مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةدراسات عامة

حدث بدء نزول الوحي وما فيه من المعاني الأخلاقية والتربوية

     حدث بدء الوحي من الأحداث المهمة التي يجب على كل إنسان أن يتأملها ويجيل النظر فيها، لأن فيها معان سامية وقواعد هامة تثبت عظمة الدين الإسلامي، ومكانة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، والمسار الذي يجب أن نسير عليه حتى تتحقق أهداف الدعوة الأخلاقية والروحية التي جاءت بها الرسالة المحمدية.

     وفيما يلي حديث السيدة عائشة رضي الله عنها تخبرنا فيه كيفية بدء الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم: (أَوَّلُ ما بُدِئَ به رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِنَ الوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّالحةُ في النَّوْمِ؛ فَكانَ لا يَرَى رُؤْيَا إلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ، ثم حبب إليه الخلاء، فكانَ يخلو بغار حِرَاء فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ -وهو التَّعَبُّدُ اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ العَدَدِ- قبل أن ينزع إلى أهله، ويَتَزَوَّدُ لذلكَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إلى خَدِيجَةَ فَيتزَوّدُ لِمِثْلِهَا، حتَّى جاءه الحَقُّ وهو في غَارِ حِرَاءٍ، فَجَاءَهُ الملكُ، فَقالَ: اقْرَأْ، قالَ: “ما أنَا بقَارِئٍ”، قال: “فأخَذَنِي فَغَطَّنِي حتَّى بَلَغَ مِنِّي الجَهْدُ، ثُمَّ أرْسَلَنِي فَقالَ: اقْرَأْ، َقُلتُ: ما أنَا بقَارِئٍ، فأخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حتَّى بَلَغَ مِنِّي الجَهْدُ، ثُمَّ أرْسَلَنِي فَقالَ: اقْرَأْ، فَقُلتُ: ما أنَا بقَارِئٍ، فأخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ، ثُمَّ أرْسَلَنِي فَقالَ: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم) [العلق/1-3] فَرَجَعَ بهَا رسول الله صلى الله عليه وسلم يرْجُفُ فؤاده، فدَخَلَ علَى خَدِيجَةَ بنت خويلد رضي الله عنها، فَقالَ: “زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي”، فَزَمَّلُوهُ حتَّى ذَهَبَ عنْه الرَّوْعُ، فَقالَ: لخَدِيجَةُ، وأَخْبَرَهَا الخَبَرَ، “لقدْ خَشِيتُ علَى نَفْسِي”، فَقالَتْ خديجة: كَلَّا، وَاللَّهِ ما يُخْزِيكَ اللَّهُ أبَدًا؛ إنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وتَحْمِلُ الكَلَّ، وتكسب المعدوم، وتَقْرِي الضَّيْفَ، وتُعِينُ علَى نَوَائِبِ الحَقِّ، فانْطَلَقَتْ به خَدِيجَةُ حتَّى أتَتْ به ورَقَةَ بنَ نَوْفَلِ بنِ أسَدِ بنِ عبدِ العُزَّى ابنُ عَمِّ خَدِيجَةَ؛ وكانَ امْرَأً قد تَنَصَّرَ في الجَاهِلِيَّةِ، وكانَ يَكْتُبُ الكِتَابَ العَبراني، فَيَكْتُبُ من الإنجيل بالعبرانية ما شَاءَ اللَّهُ أنْ يَكْتُبَ، وكانَ شَيْخًا كَبِيرًا قدْ عَمِيَ، فَقالَتْ له خَدِيجَةُ: أيِ ابْنَ عَمِّ، اسْمَعْ مِنَ ابْنِ أخِيكَ، فَقالَ له ورَقَةُ: ابْنَ أخِي، مَاذَا تَرَى؟ فأخْبَرَهُ رسول الله صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ خبر ما رَأَى، فَقالَ له ورَقَةُ: هذا النَّامُوسُ الذي نزَّل الله علَى مُوسَى، يا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا، ليتني أكُونُ حَيًّا إذ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ، فَقالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: “أوَمُخْرِجِيَّ هُمْ؟” قالَ: نَعَمْ؛ لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بمِثْلِ ما جِئْتَ به إلَّا عُودِيَ، وإنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا، ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ ورَقَةُ أنْ تُوُفِّيَ وفَتَرَ الوَحْيُ).[1]

     واختلف العلماء في تحديد مدة فتور الوحي، أكثرها ثلاث سنوات، وقيل: ستة أشهر، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: أن مدة الفترة المذكورة كانت أياما.[2]

العبر والعظات:

     أولا: مقام النبي صلى الله عليه وسلم منزه عن كل نقص وعيب، وعن كل شيء يمكن أن يسيء إلى الحبيب صلى الله عليه وسلم، وهي قاعدة أخلاقية هامة، قال القاضي عياض: “لا خفاء على من مارس شيئا من العلم، أو خُص بأدنى لمحة من الفهم، بتعظيم الله قدر نبينا صلى الله عليه وسلم وخصوصه إياه بفضائل ومحاسن ومناقب لا تنضبط لزمام، وتنويهه من عظيم قدره بما تكل عنه الألسنة والأقلام”،[3] لذلك فكل ما يردنا من أخبار وروايات يجب عرضها على هذه القاعدة أولا، فإن عارضتها فحينها نشكك في مصداقية هذه الأخبار والروايات وإن اشتهرت، فالعبرة في الصحة وليس في الكثرة، وهذه قاعدة عظيمة يجب المصير إليها في مثل هذه الروايات والأخبار والقصص، والقاعدة الثانية هي الرجوع إلى أحسن الأقوال، وأفضل تأويل فيه علو لمقام التشريف وتنزيه النبي صلى الله عليه وسلم فيما يُعرض من أقواله صلى الله عليه وسلم المحتملة، وقد عمل العلماء بهذه القاعدة وخير دليل على ذلك ما صنعه القاضي عياض في كتابه الشفا بتعريف حقوق المصطفى صلى الله عليه وسلم، فعلى الباحث في السيرة النبوية أن يجعل هذه القاعدة صوب عينيه ليزن بها كل الروايات والقصص والأخبار التي ترد عليه.

      ومن هذه الأخبار والروايات الباطلة زعمهم أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فتر عنه الوحي وبسبب الحزن أراد أن يتردى من الجبل، -أي أن ينتحر- وكلما أراد ذلك منعه جبريل، وهذه شبهة لا تليق بالجناب المحمدي الشريف لعدة أسباب، منها: أنه لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن صحابته الكرام في ذلك شيء، ثانيا: أن الزيادات التي في الحديث هي من أقوال الزهري وهو من البلاغات المقطوعة السند، وليست على شرط االبخاري، ثم إن البخاري ذكر حديث نزول الوحي أكثر من مناسبة في صحيحه ولم يذكر شيئا من ذلك.

1 2 3الصفحة التالية
Science

د.مصطفى بوزغيبة

باحث بمركز الإمام الجنيد التابع للرابطة المحمدية للعلماء

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق