مركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصةمفاهيم

حقيقة الاختلاس والإخفاء والفرق بينهما

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

وبعد:

فقد اختلف القراء في قراءة بعض الأحرف القرائية مثل:(نِعِمَّا) و(تَعَدُّوا) و(يَهَدِّي) و(يَخَصِّمُونَ) وغيرها؛ فمنهم من قرأها بحركة خالصة، ومنهم من أسكنها، وتوسط بعض القراء بين المذهبين، فنطقوا بها بين الإسكان المحض وبين الحركة الخالصة، وعبر القراء على هذا المذهب الأخير بمصطلحات متنوعة، قال ابن الجزري وهو يتكلم عن اختلاف القراء في كلمة (يَهَدِّي)(1): «.. فروى المغاربة قاطبةً وكثير من العراقيين عن أبي عمرو اختلاسَ فتحة الهاء، وعبر بعضهم عن ذلك بالإخفاء، وبعضهم بالإشمام، وبعضهم بتضعيف الصوت، وبعضهم بالإشارة». إلا أن أكثر هذه المصطلحات تداولا في كتب القراءات: الإخفاء والاختلاس. 

فذهب كثير من المحققين أنهما بمعنى واحد ولا فرق بينهما، قال الجعبري في شرح الحرز(2) عند قول الشاطبي «وإخفاء كسر العين صيغ به حلا»: «الإخفاء هنا يريد به: إخفاء الكسرة لا الحرف، فهو مرادف الاختلاس»، وقال(3) عند قول الناظم «وأخفى العين قالون»: «ثم خص قالون بالاختلاس المعبر عنه بالإخفاء»، وقال(4) عند قول الناظم «وأخفِ حُلو برٍّ»: «ومراده بالإخفاء الاختلاس»، وقال المنتوري(5) بعدما ساق نصوصا عن المتقدمين: «قلت: عبارة المصنّفين للحروف بالاختلاس والإخفاء فيما تقدّم، معناها واحد». وقال ابن الجزري(6): «فروى المغاربة قاطبة إخفاء كسر العين ليس إلّا -يريدون الاختلاس-»، وقال(7): «وروى المغاربة عنه الاختلاس لحركة العين، ويعبّر عنه بعضهم بالإخفاء»، وقال(8) : « فالروم عند القراء غير الاختلاس، وغير الإخفاء أيضا. والاختلاس والإخفاء عندهم واحد ولذلك عبروا بكل منهما عن الآخر كما ذكروا في: (أَرِنَا)، و(نِعِمَّا)، و(يَهَدِّي)، و(يَخَصِّمُونَ)، وربما عبروا بالإخفاء عن الروم أيضا كما ذكر بعضهم في تأمنا توسعا».

وذهب آخرون إلى التفريق بينهما – حسبما يفهم من ظاهر عبارتهم -، قال أبو الطيب بن غلبون(9): «وقرأ ورش عن نافع وابن كثير وابن عامر وأبو عمرو (أَمَّن لَّا يَهَدِّي) بفتح الياء والهاء وتشديد الدال، غير أن أبا عمرو يشم الهاء شيئا من الفتح دون فتح غيره ممن ذكرته في جملته، كذلك ذكره اليزيدي، وكذلك قرأت، وقرأ قالون عن نافع بفتح الياء وإخفاء حركة الهاء مع تشديد الدال» وكذا ذكر عند قوله تعالى (يَخَصِّمُونَ). وتبعه في التفريق بين اختلاس البصري وإخفاء قالون ابنه أبو الحسن(10) ، فذكرمثل ما ذكر أبو الطيب. واستغرب ابن الجزري هذا التفريق فقال(11): « إلا أن أبا الحسن أغرب جدا في جعله اختلاس قالون دون اختلاس أبي عمرو، ففرّق بينهما فيما تعطيه عبارته في تذكرته. والذي قرأ عليه به أبو عمرو الداني الاختلاس كأبي عمرو، وهو الذي لا يصح في الاختلاس سواه». 

وقال مكي(12): «قرأ أبو عمرو وأبو بكر وقالون فنعما هي هنا وفي النساء بإخفاء حركة العين وكسر النون، وقد ذكر عنهم الإسكان، وليس بالجائز، وروي عنهم الاختلاس، وهو حسن قريب من الإخفاء»، وقال في التنبيه بعدما حكى وجه الإخفاء(13): «.. وقيل بالاختلاس وكلاهما قريب من الاخر». وقال(14) : «قرأ قالون (أَمَّن لَّا يَهَدِّي) بإخفاء حركة الهاء .. ومثله أبو عمرو، وقد ذكر عن أبي عمرو أنه إنما يختلس الحركة»، وذكر نحوه في الكلام على (يَخَصِّمُونَ). وعلق على كلامه الجعبري فقال(15):  « .. لكنه جعل الإخفاء  غير الاختلاس وهُوَ هو».

فظاهر كلام مكي أن الاختلاس والإخفاء متقاربان في المعنى، وليسا مترادفين، إلا أن بينهما فرقا دقيقا، جعل كثيرا من القراء لا يعتبره، ويجعلهما شيئا واحدا، وقد بين المالقي هذا الفرق الدقيق فقال(16) : « وقد دار هذا الكلام على إخفاء الحركة واختلاسها، فلابد من معرفة الفرق بينهما؛ إذ ليسا مترادفين بل هما متقاربان، فاعلم أن الحرف إما أن يكون للحركة به تعلق أو لا يكون، فإن لم يكن للحركة به تعلق فهو الساكن، وإن تعلقت به الحركة، فإما أن يتعلق به بعضها أوكلها، فإن تعلق به بعض الحركة فهو الذي يسمى إخفاء الحركة، وهو القدر المنطوق به في الروم عند الوقف، وفي باب الإدغام الكبير، وفي {تأمنا} على اختيار الحافظ، وإن تعلقت الحركة كلها بالحرف، فإما أن تكون ممططة، أو غير ممططة، والممططة هي الممكنة المشبعة كالذي يستعمل في قراءة ورش، وحمزة، وغير الممططة هي المختلسة، أي: الحركة السريعة، وقد يقال في الحركة مشبعة، بمعنى أنها موصولة بحرف من جنسها كالضمة في ميم الجمع على قراءة ابن كثير، ويقال فيها مختلسة بمعنى أنها غير موصولة بحركة الهاءفي (عنه) و(منه) على قراءة غير ابن كثير، فحصل من هذا أن النطق ببعض الحركة هو إخفاء الحركة، والنطق بها غير ممطة هو اختلاسها، وأن الاختلاس أمكن من الإخفاء، والتمطيط هو الإشباع وهو أمكن من الاختلاس وليس بعده إلا إثبات الصلة زائدة على التمطيط، كما أنه ليس دون إخفاء الحركة إلا الإسكان. والله أعلم». وذكر نحو هذا التفريق الحلفاوي في شرحه على الدرر(17).

وقد عرف الداني الحرف المختلس حركته فقال(18) : «وأما المختلس حركته من الحروف فحقّه أن يسرع اللفظ به إسراعاً يظن السامع أن حركته قد ذهبت من اللفظ لشدة الإسراع، وهي كاملة في الوزن، تامةً في الحقيقة، إلا أنها لم تمطط ولا تُرسِّل بها، فخفي إشباعها ولم يتبين تحقيقها». وقال في تعريف المخفى(19): «وأما المرام حركته من الحروف عند الوقف أو في حال الوصل فحقه أن يضعّف الصوت بحركته، أيَّ حركةٍ كانت، ولا يتم النطق بها، فيذهب بذلك معظمها، ويسمع لها صويتٌ خفي، يدركه الأعمى بحاسة سمعه، وهو مع ذلك في الوزن محركٌ. وكذا حق المخفى حركته من الحروف سواءٌ، قال سيبويه: المخفى بوزن المظهر. وقال غيره: هو بزنته إلا أنه أنقص صوتاً منه. وحقيقته في اللغة السترة، ومن ذلك قوله تعالى: {إن الساعة آتيةٌ أكاد أخفيها}، أي أسترها. والمخفى شيئان حرفٌ وحركةٌ، فإخفاء الحرف نقصان صوته، وإخفاء الحركة نقصان تمطيطها». فظاهر قول الداني في التحديد أن هناك فرقا بين المخفى والمختلس من خلال تعريفهما، لكنه قال في في شرح الخاقانية(20): «وأما إخفاء الحركات: فهو اختلاسها وإسراع اللفظ بها من غير إذهابها بالتضعيف أصلا، وذلك عند النحويين متحرك في الزنة، إلا أن الصوت يضعف به تضعيفا، فربما أشكل على السامع فيظن أن ذلك الحرف مسكن رأسا، وليس كذلك، بل هو في الحقيقة متحرك، غير أن الصوت لم يتم بالحركة، ولا أشبع اللفظ بها ولا مطط». فجعل الاختلاس مرادفا للاختلاس.

فمن خلال هذه النصوص يتبين أن هناك من فرّق بين حقيقة الإخفاء والاختلاس بحيث اعتبر الأول تبعيضا للحركة، واعتبرالثاني إسراعا في النطق بها تامة، وهذا التفريق وإن كان ظاهرا وجليا من حيث التنظير، إلا أنه يصعُب أداءً التفريق بينهما لكون كل واحد منهما حركة بين سكون محض وحركة مشبعة، فيظهران في السمع كأنهما حقيقة واحدة، وشيء واحد، فلذلك لم يعتبر هذا الفرق من ذكرناهم آنفا من القراء. والعلم عند الله تعالى.  

  1.  النشر 4/2357-2358.
  2.  كنز المعاني 3/1273.
  3.  كنز المعاني 3/1442.
  4.  كنز المعاني 5/2196.
  5.  شرح الدرر اللوامع 2/769.
  6.  النشر 4/2225.
  7.  النشر 4/2275.
  8.  النشر 3/1879.
  9.  الإرشاد  2/666.
  10. التذكرة 2/365.
  11. النشر 4/2360-2361.
  12. التبصرة ص189. وقد فرق بينهما أيضا في الكشف. ينظر الكشف 1/316 و402.
  13.  ينظر شرح الدرر للمنتوري 2/767.
  14. التبصرة ص231.
  15. الكنز3/1442.
  16. الدر النثير  4/219.
  17. شرح الدرر للحلفاوي ص534-546.
  18. التحديدص100.
  19. التحديد ص101.
  20. 2/ 291.

ذ.سمير بلعشية

  • باحث بمركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق