مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةدراسات عامة

حدث بدء نزول الوحي وما فيه من المعاني الأخلاقية والتربوية

     وكذلك الشأن في ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (لقد خشيت على نفسي)، فقد اختلف العلماء في المراد من قوله صلى الله عليه وسلم منها ما لا يصح، وقد رده العلماء المحققين لما فيه من انتقاص لمقام الحبيب صلى الله عليه وسلم، وقد ذكر ابن حجر هذه الأقوال وانتقد كل ما يخالف القاعدة المقررة المذكورة، ومن هذه الأقوال التي وضعها على مشرحة الانتقاد قول أحدهم أن معنى: (لقد خشيت على نفسي)، الجنون وأن يكون ما رآه من جنس الكهانة، جاء مصرحا به في عدة طرق، لكن هذا الفهم ذكر ابن حجر أن ابن العربي أبطله، وعلق على ذلك بقوله: “وحق له أن يبطل”،[4] ومن هذه الأقوال الباطلة: الهاجس، قال ابن حجر: “وهو باطل أيضا لأنه لا يستقر وحصلت بينهما المراجعة”،[5] فأنت ترى صرامة العلماء المحققين المحبين للجناب المحمدي، الذين يستحضرون عظم مكانة الحبيب صلى الله عليه وسلم، وينزهونه من كل نقص وعيب، كيف لا والله سبحانه وتعالى هو من نزهه وعظمه وأعلى قدره بقوله تعالى: (وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ) [القلم/4].

     ثانيا: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما كان يتعبد لم يكن ينتظر الوحي أو شيئا من هذا القبيل بل كان يؤدي حق العبودية لله تعالى، حتى فاجأه الوحي، فهو لم يكن متشوفا للرسالة، ولا متطلعا لشيء ما من خلال خلوته وعبادته، بل كان ذلك اصطفاءا إلاهيا مخصوصا لرسوله الكريم، والسؤال المطروح هنا كيف يمكن أن نستفيد من حدث الوحي في عصرنا الحالي؟ فالجواب يكمن في عبادة الله تعالى حق العبودية، وعدم التشوف إلى أي حظ من الحظوظ سوى ابتغاء وجه الله سبحانه وتعالى، وقد صار العارفون بالله تعالى على هذا المنوال فعبادتهم وتربيتهم لنفوسهم لم تكن لنيل أو طلب حظ من الحظوظ النورانية التي هي: “التفات السالك إلى اللذات الاخروية الجنانية، وإلى الكرامات والتجليات والوصال، وغير ذلك من المقامات والأحوال، لأن السالك ما دام في قلبه شيء من الأشياء فهو محجوب بذلك الشيء عن الحق”،[6] بل يعتبرون ذلك من أشد الحجب، وقد عبروا عن ذلك  بقولهم: “الحجب النورانية أشد من الحجب الظلمانية”، لذلك كانت عبادتهم وتربيتهم خالصة لله تعالى من أي حظ ومن أي تشوف لغير الله سبحانه وتعالى.

     ثالثا: فضل العلم وفضل الصبر عليه، فأول ما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم هو قوله تعالى: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) [القلم/1]، فتلقي العلم ليس بالشيء السهل، خصوصا إذا كان مقرونا بالعمل والخشية، فقد قال بعض السلف: إنما العلم الخشية، فالعالم هو الذي يخشى الله سبحانه وتعالى، قال الله عز وجل: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ ﴾ [فاطر: 28]؛ قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: “أي إنما يخشاه حقَّ خشيته العلماءُ العارفون به؛ لأنه كلما كانت المعرفة للعظيم القدير العليم الموصوف بصفات الكمال المنعوت بالأسماء الحسنى، كلما كانت المعرفة به أتَم، والعلم به أكمل، كانت الخشية له أعظم وأكثر”.[7] وقد تنافس العلماء كل في تخصصه في إبراز أهمية تخصصه الذي ينتمي إليه، وكل ذلك حسن مرغوب فيه، لكن يعد علم التصوف أشرف العلوم لأن “شرف الشيء بشرف مُتعلَّقِه، ولا أشرف من متعلق علم التصوف، لأن مبدأه خشية الله التي هي نتيجة معرفته، ومقدَّمة اتباع أمره”،[8] ولأن نسبة التصوف من الدين نسبة الروح من الجسد لأنه مقام الإحسان الذي هو أن تعبد الله كأنك تراه، فالاهتمام بهذا العلم خصوصا في عصرنا الحالي يقي المجتمع من الجفاف الروحي، ويعطي للإنسانية الأمل في المحبة والتعايش.

     رابعا: أن مكارم الأخلاق سبب في السلامة من المكاره ومصارع السوء، فالسيدة خديجة رضي الله عنها طمأنت النبي صلى الله عليه وسلم، وخففت عنه من خوفه الشديد، وذكرته بأفعال الخير والإحسان ومكارم الأخلاق والصفات الحميدة التي يتمتع بها وأن ذلك لا يأتي إلا بالخير، وهذا ما يجب أن تكون عليه الأمة، فمستقبلها يجب أن يكون مبني على الخير والإحسان ونهج طريق الأخلاق حتى تؤسس لحياة روحية مثمرة في العاجل والآجل.

الصفحة السابقة 1 2 3الصفحة التالية
Science

د.مصطفى بوزغيبة

باحث بمركز الإمام الجنيد التابع للرابطة المحمدية للعلماء

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق