و تمكنه، يقول العلامة سيدي عبد الله كنون: “كتبه سدت ثُلمةً في التاريخ المغربي لولاه لبقينا منها في حيرة شديدة، فهو من أولئك الأفراد الذين بلَّغوا للأحفاد مآثر الأجداد بأمانة واجتهاد”[2].

          لقد كانت حياة العلامة سيدي محمد بن الحاج الإفراني رحمه الله حياة علم ودراسة وتأليف، جاء في مقدمة محقق كتاب “صفوة من انتشر من أخبار صلحاء القرن الحادي عشر: “كان رحمه الله فقيه عصره، وفريد دهره، كان ذا حفظ وإتقان، فصيحا وخطيبا تضرب به الأمثال قد أبهر أقرانه من نباهته … دمث الأخلاق خفيف الروح مشتغلا بالتقييد مستغرق الأوقات في ذلك، له تآليف عديدة أديب زمانه وفريد أوانه الأديب اللغوي البياني الفقيه الأجل العلامة الأمثل حافظ عصره و محدثه”[3]،…ولما كان الأمر كذلك حاولتأن أتناول جانبا مشرقا من إبداعاته العلمية وهي المتعلقة بالتراجم، وذلك من خلال كتابيه:

أ – صفوة من انتشر من أخبار صلحاء القرن الحادي عشر.

ب – درر الحجال في مناقب سبعة الرجال.

وقفات على حياة العلامة سيدي محمد الصغير الإفراني:

      الشيخ العالم محمد بن الحاج محمد بن عبد الله الإفرانيالملقب بالصغير ولد بمدينة مراكش حوالي 1080 هـ (1669- 1670م)، والراجح أن الإفراني بالألف واللام نسبة لإفران القبيلة السوسية المستقرة بحوض وادي درعة لا بالياء “اليفرني” أو الواو “الوفراني” كما ذكره بعضهم[4].

عرّف به الكثير من العلماء كالعلامة أبي الربيع الحوات والعلامة ابن موسى في الدرر المرصعة، وغيرهما فذكرو أنه “كان رحمه الله فقيها، محدثا، حافظا، نحويا، بيانيا، أديبا، ماهرا بليغا فصيحا خطيبا ثبتا مشاركا في فنون شتى، حافظ العصر دمث الأخلاق خفيف الروح، مشتغلا بالتقييد مستغرق الأوقات في ذلك وكان أشعر أهل زمانه كما أشار لذلك مفتخرا بنفسه ارتجالا:

أنا أشعر الشعراء غير مدافـع             من قال لسـت بشاعر يأتيني

فكري هو البحر الخضم شبيهه          والبحر حاوي جوهر المكنون

درس محمد الإفراني بمسقط رأسه على جماعة من العلماء أمثال الشيخ أحمد بن علي المداسي السوسي، ثم رحل إلى فاس سنة(1118هـ/1706م) فأكمل دراسته في جامع القرويين وكان يسكن بالمدرسة الرشيدية وهي المعروفة باسم مدرسة الشراطين، وقد كانت هيأة التدريس الموقرة التي تتلمذ عليها العلامة الإفراني مكونة من السادة الأفاضل العالم الكبير سعيد بن أبي القاسم العميري قاضي مكناس، ومحمد بن عبد الرحمان الفاسي، درس عليه علوم الحديث، والعربي بن أحمد بردلة قاضي القضاة بفاس، وأبو علي الحسن بن رحال المعداني، ومحمد بن أحمد المسناوي، والعربي بن أبي القاسم الإفراني، وأحمد بن عبد الحي الحلبي وقد ذكر الإفراني بعضا من هؤلاء الأفذاذ في كتاب درر الحجال، وقد أنهى محمد الإفراني دراسته بفاس (1130هـ/1717م)،ليعود إلى موطنه مراكش ويتصدر للتدريس بها حيث كان يدرس العلوم الإسلامية عموما من تفسير وحديث وفقه، وكان وقتذاك قد بدأ في تأليف بعض كتبه. ومن أشهر تلاميذ الإفراني اللذين أخذوا عنه: عبد الله بن عبد السلام جسوس، وأهم ما يسجل في هذه المرحلة من حياة الإفراني، طعن بعض الطلبة عليه حين تصدر للتدريس بالمسجد اليوسفي بمراكشوقيامهم ضده واتهامهم له بالزندقة، إذ رفعوا أمره إلى قاضي المدينة، مبررين ذلك بكون التفسير إذا قرئ بمراكش حل به الجوع، وقد طلب منه الحاكم أن يترك تدريس التفسير ويقتصر على الحديث والفقه، فأخذ يدرس صحيح البخاري[5]، وقد ذكر محمد السملالي في إعلامه[6]، أنه كان للإفراني منهج في التدريس، إذ كان إذا افتتح القراءة أملى عليه السارد جميع النصاب، فيشرع في تفسيره حرفا من أوله إلى آخره، وبقي على ذلك عاما كاملا وشاع خبره في البلدان، فصار الناس يكتبون له الأسئلة من أقصى بلاد سوس…

 فانضاف إلى تحامل طلبته والناس عليه حسد علماء المدينة له لسعة علمه وفقهه، وقد عبر عن ذلك في قصيدة شعرية طويلة هاجمهم فيها، وحمل على الطلبة الذين تزعموا هذه الحركة بتحريض من بعض الشيوخ، ومطلع القصيدة :

إلى كم يهتك الحسـاد عرضـي   وجفني عـنهـم بالحـلم مغـض

وما ذنـبـي إليهم غـير أنـي        رفعـت عليهم من غـير خفـض

يرون العلـم في حبس وشـيب           وذاك عليــهم بالجهـل يقـضي

وهل في خـطة الأحـباس شيء     سوى غضب الإله وهتـك عرض

وكم من أشيب كالبغـل يمشـي           ولحيـتـه اللـجام لـه بـركض

ولو تركو حظوظ النفس كانـوا            جميعـا ظامـئين لـورد حـوض

وتاهوا في فجاج الحفـظ مني             ولم يصـلـوا إلى طـول وعرض

وجاؤوا مـهطـعــين لبحر عـــــــلم             يفـض على المجالس أي فـيـض

جمعت من النفائس كل عـلق             وحــــزت مـن اللطائـف كل عــض

وحــلانــــــــــــي الإلــــــه بـدرّ عـــــــــــلم          وأعـــــطـــــــانــي الــــقـــبـول بكــل أرض

وحصلت العلوم بجـوع بــــــــــطـن              وخوض في المـباحث أي خوض

وكم من ليلـــــــــــة قـد بـت فيهـــــــــــــا               سمــــير دفـــاتر مــــن غــــير غـمـض

أخذت العلم عن أشياخ صـدق                    وأعـــمــــلت الـــمـطـــي لــكــــــل مُـــــرض

فقل لشيوخ مراكـش هـــــلـــمــــــــــــــــــوا               بانـصاف لـــتصـطـــحــــبــــــــوا بـروض

ولايـــحـــمـــلـــكم كــــــوني صـــــغـيرا           عـــلى إنــكـــــار مــرتبــتــي وبــغــــضي

فإن الـــعـــلم نـــــور الله يـــــعـــــــــــطي            إنارتـــه لــبــــعــــض دون بــــعــــــــــــــض[7]

 

يقول الدكتور حسن جلاب في مقدمة تحقيق درر الحجال للإفراني: “وقد وصلت أصداء الخصومة إلى سوس فدافع محمد بن أحمد التفنكلتي المراكشي عن الإفراني خاصة بعدما اطلع على أجوبته التي وجهها إليه في موضوعات فقهية كان عددها خمس وعشرين سؤالا، وقد مر الإفراني في هذه الفترة بأزمة نفسية حادة، واكبتها ضائقة مالية جعلت دائنيه لا يتورعون عن بيع مكتبته الخاصة لاستخلاص مستحقاتهم، وقد عبر عن تلك المشاعر المؤلمة في الرسائل التي وجهها لشيخ الزاوية الشرقاوية محمد الصالح الشرقي ولعل معاناته هذه للازمة جعلته ينطوي على نفسه وينكب على تأليف أهم مؤلفاته.

إذ لا يخفى أن قلم الإمام الإفراني كان سيالا نفاعا تنهمر من بين يديه الكتب النافعة، والمصنفات الرفيعة، فقد خلف رحمه الله تآليف عديدة جامعة لفرائد الفوائد المفيدة منها:

 المسك السهل في توشيح ابن سهل” ألفه سنة (1128هـ/1715م) وهو مؤلف يدل وحده على قوة عارضته واستمداد باعه، شرح فيه موشح إبراهيم بن سهل، وقد حققه الدكتور محمد العمري.وله كتاب“طلعة المشتري في ثبوت توبة الزمخشري”، ألفه بين (1128و1137هـ/1715-1724م)، وهو مقتطف من أزهار الرياض للمقري، وله أيضا “المغرب في أخبار المغرب”، ألفه بين سنتين (1128 و1137هـ/1715-1724م) ذكره صاحب دليل مؤرخ المغرب الأقصى العلامة بن سودة[8]، و”ياقوتة البيان” شرح فيه أرجوزة في البلاغة، ألفه سنة (1130هـ/1717م (، و”روضة التعريف بمفاخر مولانا إسماعيل بن الشريف أو الظل الوريف”، في مفاخر مولانا إسماعيل بن الشريف، ألفه سنة (1133هـ/1720م)، عرف فيه بالسلطان العلوي مولاي إسماعيل ودولته، و”فتح المغيث بحكم اللحن في الحديث”، ألفه سنة(1134هـ/1721) وكتاب “درر الحجال في مناقب سبعة رجال”، عرف فيه بسبعة رجال مراكش إلا أنه لم يكمله، ألفه بين سنة (1134هـ/ و1137هـ/1712-1724م)، وكتابه القيم “صفوة من انتشر من أخبار صلحاء القرن الحادي عشر“، ألفه سنة (1137هـ/1724م)، وهو من آخر ما ألف وهو عبارة تراجم علماء وصلحاء المغرب في القرن المذكور أكمل به كتاب دوحة الناشر بمشايخ القرن العاشر لابن عسكر، وكتابه الآخر الذي اشتهر بين المؤرخين وأهل التراجم: “نزهة الحادي بأخبار ملوك القرن الحادي”، وهو تاريخ حفيل في الدولة السعدية عرف فيه بالدولة السعدية وأخبارملوكها وبداية الدولة العلوية ألفه حوالي سنة (1139هـ/1726م و”الإفادات والإشادات” وهو تأليف لا كفاء له في الحسن، بالإضافة إلى أجوبة وفتاوي فقهية، ورسائل وأشعار مختلفة، وتقريظ رسالة لمحمد بن عبد المومن سماها “تنقية النفس”، ألفها سنة (1156هـ/1742م) ، و”الوشي العبقري في ضبط لفظ المقري”، عرف فيه بمؤلف نفح الطيب ألفه سنة (1156هـ/1742)[9]، وخطبة كتاب واسطة العقدين، لخص فيه كناشتي المولى إسماعيل. وله تقاييد ومحاورات ورسائل ومقطعات شعرية.

بعد حياة حافلة بالعلم والعطاء والإفادة والاستفادة وافته المنية رحمه الله في حدود الأربعين ومائة وألف للهجرة، ودفن بمحل الجنائز عن يسار الداخل إليه ببيت هناك من المسجد اليوسفي بمراكش المحروسة وهو إمامه والخطيب به وقيل أن بجانب قبره نخلة صغيرة موجودة إلى الآن.

       إلا أنه قد وقع اختلاف كبير بين المؤرخين حول تاريخ وفاة الإفراني بالضبط، وقد بلغ الفرق بينهم، حدا غير مسبوق في مثل هذه الأحوال، فقد ذكر صاحب معجم المؤلفين أنه توفي سنة (1138هـ/1725م) أو سنة (1140هـ/1727م)، وفي السعادة الأبدية لابن الموقت سنة (1140/1727م)، وفي التقاط الدرر أن وفاته كانت بعد (1150هـ/1737م)، وجعله صاحب دليل مؤرخ المغرب الأقصى بين (1152 و1154هـ/1739و1741م)، وفي الإعلام للسملالي أن وفاته كانت سنة (1155هـ/1742م).

ويفيدنا الأستاذ حسن جلاب في مقدمة تحقيق كتابه درر الحجال  بأن “التاريخ الأنسب لوفاته هو بين سنتي (1156هـ/1743 و1744م)، وهو التاريخ الذي ذكره الأستاذ العمري لأسباب منها:

1-أن كتابة الوشي العبقري ألف سنة: 1156هـ/1743م.

2-أنه أقر بممارسته لبعض الأنشطة خلال سنة: 1156هـ/1743م.

3-أن بعض أفراد أسرته قد أعاد إلى مكتبة ابن يوسف كتبا كان قد أعارها منها بعد توزيع تركته سنة: (1157هـ/1744م)”[10].

1 2الصفحة التالية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق