مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةدراسات عامة

نفي التساوي في القرآن الكريم من خلال بعض النماذج (الحلقة الأولى)

تمهــيد:

حظي القرآن الكريم منذ نزوله على النبي صلى الله عليه وسلم باهتمام المسلمين البالغ وعنايتهم الفائقة، إذ التفوا حوله يلتمسون منه الهدى، ولا غرابة في ذلك، فالقرآن الكريم معين لا ينضب وبحر شاسع لا ينفد.

ومن ثم كثُرت الدراسات والأبحاث حول هذا الكتاب الكريم وتعددت مشاربها وتنوعت اتجاهاتها، بين تفسير لآياته وتوضيح لأحكامه أو بيان لأسباب نزوله أو شرح لناسخه ومنسوخه أو غيرها من دراسات تتعلق بالقرآن الكريم وتدور حول علومه.

وقد أنزل الله تعالى القرآن الكريم وعالج فيه قضايا جمة على اختلافها وتعددها من خلال آياته البينات وأساليبه المتنوعة التي تكشف عن جوانب من إعجازه، وخير دليل على ذلك ما تفرد به الخطاب القرآني فقد أفاد التقرير ليقرر أمرا ما نحو قوله تعالى: «قُلِ اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ» [الرعد:18]، وأفاد كذلك النفي لينفي أمرا ما كقوله سبحانه: «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ» [الشورى:9]، وأفاد التعجب كالتعجب من أمر ما نحو قوله تعالى: «فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ» [البقرة: 174]، كما أفاد الاستفهام نحو قوله تعالى: «هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللهِ» [فاطر:3].

وفي مقالتنا هذه سنخص بالذكر الحديث عن نفي التساوي؛ حيث يوجد عدد كبير لا يعد ولا يحصى من الأمثلة على نفي التساوي في القرآن الكريم، لكن سننتقي نماذج دالةً على نفسها ويُقاسُ عليها غيرُها، وقبل الحديث عنها لابد من توطئة حول ماهية المصطلح ثم ذكر نماذج من الآيات بخصوص الموضوع.

مفهوم المصطلح: نفي التساوي:

وأما الكلمة الأولى فهي «نفي»، بإسكان  الفاء، ونَفَى الشَّيءُ يَنفي نَفْيًا: تَنَحَّى، ونَفَيْتهُ أنا نفْيًا، قال الأزهري: ومن هذا يقال نَفى شَعَرُ فُلان يَنْفي  إذا ثار واشعانَّ، ومن قول محمد ابن كعب القُرَظِي لعمر بن عبد العزيز حين استُخْلِف فرآه شَعِثًا فأدام النظر إليه فقال له عمر: ما لك تديم النظر  إلي؟ فقال: أنظر إلى ما نَفَى من شَعَرك وحال من لونك؛ ومعنى نفى هنا أي ثار وذهب وشَعِثَ وتساقط، وانتفى شعر فلان ونفى إذا تساقط، والسّيل يَنفي الغثاء: يحمله ويدفعه؛ قال أبو ذؤيب يصف يراعا:[1]

سَبِيٌّ مِنْ أَبَاءَتِهِ نَفَاهُ /// أَتِيٌّ مَدَّهُ صُحَرٌ وَلُوبُ

ونَفى الرجل عن الأرض ونَفَيْتُه عنها: طردته فانْتَفَى[2]، يقال نفيت الرجل وغيره أنفيه نفيا إذا  طردته، قال الله تعالى: «أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ».[3]، و«النَّفْي» خلاف الْإِيجَاب وَالإِثْبَات [4]، قال أبو الفتح المُطَرِّزي: النَّفْيُ خلاف الإثبات، ومنه: المنفي نَسَبُها[5]، ومثله المُنَافَاةُ أي هذا الشيء ينافي ذلك أي يَنْفِي بعضهما بعضا[6].

واصطلاحا تستعمل كلمة نفي استعمال كلمة جحد، وقد عرف الجحد بأنه ما انجزم بلم لنفي الماضي، وهو عبارة عن الإخبار عن ترك الفعل في الماضي، فيكون النفي أعم منه، وقيل الجحد: عبارة عن الفعل المضارع المجزوم بلم، التي وضعت لنفي الماضي في المعنى وضد الماضي.[7]

وأما الكلمة الثانية فهي التساوي من «س وي»: سَاوَاهُ مُسَاوَاةً مَاثَلَهُ وَعَادَلَهُ قَدْرًا أَوْ قِيمَةً وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ هَذَا يُسَاوِي دِرْهَمًا أَيْ تُعَادِلُ قِيمَتُهُ دِرْهَمًا [8]، «واسْتَوَيا وتَساوَيا»: أَي «تَماثَلا»، فَهَذَا فِعْلٌ أُسْنِدَ إِلَيْهِ فاعِلانِ فصاعِداً، تقولُ: «اسْتَوى زيْدٌ وعَمْرٌ ووخالِدٌ فِي كَذَا»، أَي؛ تَساوَوْا، وَمِنْه قوْله تَعَالَى: «لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ» .[التوبة: 19]

وسَوَّيْتُهُ بِهِ تَسْوِيَةً وسَوَّيْتُ بَيْنهما: عَدَّلْت، وساوَيْتُ بَيْنهما مُساواةً؛ مِثْله. يقالُ: ساوَيْتُ هَذَا بذاكَ إِذا رَفَعْته حَتَّى بَلَغَ قَدْرَه ومَبْلَغَه؛ وقوْلُه تَعَالَى: «حَتَّى إِذا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا» [الكهف: 96]؛ أَي سَوَّى بَيْنهما.[9].

وفعل الاستواء لا يكون إلا بين شيئين أو أكثر، فلا يصح أن تقول: «يستوي زيدٌ» وتسكت، ولا أن تقول: «ما ساوَى عمروٌ» وتسكت.

وفي الاصطلاح هو: أن ينفي الشارعُ المساواةَ بين شيئين فيدل ذلك على نفي استوائهما في كل وجهٍ ممكن. ومثاله: قول الله تعالى: «لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ»[الحشر:20] حيث نَفَى الباري سبحانه وتعالى المساواة بين المسلمين والكافرين، فدل على انتفاء اشتراكهما في كل حكمٍ ممكن، فاقتضى هذا التعميم أنه لا يقتل المسلم بقتله الذِّمِّي.[10]

أدوات النفي عند النحاة مع أمثلتها:

أدوات النفي كثيرة، وأصل النفي هو لا، ولهذا ينفى بها في أثناء الكلام [11]، ولا شك أنها أشهر أدوات النفي وأكثرها استعمالا، لذا نجد الجرجاني يعرفه بقوله: «هو ما لا ينجزم بــ «لا»»[12].

وأدوات النَّفْي في النحو كلمات تدل على أَن الخبر غير واقع مثل (لَا) و (مَا) و (لم) و (إِن) و (لَيْسَ) و (غير)[13]، ونورد بعضا من أمثلتها:

– (ما) كقوله تعالى: «مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ» [فاطر:13]

‌- (لا) كقوله تعالى: «لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا»[فاطر: 36]

‌- (لن) كقوله تعالى: «لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ»[آل عمران: 91]

‌- (لم) كقوله تعالى: «لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ»[النساء: 136]

– (لمَّا) كقوله تعالى: «وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ» [الحجرات: 14]

– (إِنْ) كقوله تعالى: «إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ» [المجادلة:2]

– (ليس) كقوله تعالى: «لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ» [النور: 59]

– (الاستفهام) أحياناً، كقوله تعالى: «هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ» [الرحمن: 59]

– (غير) كقوله تعالى: «إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ»[الزمر:11] أي: بلا حساب.

أمثلة على نفي التساوي:

والأمثلة والشواهد من القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة على ذلك كثيرة، منها:

قوله تعالى: « لاَ يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ »، [الحشر: 20]، فالآية قد دلت على عدم  المساواة بين المؤمن والكافر، وقوله تعالى: «وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى» [آل عمران: 36]، فالآية قد حكمت بعدم مماثلة الذكر للأنثى، وفي قوله تعالى أيضا: «أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا لاَّ يَسْتَوُون». [السجدة: 18]، فالآية قد حكمت بعدم مساواة المؤمن للفاسق.

ومثال نفي التساوي من السنة النبوية: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، حَدَّثَنَا مُطَرِّفٌ، أَنَّ عَامِرًا، حَدَّثَهُمْ، عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ، قَالَ: قُلْتُ لِعَلِيٍّ: حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ الفَضْلِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، حَدَّثَنَا مُطَرِّفٌ، سَمِعْتُ الشَّعْبِيَّ، يُحَدِّثُ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا جُحَيْفَةَ، قَالَ: سَأَلْتُ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ  مِمَّا لَيْسَ فِي القُرْآنِ؟، وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ مَرَّةً: مَا لَيْسَ عِنْدَ النَّاسِ؟ فَقَالَ: «وَالَّذِي فَلَقَ الحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ مَا عِنْدَنَا إِلَّا مَا فِي القُرْآنِ إِلَّا فَهْمًا يُعْطَى رَجُلٌ فِي كِتَابِهِ، وَمَا فِي الصَّحِيفَةِ» قُلْتُ: وَمَا فِي الصَّحِيفَةِ؟ قَالَ: «العَقْلُ، وَفِكَاكُ الأَسِيرِ، وَأَنْ لاَ يُقْتَلَ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ»، فالنبي حكم بعدم مساواة الكافر للمسلم في القصاص.[14]

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

[1] ديوان أبي ذؤيب الهذلي، تحقيق وشرح انطونيوس بطرس، ص:21، مِنْ أَبَاءَتِهِ: وردت في الديوان: يراعته.

[2] لسان العرب، محمد بن مكرم بن منظور الأفريقي المصري، 15/336.

[3] لسان العرب، 15/337.

[4] المعجم الوسيط، إبراهيم مصطفى ـ أحمد الزيات ـ حامد عبد القادر ـ محمد النجار، 2/943.

[5] المغرب في ترتيب المعرب، المطرزي، 2/320.

[6] شمس العلوم ودواء كلام العرب من الكلوم، نشوان بن سعيد الحميرى اليمني،10/6708.

[7] التعريفات، علي بن محمد بن علي الزين الشريف الجرجاني ، ص:74.

[8] المصباح المنير في غريب الشرح الكبير، أحمد بن محمد بن علي الفيومي ثم الحموي، أبو العباس، 1/298.

[9] تاج العروس، الزبيدي، 38/325.

[10] تحفة المسؤول في شرح مختصر منتهى السول، أبو زكريا يحيى بن موسى الرهوني، 3/124.

[11] البرهان في علوم القرآن، أبو عبد الله بدر الدين محمد بن عبد الله بن بهادر الزركشي.2/379.

[12] التعريفات،  1/245.

[13] المعجم الوسيط، 2/943.

[14] فتح الباري بشرح صحيح البخاري، أحمد بن علي بن حجر أبو الفضل العسقلاني،  12/261.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق