مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةشذور

حكميات عطائية

لاَ يَكُن تَأَخُّرُ أَمَدِ[1] العَطَاءِ معَ الإِلحَاحِ فِي الدُّعَاءِ مُوجِباً لِيَأسِكَ، فَهُوَ ضَمِنَ لَكَ الإِجَابَةَ فِيمَا يَختَارُ لَكَ، لاَ فِيمَا تَختَارُ لنَفسِكَ، وَفِي الوَقتِ الذِي يُرِيدُ، لاَ فِي الوَقتِ الذِي تُرِيدُ“.

مِن غيرته عليك أن جعل الإجابة والعطاء راجعة إليه، كما ابتدأت منه إليك طلبا منك، وذلك لأن عطاء الله وإجابته تابعة لوصفه، وعلمه، وحكمته، ومعرفته، وإرادته، وقدرته…،

ولقد تعددت تفسيرات العلماء لهذه الحكمة المباركة كما الحِكم الأخرى، والملاحظ أنهم يحومون حول معنى واحد لها، وكأن المتأخر يأخذ عن المتقدم، فيعيد ما قال بأسلوب سهل تقريبا للأفهام، أو يزيد عليه معاني أخرى ﴿ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء [سورة الجمعة، الآية:4].

وعند تتبع بعض الشروح التي تصدت لتبيان هذه الحكمة؛ نجد أن الشيخ ابن عجيبة الحسني قد عالجها من منظور قَـيُّومية الله تعالى؛ فبعد أن صدر كلامه بتعريف بمفردات الحكمة كعادته، قال: “اعلم بأن من أسمائه القيوم، وهو مبالغة في القيام، فقد قام الله تعالى بأمر خلقه من عرشه إلى فرشه، وعين لكل مظهر وقتا محدودا وأجلا معلوما… ﴿فإذا جاء أجلهم لا يستاخرون ساعة ولا يستقدمون﴾ [سورة الأعراف، الآية:32]”[2]

وعالجها ابن عباد النفزي من منظور التسليم لقضاء الله؛ “فحكم العبد أن لا يتخير شيئا على مولاه، لأنه جاهل من كل وجه، وقد يكره الشيء، وهو خير له، ويحب الشيء، وهو شر له.

قال سيدي أبو الحسن الشاذلي: لا تختر من أمرك شيئا، واختر ألا تختار ، وفِرَّ من ذلك المختار، ومن كل شيء إلى الله عز وجل ﴿وربك يخلق ما يشاء ويختار﴾ [سورة القصص، الآية: 68]”[3]

وعالجها مَـحمد بن زكري من منظورٍ تفسيريٍّ للقرآن الكريم من خلال مفهوم الضمان، فاستغرق منه معالجةُ الآيات القرآنية من الناحية اللغوية مع تبيان معانيها جل شرحه لها، ومن ذلك قوله رحمه الله تعالى: “الضمان المذكور في ثلاث آيات، وذكر من بينها قوله تعالى: ﴿وإذا سألك عبادي عني فأني قريب﴾ [سورة البقرة، آية: 185]، سأل أعرابي النبي صلى الله عليه وسلم، أقريب ربنا فنُنَاجِيه، أم بعيد فنُنَادِيه؟ فنزل ﴿وإذا سألك عبادي عني فأني قريب﴾ الآية، كما في التفاسير، فيقال: قضية السؤال مضت قبل النزول والشرط مستقبَل، والجواب: أن المعنى إذا ورد عليك مثل هذا السؤال، فأجب عنه بكذا.

ويستفاد منه أن ذلك الجواب جواب الماضي للمُمَاثلَة، ونُكتَةُ إخراج الكلام مَخرَجَ الشرط المستقبَل؛ استدعاء تكرير السؤال عنه تعالى، وأن ذلك محبوب عندَهُ لما فيه من الاعتناء به، وصرف الوجهة إليه، ولذلك قال ﴿عبادي﴾ بصيغة الجمع، وعبَّر بـ ﴿إذا المقتضية للتَّكرار، ولما اعتنوا به وتوجهوا إليه أضافهم إلى نفسه إضافة تشريف، وعبَّر بـ ﴿إذا  إشارة إلى أن سؤال المؤمنين عنه محقق، لوجوب معرفته عليهم، ولا شك أن قربَهُ ثابت سواء وجد الشرطُ أم لا، فليس مرتبا عليه، فلا يصلح للجوابية، ففي الكلام تقدير يرشدُ له السؤال، إذ المسؤول النبي صلى الله عليه وسلم، والله علَّمه ما يُجيبُ به، فالتقدير؛ فقل لهم، ولم يقل: إنه قريب إشارة إلى أن التقدير؛ فقل لهم: إنه يقول لكم: إني قريب، فيكون أعلم نبيه أن يُجِيبهُم، بأنه أجابهُم بأنه قريبٌ منهُم، إظهارا للاعتناء بهم، والمخاطَبُ بالآية المؤمنون، وقد عَرفوا تَنَزُّهَه عن صفاتِ الأجسام، فلا يحملون القرب على حقيقته؛ إذ هو حقيقةً في المكان المساوي، فـ ﴿قريب﴾ استعارة تبعية، شبه حاله في سرعة السماع والاجابة بحال من قَرُب مكانه، وأطلق المصدر على المصدر، ثم اشتق الوصف، والقياسُ فإني قريب من كل قريب، بدليل ﴿ونحن أقرب إليه من حبل الوريد﴾ [سورة ق، آية: 16]، ﴿ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون﴾ [سورة الواقعة، آية: 88]، لكن عبَّر بفَعيل لأن ذلك القدر هو المسؤول عنه، الثابت في السؤال…”[4]

و”العطاء هنا هو ما رفعته إليه من حاجتك، أو ما أنزلته به من مهماتك، فيما تزعم أنه عطاء، أو تظن أنه رفع بلاء، فلا يكن همك من دعائك الظفر بمطلوبك.. تكن متحكما عليه؛ فالمنع منه عطاء لمن كُشف عنه الغطاء، والبلايا حيث أشهدك تعرُّفه إليك؛ هدايا، فلا يكن تأخر ما طلبت موجبا ليأسك”[5]

فقد يتأخر الوعد لِتَخَلُّف سبب، أو شرط، أو حصول مانع، وقد يجيء هذا الوعد إشارة، أو بشارة، أو إلهاما، على صورها المختلفة في اليقظة أو في المنام، إذ الإجابة “لها أوجه ومقاصد، فمنها ما يؤخر لآخرتك، وهو الأنفع لك”[6].

وفي بعض الأخبار عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يدعو الله بالمؤمن يوم القيامة حتى يوقفه بين يديه فيقول: عبدي إني أمرتك أن تدعوني ووعدتك أن أستجيب لك، فهل كنت تدعوني؟ فيقولنعم يا رب، فيقول: أما إنك لم تدعني بدعوة إلا استجبت لك، فهل ليس دعوتني يوم كذا وكذا لِغَمّ نزل بك أن أفرج عنك ففرجت عنك؟ فيقول: نعم يا رب، فيقول: فإني عجلتها لك في الدنيا، ودعوتني يوم كذا وكذا لغم نزل بك أن أفرج عنك، فلم تر فرجا؟ قال: نعم يا رب، فيقول إني ادخرت لك بها في الجنة كذا وكذا». قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فلا يَدَع الله دعوة دعا بها عبده المؤمن إلا بين له إما أن يكون عجل له في الدنيا، وإما أن يكون ادخر له في الآخرة»، قال: فيقول المؤمن في ذلك المقام يا ليته لم يكن عجل له في شيء من دعائه»[7]

وفي الحديث عن أبي سعيد رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «ما من مسلم يدعو الله بدعوة ليس فيها مأثم، ولا قطيعة رحم إلا أعطاه إحدى ثلاث: إما أن يستجيب له دعوته، أو يصرف عنه من السوء مثلها، أو يدخر له من الأجر مثلها»[8].

والاستجابة قد تتخذ صورتين اثنتين، فقد تكون استجابة رضى وتقريب، وقد تكون استجابة سخط وإبعاد -نسأل الله السلامة-، وقد جاء في الحديث: «إن العبد ليدعو الله عز وجل وهو يحبه فيقول الله عز وجل: يا جبريل اقض لعبدي هذا حاجته وأخرها؛ فإني أحب أن لا أزال أسمع صوته، قال: وإن العبد ليدعو الله عز وجل وهو يبغضه فيقول الله عز وجل: يا جبريل اقض لعبدي هذا حاجته وعجلها؛ فإني أكره أن أسمع صوته»[9]. فالمستعجِل لطلبه المتمسك باختياره الذي لا يرضى باختيار الحق تعالى له، يكون مستدرجا[10]  من حيث يحسب أنه قد أحسن صنعا.

فإياك أن تشك في هذا الذي عولت عليه في الابتداء، وإياك أن تريد مع إرادته، وإياك أن تتجرد لما ضَمن لك، وتنسى وتُقَصر فيما طُلب منك من أداء حقوق عبادته، وإياك أن تيأس؛ إذ اليأس نوع من الشك في رحمة الله وقدرته على التفريج، وفيه إلغاء لجانب من التعرف الإلهي إليك.

فاليأس والشك عند أرباب الحقيقة من صفات الكفر وسيم المُبعَدين، ونعت الجاحدين، حيث أخبرنا سبحانه على لسان نبيه يعقوب عليه السلام حيث قال: ﴿ ولا تيأسوا من روح الله﴾ الآية، [سورة يوسف، الآية:87].

وقال في ذلك الشيخ باراس الشافعي[11]:

ففي دعا العبد إلى مولاه مكرمة        ونـيـل حـاجـتـه مـن كـل مـرغـوب

فكـن طـريـحا عـلى أبواب عزته       عن اختيارك وعن حالتك مسلوب

لا ييأس العبد من تأخير حاجته         فـالعبد للـرب بالتسلـيـم مـطـلـوب

الـــهــوامـــش

[1] في بعض النسخ “الإمداد”

[2] “إيقاظ الهمم في شرح الحكم”، ابن عجيبة الحسني، ص: 23، دار الثقافة – بيروت.

[3] “شرح ابن عباد النفزي الرندي على الحكم العطائية”، إعداد ودراسة، محمد عبد المقصود هيكل، ص: 102، مركز الأهرام للترجمة والنشر، ط 1/ 1988م.

[4] “شرح ابن زكري على حكم ابن عطاء الله السكندري”، ص:120، أطروحة دكتوراه، تحقيق ودراسة: العلمي طارق. مرقون.

[5] “شفاء السقم وفتح خزائن الكلم في معاني الحكم”، لأبي محمد علي بن عبد الله باراس، ص:130. دار السنابل ودار الحاوي، ط 1 /2016م.

[6] “شفاء السقم”، للشيخ علي باراس، ص: 131.

[7] “المستدرك على الصحيحين” للحاكم، كتاب: الدعاء، والتكبير، والتهليل، والتسبيح والذكر، 1/ 571، رقم الحديث: 1819. تحقيق: مصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية – بيروت ط1/ 1990م.

[8] “المستدرك على الصحيحين” للحاكم، كتاب: الدعاء، والتكبير، والتهليل، والتسبيح والذكر، 1/ 570، رقم الحديث: 1816.

[9] “الدعاء للطبراني”، باب: كراهية الاستعجال في الدعاء، رقم الحديث: 87 ص: 45. تحقيق: مصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية – بيروت ط1/ 1413هـ.  فرغم ما قيل في الحديث من ضعفه إلا أنه صحيح في النظر، وفي أخذ العبر.

[10] “إيقاظ الهمم في شرح الحكم” لابن عجيبة، ص: 24.

[11] “شفاء السقم”، للشيخ علي باراس، ص: 134.

Science

ذ. محمد المنصوري

باحث بمركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصة بالرابطة المحمدية للعلماء

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق