مركز ابن البنا المراكشي للبحوث والدراسات في تاريخ العلوم في الحضارة الإسلاميةقراءة في كتاب

تلخيص كتاب العلوم والتقنية في العالم الإسلامي

تقديم:

يعتبر هذا الكتاب في الأصل مدخلا للدراسة والبحث في “العلوم والتقنية في العالم الإسلامي”، وهو كتاب من ضمن المجلدات الخمس التي أصدرها البروفيسور فؤاد سيزكين المتعلقة بمشروعه الفكري حول إحياء التراث العلمي والمعرفي للحضارة العربية الإسلامية.

في هذا الكتاب يطرح سيزكين بعض الومضات الإستشراقية المنصفة والتي لم تؤثر على التيار المتطرف الذي تجاهل دور العرب والمسلمين الحضاري، القائل في حقهم، أنهم مجرد نقلة ومترجمين مباشرة دون تمحيص و دون تجديد لعلوم الأوائل.

لقد تمكن سيزكين أن يضع في هذا الكتاب مجموعة من النظريات العلمية شملت جميع المعارف من فيزياء، وكيمياء، وطب، وجغرافيا، ورياضيات، وفلسفة، وفنون أدبية، وقد رتبها بحسب الحقبة الزمنية التي أنتجت فيها، مبرزا أهمية العقلية العربية الإسلامية التي أسهمت بحكمة وتبصر لم تعرف لها مثيل الأمم المجاورة، في عملية النقل، والترجمة، والتحليل، والتركيب، والنقد البناء، والإنتاج المبني على الدقة والتجريب.

بعد هذه الصحوة العلمية المتميزة التي عرفتها البيئة الثقافية العربية الإسلامية على جميع المستويات المعرفية، يفصح لنا الدكتور فؤاد سيزكين في القسم الثاني من هذا الكتاب عن عملية النقل الشاملة للعلوم الإسلامية من طرف الأوروبيين ويختصرها في ثلاث محطات جغرافية: أولى المحطات، بدأت من إسبانيا الإسلامية، وثاني هذه المحطات، جاءت من صقلية وجنوب إيطاليا، أما المحطة الأخيرة فانطلقت من بيزنطة المسيحية.

في ما يخص القسم الثالث والأخير من هذا الكتاب، ناقش فيه الدكتور سزكين موضوع بداية الركود وأسباب التراجع العلمي والمعرفي التي عرفته الأمة الإسلامية خلال منتصف القرن السادس عشر، حيث تكرس بشكل فعلي في بداية القرن السابع عشر، هذا القرن الذي تركت فيه هذه الأمة العظيمة الريادة و القيادة في الإبداع العلمي والمعرفي والفلسفي إلى العالم الغربي.

أولا: تطور العلوم في العالم الإسلامي من القرن ١هـ /٧م إلى القرن١٠هـ /١٦م

  •  القرن ١هـ /٧ م

       أصبح المسلمون بعد عمليات الفتوحات الكبرى على اتصال دائم بالأمم التي كانت خاضعة للإمبراطوريات القديمة الرومانية منها والبيزنطية، فازدادت رغبتهم إلحاحا نحو استيعاب علوم هذه الأمم ومعرفة التقنيات المستعملة، رغبة منهم نحو انتقال جديد وصناعة ظروف مواتية لكل المواطنين سواء كانوا مسلمين أم غير مسلمين.

وتعتبر بداية العصر الأموي سنة  ٤١هـ/ ٦٦١ م مرحلة أولى لهذا التوارث العلمي، بحيث ترجمت فيه أول مخطوطة في الكيمياء القديمة التي تعود للعالم الكيميائي الإغريقي “زوسيموس”   ) ٣٥٠-٤٢٠م)  تمت سنة (٣٨ هـ / ٦٥٨م)، إضافة إلى اشتغال مجموعة من الأطباء المسيحيين داخل بلاط الخلفاء الأمويين – ك- “ابن أثال” و”أبو الحكم” في عهد معاوية ( حكم ٤١ هـ / ٦٦١ م ــ٦٠هـ / ٦٨٠ م )، وقد ترجم أول كتاب طبي في عهد الخليفة الأموي مروان الأول( حكم  ٦٤هـ / ٦٨٣ م ــ  ٦٥هـ / ٦٨٥ م ) الذي ألفه باللغة الإغريقية الراهب “أهرون” الذي ترجمه “جوسيوس” إلى السريانية قبل أن ينقله من هذه الصيغة إلى العربية الطبيب اليهودي “ماسرجويه البصري” فاحْتُفِظَ بهذه الترجمة في مكتبة الخليفة “عمر بن عبد العزيز” (حكم ٩٩هـ / ٧١٧ م ــ ١٠١ هـ / ٧٢٠ م) الذي أتاح للجمهور قراءتها والانتفاع منها. وفي هذا القرن أيضا برز الأمير الأموي” خالد بن يزيد” (توفي ١٠٢هـ / ٧٢٠م) كأول عربي في تاريخ العلوم، حيث اشتغل بالكيمياء وألف فيها وعمل على ترجمة كتب في الكيمياء القديمة وأحكام النجوم، فمن بين كتب النجوم التي شجع على ترجمتها “خالد بن يزيد”، “كتاب الثمرة” المنسوب زَيْفاً إلى “بطلميوس”، استفاد منه العالم الفلكي أبو الريحان البيروني واعتمد عليه خلال أبحاثه الفلكية.

يَعْتبِر المستشرق “فرانتس روزنتال” أن الحافز الذي دفع المسلمين في هذه المرحلة للأخذ بالعلوم الأجنبية لم يكن مرتبطا بالمنفعة العملية ولا بالمنفعة النظرية، بل بالدوافع الإيجابية الذي أكدته مضامين الدين الإسلامي الواضحة، مبرزة دور “العلم” كمحرك رئيسي للحياة الدينية والحياة الإنسانية بشكل عام. 

  •    القرن ٢هـ / ٨ م

عرف النصف الثاني من هذا القرن عملية أخذ واسعة النطاق من هذه الثقافات المجاورة وقد حظيت المناطق المفتوحة والناطقة باللغة الفارسية مكانة بارزة جدا عند العرب المسلمين، فمرحلة عهد الساسانيين مثلا وبالذات تحت حكم “شابور الأول” (حكم ٢٤٢هـ / ٢٧٢م) عرفت العلوم اليونانية والهندية في مجالات الفلك وعلم أحكام النجوم والرياضيات والجغرافيا والطب انتعاشا مهما دفعت بالعرب المسلمين إلى إجراء عملية أخذ متسارعة لهذه العلوم، ففي مجال الفلسفة تم نقل بعض أجزاء كتاب “الأرغانون” لأرسطو على يد “عبد الله بن المقفع” ( توفي ١٣٩هـ / ٧٥٦م) من ترجماتها الفارسية إلى العربية، ومن قبل هذا العمل تم تنقيح الجداول الفلكية من كتاب القانون “لبطليموس” على أساس جداول هندية بطلب من الملك “يزدجريد الثالث”( حكم ٦٣٢هـ / ٦٥١م)، ترجمت تحت عنوان زيج الشهريار على غالب الاحتمال في النصف الأول من القرن الثاني هجري إلى العربية، فكان لها الأثر على تشجيع العلماء العرب والمسلمين على الاشتغال مبكرا وبشكل كبير بعلم الفلك.

أما فيما يخص علم الطب فقد استمر المركز العلمي الساساني “جندسابور” حتى زمن الخليفة العباسي المأمون (حكم  هـ ١٩٨/ ٨١٣م ــ ٦١٨هـ / ٨٣٣م ) حيا ونشيطا في دراسة وممارسة الطب، ويروى أن “جرجيس بن بختيشوع” الذي كان رئيسا للأطباء في مستشفى جندسابور وصاحب مؤلفات طبية عديدة استدعي من طرف الخليفة “المنصور”(حكم ١٣٢ هـ /٧٥٤ م ــ ١٥٨هـ/ ٧٧٥ م) إلى بغداد ليعالجه من مرض في المعدة، وقد عمل علاوة على ذلك بترجمة كثير من الكتب الطبية من الإغريقية إلى العربية.

في النصف الأول من القرن الثاني الميلادي ــ الثامن الهجري عرفت فروع علم اللغة تطورا هاما تمثل في جمع وترتيب الشعر العربي القديم، توصل “الخليل بن أحمد الفراهيدي”(ولد ١٠٠هـ/٧١٨م ــ١٧٣هـ/ ٧٩١م ) في تطوير علم المعاجم والنحو وتأسيس علم العروض ونظرية الموسيقى، ويعتبر كتابه الضخم “العين” مرجعا أساسيا في علم المعاجم.

وترجمت كذلك في النصف الثاني من القرن ٢هـ / ٩ م كتبا مهمة شملت علوم الفلك والكيمياء كان أبرزها  كتاب (سدهانتا) للعالم الفلكي الهندي “براهما غوبتا” من اللغة السنسكريتية إلى اللغة العربية، وقد قام بمهمة ترجمة هذا الكتاب الضخم وبأمر من الخليفة “المنصور” العالم الفلكي والمنجم العربي “محمد بن إبراهيم الفزاري” ( القرن 3هـ/ 9 م) الذي هو من أواخر ممثلي علم الفلك الساساني في العهد الإسلامي، وتماشيا مع هذا المنحى سعي الوزير والعالم الفلكي يحيى بن خالد البرمكي (ولد  ١٢٠هـ / ٧٣٨ م،توفي  ١٩٠هـ /٨٠٥ م) إلى ترجمة كتاب “المجسطي” إلى العربية الذي يعتبر من أعظم الكتب الفلكية في العصر القديم.

  •  القرن٣ هـ /٩ م

أخذت عملية تطور العلوم العربية الإسلامية في الخمس الأول من القرن  ٣هـ /٩م طابعا جديدا؛ دخلت من خلاله مرحلة الإبداع الحقيقية، وقد عرفت مرحلة الخليفة “المأمون” تنظيما محكما لعمل العلماء وتسهيل انجازاتهم داخل مؤسسة “بيت الحكمة”، فأنجزت كثير من الأعمال التي شارك بنفسه في تفعيلها، ومنها نجد التصحيحات التي قام بها فلكييه بطلب منه لبيانات”” “بطلميوس” التي كانت قد نقلت إلى العربية في زمن الترجمة الأولى لكتاب “المجسطي”  وإعادة نشر النتائج تحت عنوان “الزيج الممتحن”، ومن بين الأعمال التي أجراها الخليفة مع فلكييه قياس فرق الطول بين بغداد ومكة لتحديد القبلة بأكبر دقة ممكنة، بالإضافة إلى المحاولات العديدة التي قاموا بها خلال قياسهم لمحيط الكرة الأرضية والوصول إلى نتيجة لا تختلف عن القيمة الحديثة اختلافا كبيرا.

دفع اهتمام الخليفة “المأمون” بعلم الفلك إلى إقامة مرصدين الأول في حي الشماسية في بغداد والثاني على جبل قاسيون في دمشق وعمل على تجهيزهما بأدق الآلات الكبيرة من أجل القيام بالأرصاد الفلكية للوصول إلى نتائج أدق، ويعتبر المأمون هو أول من قام بتأسيس دُور رصد بالمفهوم الضيق للكلمة في التاريخ، وعلى أساس هذه المشاريع التي أسسها “المأمون” اكتسب المجال الثقافي العربي خبرة لا بأس بها في مجال الجغرافيا والكرتوغرافيا.

أما بالنسبة للرياضيات وبعد ترجمة كتاب “السند هند” من اللغة السنسكريتية إلى اللغة العربية في النصف الثاني من القرن الثاني الهجري، حققت تقدما مهما، حيث شهدت بعد ذلك خصوصا في العقديين الأوليين من القرن الثالث الهجري- التاسع الميلادي إثراءا جديدا من خلال ظهور ثلاث مؤلفات في الجبر تعود هذه المؤلفات لكل من “محمد بن موسى الخوارزمي” و”سند بن علي” و”عبد الحميد بن واسع بن ترك” وكان عنوان كتبهم “في الجبر والمقابلة” فلأول مرة تعالج المعادلات الجبرية ذات الدرجة الأولى والثانية المستقلة عن الحساب، وقد لعب كتاب الجبر للخوارزمي بعد ترجمته إلى اللاتينية أثرا عميقا على الرياضيات في الغرب منذ القرن ١٢ م.

في النصف الثاني من هذا القرن كذلك برزت علامات الاستقلالية في الإبداع في مجال علم الفلك بسبب الإنجازات التقنية التي تم التوصل إليها، كصناعتهم  لساعات الظل  و الاشتغال عمليا بطرق صنع الساعات الشمسية، والتي عن طريقها توصل الكندي إلى استخراج السمت بطريقة مختلفة عن سلفه بطليموس. واكتشف “ثابت بن قرة”(توفي ٢٨٨هـ/ ٩٠١م) وحفيده “إبراهيم بن سنان” الطريقة الحسابية لطبيعة انحناء خطوط الساعات المحددة بالنقط في الساعات المستوية، هذه الإثباتات تم التوصل إليها فيما بعد بقرون كل من العالمين “كريستوف كلافيوس”( ١٥٣٧م- ١٦١٢م) و”جون بابتست دلامبير”(١٧٤٩م- ١٨٢٢م ). كما تمكن “نصر الدين الطوسي”( توفي ٦٧٢هـ / ١٢٧٤م ) من حساب قيمة نقطتي الاعتدال التي تقترب جدا من القيمة الحديثة ونجح  البيروني(  ٣٦٥هـ /٩٧٣ م ــ ٤٤٠هـ / ١٠٤٨م )  أيضا في نهاية القرن الرابع الهجري التوصل إلى تحديد أدق لأعلى درجة تسارع حركة الأوج الشمسي وتباطئه. وفي الربع الأخير من هذا القرن تم اختراع الآلات الفلكية الأولى فكان من بينها الإسطرلاب الكروي الذي يعتبر “جابر بن سنان الحراني” أول مخترعي هذه الآلة العجيبة.

وفي هذا القرن عرف الطب تطورا هاما مع وجود أطباء معاصرين كان أهمهم أبو بكر الرازي (ولد٢٥١هـ/٨٦٥م ــ توفي ٣١٣هـ/٩٢٥م)، صاحب  الكتاب الضخم”الحاوي”  الذي ضم كل المعارف الطبية منذ أيام الإغريق حتى عام (٩٢٥م) وظل المرجع الرئيس في أوروبا لمدة٤٠٠ عام بعد ذلك التاريخ. زيادة على هذا الإنجاز العظيم فقد أشار الخبير المشهور في تاريخ الطب عند المسلمين “يوليوس هرشبيرج” أن الرازي في كتابه المسمى “الطب المنصوري” هو أول من قال بأن عدسة العين تضيق حينما يسقط عليها الضوء بالإضافة إلى مجموعة من الانتقادات التي وجهها لـ “جالينوس” و”أقليدس” في نظريتهما حول الإبصار القائلة ( بأن الإبصار يحصل بصدور الشعاعات من العين). ولم تقتصر أبحاث هذا العالم الكبير في الطب فقط، بل شملت مجال العلوم الكيميائية والفلكية والرياضيات والمنطق والأدب.

  • القرن٤ هـ/ ١٠م

توصل “إبراهيم بن سنان”(٤هـ/١٠ م) في القرن الرابع بأن ميل دائرة البروج غير ثابت،  وقد نوقشت مسألة دوران الأرض في أواخر القرن الثالث الهجري كما نوقشت كذلك إمكانية مركزية الشمس، فقال”جعفر بن محمد بن جرير” معاصر “السجزي” بدوران الأرض وصنع كل منهما أسطرلابات تشتغل على هذا الأساس.

في مجال الفلك صنع “جعفر محمد بن الحسين الخازن”  الآلة الهامة المسماة “زيج الصفائح” لاستخراج درجات أطوال الكواكب آليا بدون اللجوء إلى عمليات حسابية. وفي مجال الرياضيات كان “الخازن” أول عالم قام بـ – حل المعادلات التكعيبية من الدرجة الثالثة هندسيا بواسطة قطوع المخروط، ومن أهم رياضي هذا القرن نجد كذلك “محمد بن الحسن الكرجي” الذي كان على علم بصيغة الأس الرابع، و”أبو الوفاء محمد بن محمد البوزجاني”( ولد  ٣٢٨هـ /٩٤٠م ــ ٣٨٨هـ / ٩٩٨م ) صاحب مقالة استخراج الجذور بما فيها الدرجة السابعة، وأيضا نجد “أحمد بن إبراهيم الأقليديسي” الذي عالج الكسور العشرية وهو أول بحسب ما يقول من كتب حول الأعداد التكعيبية والجذور التكعيبية. وكان من كبار رياضي هذا العصر أيضا “أبو سهل ويجن بن رستم الكوهي”(توفي ٣٩٠ هـ/  ١٠٠٠م) الذي واصل محاولات أسلافه في مجال حساب النهايات، وخلّف حلاً ظريفا لمسألة الزاوية بواسطة قطع زائد، ومن خلال اشتغاله المكثف بالمنحنيات من الدرجة الثالثة توصل إلى اختراع آلة “البركار التام” لقطوع المخروطات، كما بحث عن تفسير هندسي للمسألة الفيزيائية ــ الهندسية للحركة الدائمة اللامتناهية على خط متناه وأقر بوجود هذه الحركة متخذا تفسيرا يناقض ما قال به أرسطو بأنه لا يمكن وجود حركة دائمة على خط محدود.

في مجال الطب كان التطور الذي قاده الأطباء العلماء من قبل هذا القرن أظهر مراجع شاملة للطب منها: كتاب – كامل الصناعة الطبية- “لعلي بن العباس المجوسي” و- التصريف لمن عجز عن التأليف- “لأبي القاسم خلف بن عباس الزهراوي” و- المعالجات الأبقراطية- “لأبي الحسن أحمد بن محمد الطبري”، وقد ترجم “قسطنطين الإفريقي” في القرن١١عشر الكتاب الأول “لابن العباس المجوسي” إلى اللاتينية فبقي متداولا في أوروبا على أنه من إنتاج المترجم لكنه ظهر في سنة١١٢٧بترجمة أخرى تعود إلى “اصطفن الأنطاكي”، أما بالنسبة إلى كتاب “الزهراوي” فقد ترجم في القرن١٢م الفصل الثلاثون المحدد في موضوع الجراحة والفصل الثامن والعشرون منه في الأدوية إلى اللاتينية عن طريق “جيرارد الكريموني”، ويمكن اعتبار بحق أن هذا الكتاب كان من بين الكتب انتشارا في أوروبا في ذلك الوقت، ومن أهم الإنجازات العلمية لهذا القرن وفي ميدان الطب أيضا نجد كتاب “مصالح الأبدان والأنفس” “لأبي زيد أحمد بن سهل البلخي” (توفي  ٣٢٢هـ/  ٩٣٤م) هذا المؤلَّف برز كممثل مبكر لطب الأمراض العضوية و النفسية. ومن أهم التطورات العظيمة التي تحققت في هذا القرن نجد تطور طب العيون على يد ” عمار بن علي الموصلي” الذي اعتبر في نظر المستشرقان “مايرهوف” و”هيرشبرج” من الأوائل اللذين أبدعوا في قدح العين (الكتراكتا).

   ظهرت في هذا القرن أيضا كتب بارزة في تاريخ العلوم نستحضر منها كتاب – الفهرست “لمحمد بن أبي يعقوب إسحاق بن النديم” (توفي ٤٠٠هـ/ ١٠١٠م)، يهدف هذا الكتاب إلى تسجيل المؤلفات العلمية للبيئات الثقافية المعروفة، كما نجد أيضا كتاب “طبقات الأطباء والحكماء” للطبيب الأندلسي “سليمان بن حسين بن جلجل”(ولد ٣٣٢هـ/٩٤٣ــ٣٨٣هـ/ ٩٩٤م)، وكتاب “الأغاني” “لأبي الفرج أحمد بن الحسين الأصفهاني”( توفي٣٥٢ هـ/٩٦٧م) بمجلداته الأربعة والعشرين.

  • القرن ٥هـ/ ١١م

في هذا القرن نمت النقاشات حول التصور البطليموسي لمراكز مدارات الأفلاك هل هي موحدة أم مختلفة المركز، فجاءت التصورات تختلف من عالِم إلى آخر بحسب النتائج المتوصل إليها، فـ – في القرن السابق عن هذا القرن قام “جعفر محمد بن حسين الخازن” بتصميم نموذج موحد للمركز رفض فيه نظرية خروج المركز وأفلاك التدوير، لـ – يأتي بدلا من ذلك بتنويعات لكل مدار من مدارات الأفلاك بالنسبة لدائرة فلك البروج، ثم ناقش بعدها في نهاية القرن الرابع “أبو نصر بن عراق” الفكرة القائلة بمدارات أفلاك بيضاوية ذات فروق طفيفة جدا بين طول المحوريين وإمكانية عدم التماثل الحقيقي للمدارات، لكن اقتناعه ارتبط بالحركة المستمرة والمماثلة. أما التحول الجذري في هذا النقاش والذي تزامن مع النصف الأول من القرن الخامس الهجري فقد جاء مع العالم الكبير أبي علي بن الهيثم ( ٣٥٤هـ/ ٩٦٥م ــ ٤٣٢هـ/١٠٤١م) في كتابه حول “الشكوك على بطلميوس” الذي وضح فيه تصور بطلميوس لنظام مدارات السيارات، واعتبر النماذج  التي اقترحها بطلميوس لهذا النظام غير صحيحة ولا وجود لها في الواقع. وكان من معاصري “ابن الهيثم” كذلك العالم الموسوعي “أبو الريحان محمد بن أحمد البيروني”(ولد ٣٦٢هـ/٩٧٣م ـ٤٤٠هـ/ ١٠٤٨م) الذي قام إلى جانب مجموعة من مؤلفات عديدة في مواضيع متفرقة تأليف كتاب أساسي لعلم الفلك سماه”القانون المسعودي” أسهم فيه بتطوير مجموعة من الإنجازات منها أولا حسابه لبعد أوج الشمس عن موقع نقطة الاعتدال الربيعي، ثانيا استخراج تسارع وتباطؤ الحركة في الحضيض باستخدام التفاضلات من الجداول فكان لهذا العمل تمهيدا حقيقيا لحساب النهايات.

       وقد شهد هذا القرن في مجال الرياضيات إنجازات عظيمة ظهرت في كتب “ابن الهيثم” و”البيروني”. في كتاب هذا الأخير “القانون المسعودي” وهو الكتاب الأساسي في الفلك، استطاع البيروني أن يعرض فيه اثني عشر طريقة لتقسيم الزاوية إلى ثلاثة أقسام متساوية، ثم حسابه للدائرة بواسطة مضلع رباعي يحيط كل منهما بالآخر، إلى غير ذلك من الإنجازات العظيمة التي تم التوصل إليها من خلال العلماء الغربيين فيما بعد. كما نجد أيضا عند “ابن الهيثم” أن القضية الرياضية- البصرية المسماة باسم problema alhazeni لها مكانة مهمة في تاريخ الرياضيات· وفي مجال الهندسة عالج ابن الهيثم نظرية المتوازيات لأقليدس محاولا إثبات الفرضية الخامسة من كتاب “الأصول” بواسطة مبدأ الحركة الذي يقوم في النهاية على افتراض أن “الخطوط ذات البعد الثابت عن خط مستقيم هي بدورها خطوط مستقيمة”. ولعب أيضا في هذا المجال “محمد بن الليث أبو الجود” الرياضي المعاصر لابن الهيثم دورا مهما في صيغ المعادلات من الدرجة الثالثة فوضع حلول متنوعة لها. ثم ساير العالم الرياضي عمر الخيام في النصف الثاني من القرن الخامس الهجري هذا النجاح الذي عرفه سابقوه، فقدم في كتابه الهام في الجبر يحمل عنوان “البراهين على مسائل الجبر والمقابلة” والذي قام بنشره ودراسته وترجمته إلى الفرنسية قبل مائة وخمسين سنة المستشرق الفرنسي فرانس فوبكه، في هذا الكتاب يقدم “الخيام” ٥٢ نوعا من المعادلات منها ١٢ بسيطة أو من الدرجة الثانية والباقية من الدرجة الثالثة التي يمكن حلها بالقطوع المخروطية التي يعالجها بانتظام، كذلك ينبه “عمر الخيام” إلى أن المعادلات التكعيبية التي لاترجع إلى معادلات تربيعية لا يمكن عموما أن تحل بخواص الدائرة (البركار – المسطرة)، وقد أثبت صحة هذه الفكرة فيما بعد كل من رينيه ديكارت (١٦٣٧م) و”بيير لوران وانتسل”(١٨٣٧م).

       كانت العلوم الطبيعية في القرن ٥هـ/١١م متطورة في علمي البصريات والآثار العلوية (الميتيورولوجيا: وهو علم يتناول الجو وظواهره، ودرجات الحرارة، والكثافة، والرياح والسحب، وهو ما يسمى بالأرصاد الجوية). لقد توصل العالم “ليوبولد شنازه” سنة ١٨٩٠م إلى وضع تقييم رائع لكتاب المناظر لابن الهيثم على أساس الترجمة اللاتينية ليضع مقارنة بين كل من إنجازات “ابن الهيثم” في القرن الحادي عشر الميلادي وبين إنجازات “بطلميوس” في القرن الثاني الميلادي. فبين أن الفضل يعود إلى خطوات هامة ومتقدمة في علم البصريات “لابن الهيثم” الذي يعتبر في نظر “شنازه” أول فيزيائي أخذ تركيب العين في اعتباره، وطور على أساس هذا العلم نظرية إبصار مفصلة تؤدي بالرغم من افتراضات غير صحيحة عن وظائف العدسة البلورية إلى نتائج تتطابق مع النظريات الحديثة، وأول من تطرق إلى حساب ارتفاع طبقة الجو وأبحاث الكرات المحرقة من أي فيزيائي سابق عليه.

و بهذا يمكن القول أن “ابن الهيثم” هو من قام بأعظم تحول في أسس علم البصريات الذي مهد الطريق لأبحاث جديدة تم التوصل إليها في العصر الحديث.

من أهم الإنجازات العلمية في مجال الطب خلال هذا القرن، كتاب “القانون في الطب”  والموسوعة الكبيرة في العلوم الفلسفية والعلوم الدقيقة “كتاب الشفاء” للعالم والفيلسوف الإسلامي الكبير”أبي علي بن سينا” (توفي ٤٢٨هـ/ ١٠٣٨م). فكتاب “القانون” كما يصفه المستشرق “هيرشبيرج”  هوعبارة عن نظام تعليمي للطب كله بما فيه الجراحة، واسع جدا ومتكامل متميز بانتظامه ودقته ولا يكاد يوجد له مثيل في تاريخ المؤلفات العالمية، هذا الكتاب الذي ظل صالحا لمدة خمسة قرون، ترجم في القرن الثاني عشر إلى اللاتينية واستمر تأثيره على الطب في الغرب حتى القرن السابع عشر، أما كتابه الثاني الضخم والموسوعي “الشفاء” فيشمل نظرية مبادئ الأجسام الطبيعية وعمارة العالم والنشوء والفناء والنشاط والألم في الطبيعة وعلة الآثار العلوية والجغرافيا وعلم النفس وعلم النبات والحيوان والرياضيات والفلك والموسيقى والفلسفة والمنطق، هذا الكتاب تم ترجمته في القرن الثاني عشر إلى اللاتينية على يد العالم “يوهانس هِسْبَنْيِنْسِس” والذي كان له الأثر في تطور العلوم في الغرب على مدى قرون عديدة.

  • القرن٦هـ/١٢م

استطاع العالم الفلكي العربي “الزرقالي” في منقلب القرن الخامس الهجري إلى القرن السادس الوصول إلى قياس أدق بكثير لمس الحركة الذاتية لأوج الشمس التي تتراوح في معدل ٠٩‚١٢ثانية، وذلك ما يعادل تقريبا القيمة الحديثة ٤٦‚١١ثانية. وقد اخترع هذا العالم الكبير نوعا جديدا من الإسطرلاب حمل إسمه “الصفيحة الزرقالية” تلك الآلة التي عرفت انتشارا واسعا في أوروبا تحت اسم “توركيتوم”، وفي نفس الزمن تقريبا اخترع “شرف الدين الطوسي”  (توفي ٦٠٦هـ/ ١٢٠٩م) آلة أخرى هي عبارة عن إسطرلاب سميت باسمه “عصا الطوسي”. وقد تم خلال هذا القرن في القسم الأندلسي ظهور نقاش حاد حول النظريات الفلكية من بعض الفلاسفة المشهورين ضد النظام البطلميوسي، من أبرزهم “محمد بن يحيى بن باجّة ” (توفي ٥٣٣هـ/١١٣٩م) و”محمد بن عبد الملك بن طفيل” (توفي٥٨١هـ/ ١١٨٥م)  و”محمد بن أحمد بن رشد” ( توفي ٥٩٥/ ١١٩٨) وتلميذ بن طفيل نور الدين البطروجي ( حوالي ٦٠٠هـ /   ١٢٠٠م)، حيث وجدوا أن مبدأ الإطراد  في حركة السيارة يختل بنظرية خارجية المركز وتدوير الأفلاك، فتفقوا على إقامة هذا المبدأ كأساس لنظريتهم الخاصة.

 في شرق العالم الإسلامي وفي مجال الرياضيات لعب شرف “الدين الطوسي” دورا مميزا في قضايا المعالجات المنتظمة للمعادلات من الدرجة الثالثة، أما في غرب العالم الإسلامي يمكن ذكر مرة أخرى اسم الفلكي الأندلسي “جابر بن أفلح” وانتقاداته الموجة لكتاب بطلميوس”المجسطي” التي كان لها دور مؤثر على الغرب، وقد ألف رجيومونتانوس(١٤٣٦/١٤٧٦م) كتابه باللاتينية “de triangulis omnimodis” الذي جاءت فصوله الأولى متطابقة حرفيا مع كتاب “جابر بن أفلح”.

لقد لعب في مجال الفيزياء والتقنية كتابين هامين المكانة الريادية داخل الثقافة العربية الإسلامية في القرن ٦هـ/۱۲م. أول الكتب نجد “ميزان الحكمة” لعبد الرحمن الخازني” (كتبه ٥١٥  هـ/۱۱۲۱م) والثاني “الجامع بين العلم والعمل النافع في صناعة الحيل” “لأبي العز إسماعيل بن الرزاز الجزري” ( كتبه نحو٦٠٠هـ/۱۲٠٠م). أما في مجال الجغرافيا فقد أنجز العام الجغرافي الكبير”أبي عبد الله محمد بن محمد بن عبد الله الإدريسي”(٤٩۳ هـ/۱۱٠٠م ــ ٥٥٩هـ / ۱۱٦٦م) حينما نزل ضيف عند ملك النورمان “روجر الثاني  “(حكم ۱۱۳۰م/ ۱۱٥٤م) خريطة دائرية للعالم على صفيحة فضية و٧۰ خريطة جزئية وكتاب لجغرافيا العالم بعنوان” نزهة المشتاق في اختراق الآفاق”، بالإضافة إلى كتب أخرى تشمل مفردات العلوم الطبية بجميع اللغات الأجنبية. وقد عرف هذا القرن كذلك تقدما في مجال التقنية الحربية، ويأتي ذلك من خلال كتاب مهم في هذه التقنية عّرفه “كلود كوهين” للمختصين سنة ۱٩٤٨ كان قد ألفه في زمن “صلاح الدين الأيوبي”(٥٦٩هـ/ ۱۱٧٤م ـ ٥٨٩هـ/ ۱۱٩۳م) العالم “مرضى بن علي بن مرضى الطرسوسي” عنوانه “تبصرة أرباب الألباب” يصف فيه قوس كبير مصنوع من طبقات كثيرة ملصقة من الخشب وعظم القرون يمكن أن يشده رجل واحد أو إثنان بفضل تركيب دولاب أو دلابين فيها، هذه الأقواس التي كانت لها مكانة هامة في الغرب خلال القرن الثالث عشر، لأن هذه الأسلحة الفعالة هي التي دفعت المسلمين خلال الحروب الصليبية الدفاع عن أنفسهم بها.

  •  القرن ٧هـ/ ۱۳م

تميزت مرحلة هذا القرن بسمة الإبداع والتطور في جميع المجالات العلمية، بالإضافة إلى تنظيم الفروع العلمية المأخوذة عن الأجيال السابقة لتصبح لأول مرة على صورة فروع علمية معرّفة تعريفا دقيقا وتعالج معالجة جديدة مع مراعاة ما تم تحقيقه من قبل. وقد ترتب عن هذا القرن انجازات مهمة في مجال الفلك تجلت بدايتها في إقامة دار الرصد في مراغة في جنوب شرق بحيرة أرمية حولي سنة ( ٦٥هـ/ ۱۲م( بتوكيل من مؤسس المملكة المنغولية الغربية “هولاكو”، وتحت إشراف العالم الفلكي الكبير “نصر الدين الطوسي”، في هذا المرصد صنعت لأول آلات ضخمة كانت ذات أهمية كبيرة في تاريخ الرصد في البيئة الثقافية العربية الإسلامية التي أثرت في البيئة الغربية خلال منتصف القرن السادس عشر.

   ومن الكتب التي أبقت على تنظيم أعمال السلف وتوسيعها نجد كتاب “نصر الدين الطوسي” في “الشكل الإقطاعي” الذي رسخ فيه حساب المثلثات كعلم مستقل، إلى جانب دوره في تطوير المتوازيات الهندسية التي قادت في القرن ١٨ إلى الهندسة اللاأقليدية. وفي الغرب الإسلامي عرف مجال الجغرافيا الرياضية إنجازات هامة كان لبعضها أهمية في المستقبل، من أهمها وصف طريقة استخراج فرق الزمان بين الأماكن التي وضعها العالم العربي “أبو الحسن المراكشي”(ولد حوالي ٦٠٠هـ/ ١٢٠٣م ــ ٦٨٠هـ / ١٢٨٠م)، وعن طريق هذه الحالة الخاصة الموصوفة لاستخراج الأطوال الجغرافية التي استعملها المراكشي، فلقد ترك لنا من خلالها جداول إحداثيات لنحو ١٣٠مكانا تحتوي على درجات عرض مصححة ودرجات طول مصححة تصحيحا كبيرا لمدن ساحلية على البحر الأبيض ومدن أخرى في الجزيرة الأيبيرية وفي شمال إفريقيا مما يمكّن التحقق من أن طول البحر الأبيض قد صحح بنحو١٩° مقارنة بجغرافيا بطلميوس، وبنحو ٨° مقارنة بنتيجة جغرافي المأمون  فأصبح يقترب من القيمة الحديثة بفارق ٢° أو ٣°.  كما عرف هذا القرن أيضا نشوء الخرائط الصحيحة بالتمام والتقريب للبحر الأبيض المتوسط وللبحر الأسود، تلك الخرائط التي تسمى في الكرتوغرافيا الحديثة بـ “الخرائط المينائية”. ولتدعيم نوع وجودة القدرات الكرتوغرافية في العالم الإسلامي في القرن السابع هجري هناك وثيقة يعود الفضل فيها إلى العالم المسلم والطبيب الفارسي “قطب الدين الشيرازي (توفي ٧١٠هـ/ ١٣١١م) في إطار المسائل الجغرافية، يتحدث “قطب الدين” في فحوى كتابه الفلكي “التحفة الشهية في الهيئة” عن الرسم الكرتوغرافي للمعمورة وعن صعوبة إدخال التفصيلات الهامة في مساحات الرسم الصغيرة، فيقترح لهذا الغرض طريقة عملية لتصميم خريطة مبسطة نموذجية للبحر الأبيض، فرَسَم البحر الأبيض مع البحر الأسود في مستطيل مقسم إلى ١٢٠٠ مربع. وبالتالي كانت لهذه البيانات التي قدمها “قطب الدين” أهمية في النصف الثاني من القرن ٢٠م حين قام بعض المستعربين  بصنع نموذج لمثل هذه الخريطة عليها. كان لهذا التقدم الساطع الذي تحقق في العالم الإسلامي في القرن ٧هـ / ١٣م وفي مجال الكرتوغرافيا تطور هائل في علم المعاجم الجغرافية مع الأديب والعالم اللغوي من أصل رومي “ياقوت بن عبد الله الرومي الحموي”( ولد ٥٧٤هـ/  ١١٧٨م ــ وتوفي ٦٢٦هـ/ ١٢٢٩م) الذي انعكس اهتمامه المعجمي في مجال الجغرافيا في كتابين هامين، أولهما “المشترك وضعا والمفترق صقعا” احتوى الأماكن الجغرافية مشتركة التسمية. والآخر “معجم البلدان” وهو قمة ما وصل إليه فرع المعاجم الجغرافية من تطور مستمر في العالم الإسلامي منذ القرن ٤هـ /   ١٠م.

أما في مجال الطب فقد لاحظ مؤرخ الطب “ل.لكلارك” أن عصر هذا القرن عرف ازدهارا في هذا المجال، تمت فيه لأول مرة اكتشاف الدورة الدموية الصغيرة بواسطة العالم العربي المسلم “علي بن أبي الحزم ابن النفيس القرشي”(توفي ٦٨٧هـ /١٢٨٨م)، وكذا اهتمامات عالم الطبيعة البارع “عبد اللطيف بن يوسف بن محمد البغدادي( ولد ٥٥٧هـ/ ١١٦٢م ــ وتوفي ٦٢٩هـ / ١٢٣٢م) أثناء دراساته التشريحية لآلاف من الهياكل العظمية والتي بَيَّن أغلاط وعدم دقة أسلافه خصوصا جالينوس. فمثلا يجد البغدادي في أبحاثه أن الفك السفلي للإنسان يتكون من عظمة واحدة لا من عظمتين متصلتين عند الذقن كما رأى جالينوس. وفي ظل هذه الإنجازات الضخمة المتحققة في البيئة الثقافية الإسلامية الخاصة توصل أحمد بن القاسم “بن أبي أصيبعة”(توفي ٦٦٨هـ/ ١٢٧٠م) أن يكتب في إطار إمكانياته تاريخا عالميا للطب وضعه في كتاب مهم سماه “عيون الأنباء في طبقة الأطباء” عرّف فيه أن لكل أمة تاريخها الخاص لنشوء الطب وأن لكل أمة طبها الخاص وأن كل طب يحل مكان الآخر مع مرور القرون.

وفي مجال العلوم الإنسانية كان للإنجاز الكبير الذي حققه “يوسف بن أبي بكر السكّاكي” (ولد ٥٥٥هـ/١١٦٠م ــ وتوفي ٦٢٦هـ/ ١٢٢٩م) في الفرعين المتداخلين من علم اللغة “علم البيان” و”علم المعاني” أهمية كبيرة، حيث تم ترجمتهما فيما بعد إلى اللغة الألمانية.

أيضا عرفت مناحي التدوين التاريخي العربي الإسلامي تطورا مهما في الربع الأول من هذا القرن بحيث نشأ التاريخ الضخم “لعز الدين علي بن محمد بن الأثير”( ولد ٥٥٥هـ/١١٦٠م ــ ٦٣٠هـ/ ١٢٦٠م) صاحب كتاب” الكامل في التاريخ” الذي عالج فيه تاريخ العالم الكامل منذ خلقه حتى سنة ٦٢٨هـ/١٢٣١م.

       وأخيرا لم ينل هذا القرن أيضا حظه من العلوم التقنية، بحيث أن الاهتمام بالدفاع ضد هجمات الصليبين دفع بالمسلمين إلى مواصلة عملية تطوير الآلات الحربية، فتوصلوا إلى صنع الأسلحة النارية باستعمال البارود، كما يمكن أن يقال أن العرب خلال هذه المرحلة قاموا باستخدام القنابل اليدوية لأول مرة في التاريخ.

  • القرن ٨هـ/ ١٤م

لم يفقد هذا القرن ٨هـ/۱٤م مكانته العلمية داخل المدينة العربية الإسلامية كما روج له بعض الحاقدين، بل عرف الامتداد الحضاري المشع من روافد العالم الإسلامي نشاطا علميا شمل مجالات علمية متعددة. وقد عرف علم الفلك خلال هذا القرن تجديدا مهما حظيت فيه مسألة الإخلال بمبدأ تماثل حركة السيارات الناتج عن نظرية بطلميوس التي كان لها نصيب من الاهتمام والتجديد على يد علماء مسلمين سبقوا هذا القرن كـ “بن الهيثم” و”نصير الدين الطوسي”، وبناءا على هذا النهج ساير العالم الفلكي والرياضي المشهور “علي بن إبراهيم الشاطر” (توفي ٧٧٧هـ/۱۳٧٥م) أسلافه مما مكنه من وضع نظرية جديدة في علم الفلك، حيث نجح في وضع نموذج جديد لحركة القمر فكان نجاحه باهرا أفضل من نماذج أسلافه، حينما أعاد رسم حركة القمر الدائرة المماثلة ليصحح بها خطأ بطلميوس المبالغ فيه حول تغير بُعْدِ القمر عن الأرض. وقد بيّن البحث الحديث أن كل نظريات “بن الشاطر” وأسلافه ومعاصريه من الفرس وصلت للعالم الفلكي “كوبرنيكوس”( ١٤٧٣م – ١٥٤٣م) بوساطة بيزنطية عن طريق تبريز ومراغة مرورا بطرابزون والقسطنطينية، وتأثر بها تأثرا شديدا مكنته من وضع تصور جديد للكون.

 وفي مجال الرياضيات ظهر في هذا القرن ٨هـ/١٤م تطور معتبر شمل معرفة واستخدام رموز جبرية، نجدها خصوصا عند علماء المغرب الإسلامي لكل من الرياضي المسلم “بن البنا المراكشي” (ولد ٦٥٤هـ/١٢٥٦م- ٧٢١هـ/١٣٢١م) في كتابه “رفع الحجاب” و أيضا  عند “ابن منعم العبدري”( توفي٦٢٦هـ )في كتاب “فقه الحساب”، وقد قام “ابن البنا” بإنجاز هام  في علم الرياضيات شمل صيغة تقريبية لاستخراج الجذر التربيعي، ومن يدري أن الطريقة التي اعتمدها خوان كارلوس أورتيجا (١٥٦٨م) لاستخراج الجذر التكعيبي لها صلة بالصيغة التقريبية لابن البنا المراكشي المغربي.

وفي مجالات الفيزياء والتقنية  يخبر المؤرخ خليل بن أيبك الصفدي (توفي ٧٦٤هـ/١٣٦٣م)  أن “بن الشاطر” صنع ساعة هامة كانت قائمة عموديا على جدار ولها شكل قنطرة وقياس يبلغ نحو ¾ ذراع، تدور في الليل و النهار بلا رمل ولا ماء ، تابعة لحركة السماء وبصورة منتظمة وكانت تعطي الساعات المستوية والزمانية. هذا المعطى الوصفي يقود بدون شك إلى احتمال أنه ربما كانت توجد ساعة ميكانيكية تعمل بالأثقال في ذلك الوقت. أما بالنسبة لعلم البصريات فقد عرف إبداعا مع أهم شخصيات البيئة الثقافية الإسلامية في هذا القرن، إنه “كمال الدين محمد بن الحسن الفارسي”( ولد ٦٦٥هـ/١٢٦٧م ــ ٧١٨هـ/ ١٣١٨م) في شرحه الهائل على مناظر “ابن الهيثم”  في كتابه “تنقيح المناظر لذوي الأبصار والبصائر” ومن أهم ما جاء في هذا الكتاب تفسيره لظاهرة  تكون قوس قزح التي كانت ذا أثر حاسم في التاريخ، كما أن له أبحاث مهمة  في مجال البصريات مثلت نظريته في صورة الحدقة. ويرى “ماتياس شرام” أن “كمال الدين” رفض تفسير “جالينوس” لأنه لا يتفق مع مبادئ البصريات وأنه أول من اكتشف بوضوح الإنعكاس من السطح الخارجي للعدسة وفسره في إطار نظريته تفسيرا ممتازا. وأن النتيجة التي توصل إليها هي نفسها التي لم يتوصل إليها مجددا إلا سنة ١٨٢٣مع “يوهانس إفانجللستا بوركينيه”.

وقد ظهر في إسبانيا الإسلامية عدد من المؤلفات الطبية إثر مرض الطاعون المدمر الذي أصاب دول المتوسط الغربية عام (٧٤٩هـ/ ١٣٤٨م) نذكر منها “مقنعة السائل عن المرض الهائل” “لمحمد بن عبد الله الخطيب” ( ولد ٧٤٩هـ/ ١٣١٣م ــ وتوفي ٧٧٦هـ/١٣٧٤م) وكتاب “الغرض القاصد في تفصيل المرض الوافد” لأحمد بن خاتمة ( توفي حوالي٧٧٠هـ/١٣٦٩م) وكتاب “لمحمد بن علي الشقوري”( ولد ٧٢٧هـ/ ١٣٢٧م) “تحقيق النبأ عن أمر الوبأ”، وقد رأى المستشرق الألماني “ماكس مايرهوف” أن الرسائل الطبية العربية في مرض الطاعون كانت متفوقة على جل الكتب الطبية التي عالجت هذا الموضوع في أوروبا بين القرن ١٤م و١٦م تفوقا كبيرا. وفي مجال الجغرافيا أيضا عرف الغرب الإسلامي جداول نوعية وجديدة من خلال عملية الضبط الرياضي لسطح الأرض ورسمه الكرتوغرافي، فكان من أبرزها الجدول الهام للفلكي والرياضي الأندلسي “محمد بن إبراهيم بن الرقام”(٧١٥هـ/ ١٣١٥م) والذي يبين فيه أن التصحيح الأندلسي – المغربي الجذري لدرجات الطول كان قد تم تطبيقه على جزء أكبر من المعمور وأن طول البحر الأبيض خفض إلى ٤٤° وبالتالي أصبح لا يزيد عن القيمة الحديثة إلا بدرجتين فقط. ومن المساهمات الجليلة في هذا المجال نجد الكتاب الضخم عن رحلات الرحالة المغربي محمد بن عبد الله بن بطوطة( ولد ٧٠٣هـ /١٣٠٤م – ٧٧٠هـ / ١٣٦٩م )، إلى جانب هذه الإنجازات نلاحظ ظهور الموسوعات الضخمة الأولى في النصف الأول من هذا القرن، من أبرزها ” مناهج الفكر ومباهج العبر” التي ألفها “جمال الدين محمد بن إبراهيم الوطواط”( ولد ٦٣٢هـ/ ١٢٣م – توفي ٧١٨هـ/ ١٣٣٢م) تشمل مجالات السماء والأرض ومملكتي الحيوان والنبات. وقد تأثر بهذه الموسوعة المؤرخ المصري “شهاب الدين أحمد بن عبد الوهاب النويري”( ولد ٦٧٧هـ/١٢٧٩م – ٧٣٢هـ/١٣٣٢م) الذي قام بتأسيس موسوعته ” نهاية الأرب في فنون الأدب”  الواقعة في ٣٠ مجلدا، سعى من خلال هذه الموسوعة إلى تجميع المعارف الضرورية للكاتب أو الموظف الإداري، بالإضافة إلى إدخاله مجال (فن) التاريخ مع المجالات ( الفنون) التي نقلها من الكتاب السابق مكنته من إدماج الأحداث والإنجازات المتعلقة بالبشر. وفي هذا العصر أيضا ظهر كتاب مهم داخل البيئة الثقافية الإسلامية شكل أحد أكبر الإنجازات المرتبطة بالعلوم الإنسانية. إنه كتاب “المقدمة” للعلامة “عبد الرحمن بن محمد بن خلدون”( ولد ٧٣٢هـ/١٣٣٢م – ٨٠٨هـ/ ١٤٠٦م) ، هذا الكتاب الذي يحمل أفكار هامة وأساسية لنواحي علم الاجتماع وفلسفة التاريخ ونظرية الاقتصاد والجغرافيا، وعلم وصف الإنسان(الأنتروبولوجيا)، وعلم النفس وتاريخ العلوم، إنه بحق كتاب أثار اهتمام العلماء الغربيين فيما بعد.

  • القرن٩هـ/١٥م    

كانت النشاطات العلمية في العالم الإسلامي تتماشى مع المراحل الزمنية والمكانية بشكل مستمر على الرغم من العقبات السياسية التي ظهرت في جزء من هذه الرقعة الجغرافية وغيابها في جزء آخر، فالنشاطات التي برزت في هذا القرن كانت ذات أهمية خاصة في مجال الفلك والرياضيات. في النصف الأول من هذا القرن في بلاد ما وراء النهرين عمل رجل الدولة “ألغ بك محمد تورغاي”(ولد ٧٩٦هـ/١٣٩٤م – وتوفي ٨٥٣هـ/١٤٤٩م) على جعل مدينة سمرقند عاصمة الحضارة الإسلامية، استطاع أثناء عمله مع الفلكيين اكتشاف آلالات جديدة وقوية، فبنى في سمرقند مرصداً وجهزه بجميع الآلات والأدوات التي كانت معروفة في زمانه، وكان هذا المرصد يعد في ذلك الوقت إحدى عجائب الدنيا، جمع فيه عدداً من كبار العلماء الفلكيين والرياضيين مثل قاضي “زاده الرومي” توفي (نحو ٨٤٠هـ/١٤٣٦م) و”غياث الدين بن مسعود الكاشي”(٨٣٢هـ/١٤٢٩م). الذي تبوأ مكانة هامة في تطوير الآلات الفلكية، بالإضافة إلى إنجازه في مجال الفلك من خلال وضعه زيجه الواسع بعنوان”الزيج الخاقاني” سنة ٨١٦هـ/ ١٤١٣م. وفي مجال الرياضيات تبوأ “الكاشي” مكانة هامة من خلال مجموعة من الإنجازات نأخذ على سبيل المثال علم الجبر، حيث اشتغل بشكل مكثف بمعادلات الدرجة الرابعة، ففي كتابه “مفتاح الحساب” يروى أنه كان يعرف ٧٠ نوعا( في الحقيقة ٦٥) من معادلات الدرجة الرابعة، وفيه أيضا يعطي أمثلة هامة لاستعماله قواعد جمع المتواليات العددية والهندسية من الدرجات العالية. وقد أثار المؤرخ الرياضي “فرانتس فوبكه” في أواخر القرن التاسع عشر حين أعلن نهاية دراسته، أن “الكاشي” كان في حسابه في الجيب ١° استعمل طريقة دقيقة لم يعرفها الغرب قبل “فرانسوا فيت”( ١٥٤٠م/١٦٠٣م). أما غرب العالم الإسلامي فقد عرفت فيه الرموز الجبرية تطورا بلغت قمتها في كتاب ” كشف المحجوب من علم الغبار” لأبي الحسن علي بن محمد القلصادي” (توفي ٨٩١هـ/ ١٤٨٦م)، بحيث يبين في هذا الكتاب المعادلات التي ترمز إلى الأس الأول والثاني والثالث المجهول بالحروف الأولى لكل من كلمة “شىء” و”مال” و”كعب”، مع ظهور هذه الرموز فوق المعامل.

أما مجال الجغرافيا لهذا القرن فقد وصل إلى مستوى أفضل من التقدم، تبين من خلال  الرحلات التي قام بها البحارة البرتغالين الأوائل وعلى رأسهم البحار المشهور “فاسكو دا جاما”، والتي كانت ذات طبيعة تجارية وسياسية، غير أنهم استطاعوا من خلال هذه المهام أن يحضروا أكبر عدد من الخرائط المصنوعة في المناطق المعنية يعود أغلبها إلى البحارين العرب أو غيرهم من المسلمين إلى البرتغال تم نقلها إلى البرتغالية واستنسخوها ثم قدموها بحسب مفهومهم وذوقهم، ويمكن ذكر أهم إنجاز يعود الفضل في اكتشافه وحفظه من طرف البرتغاليين والذي تم بمساعدة إسهامات كرتوغرافيا البيئة الثقافية العربية الإسلامية. إنه الأطلس الجاوائي الذي وقع في أيدي البرتغاليين بُعَيد احتلالهم لملَقّة سنة ١٥٢١م. وقد رسل “ألفونصوى دي البوقرك” إلى الملك “إيمانوئيل الأول”. واصفا له في هذه الرسالة الطرق البحرية التي تسلكها السفن وأسماء الأماكن مكتوبة بخط جاوة…إلخ، وقسم من نسخة  خريطة كبيرة صنعها معلم من بحاري جاوة.

ومن إنجازات هذا القرن كذلك نجد موسوعتين تعكسان مستوى تطور هذا العصر. إحداهما  في فن الإنشاء بعنوان ” فن الأعشى في كتابة الإنشاء” ألفها كاتب الدولة المصري “شهاب الدين أحمد بن علي القلقشندى”( ولد ٧٥٦هـ/١٣٥٥م ــ وتوفي ٨٢١هـ/١٤١٨م) في عشرة أجزاء رئيسية تقع في أربعة عشر مجلدا. في هذه الموسوعة يبين بوضوح أهم الوثائق لتطور المجتمع العربي الإسلامي منذ ٨٠٠ وازدهاره الثقافي في جميع مناحي الحياة. أما الموسوعة الثانية لهذا القرن والتي لا تزال غير معروفة إلى حد الآن هي “كشف البيان عن صفات الحيوان” تعود إلى العالم الإسكندراني “محمد بن محمد بن علي العوفي”( ولد ٨١٨هـ/١٤١م ــ وتوفي ٩٠٦هـ/١٥٠١م)، هذا المؤلَف محفوظ بخط المؤلِف في٦٢ مجلد وهو أقدم مرجع موسوعي ذي ترتيب أبجدي يعالج كل مناحي الحياة.

  • القرن ١٠هـ/١٦م

أُنشأ في القرن ١٠هـ/١٦م في العهد السلطاني العثماني مراد الثاني في إستانبول المرصد الكبير، وقد قرّب فكرة إنشاء هذه المعلمة الفلكية العالم الموسوعي “تقي الدين محمد بن معروف الرصاد”، لأن من خلال التقارير والشروحات التي توصل إليها، وجد أن الجداول الفلكية الموجودة صارت غير قادرة على إعطاء معلومات صحيحة، لذلك صارت الحاجة ملحة لعمل جداول فلكية باستعمال آلات جديدة مبنية بأحجام كبيرة وبواسطة أرصاد جديدة. و”تقي الدين” هذا يعتبر أول فلكي أدخل الزمن كمُعَامِل في أرصاده، فبني لهذا الغرض ساعة فلكية ضخمة ( بنكام رصدي) تكملة لآلات دار الرصد التي عمل على تأسيسها .

في مجال الرياضيات الجغرافية نجد في هذا القرن وجود جداول إحداثيات وخرائط يظهر فيها توسيع مناطق المعمورة المضبوطة رياضيا وجودة أعلى في الرسم الكرتوغرافي، وقد أهدي مؤقت جامع السليمية في إستانبول “مصطفى بن علي القسطنطيني”(توفي ٩٧٩هـ/ ١٥٢٥م) إلى السلطان سليمان القانوني (حكم ٩٢٦هـ/ ١٥٧٢م ــ ٩٧٤هـ/ ١٥٦٦م)  كُتَيِّبِه  “إعلام العباد في أعلام البلاد” يبين فيه درجات الطول والعرض لمائة مكان ومسافات أبعادها المستقيمة عن إستانبول بالأميال، مما يشير في هذا الكتاب أن التصحيح الكبير لدرجة الطول في خريطة العالم في أوائل زمن العثمانيين قد أصبح معروفا في نظر الجميع وأن حجم العالم المضبوط رياضيا في المنطقة الثقافية العربية الإسلامية قد ازداد توسيعه في هذا الزمن بالذات. وفي هذا القرن أيضا عرف مجال الجغرافيا البشرية مستوى عاليا، كانت لشخصية “الحسن بن محمد الوزان (ولد حوالي ٨٨٨هـ/١٤٨٣م) الذي عُرف في أوروبا باسم “ليو الإفريقي” رمزا بارزا في هذا المجال. لقد اهتم هذا العالم في حياته بالجغرافيا ودراسة البلدان ألف كتبا مهمة منها كتاب “وصف إفريقيا” الذي قسمه إلى تسعة فصول، في الفصل الأول يعالج فيه تدقيقات تتعلق بجغرافية أفريقيا العامة ومناخها وخصائص شعوبها وأخلاقهم وقد جزأ فيها أفريقيا تجزيئاً عمودياً باعتبار مميزاتها النباتية والاقتصادية إلى أربعة أجزاء، أما الأقسام السبعة التالية من كتاب وصف أفريقيا فقد تناول بالتفصيل الأجزاء الأربعة الأصلية لإفريقيا وأقاليمها الفرعية ليعود في القسم التاسع إلى ذكر الظواهر الجغرافية العامة لإفريقيا مبيناً أنهارها وحيوانها ونباتها.وقد عرف هذا الكتاب صدى واسعا جعلت الغربيين يعتمدونه كمصدر أساسي عن إفريقيا طوال العصر الحديث،

أما بالنسبة لمسألة التوجه في عرض البحر والالتزام باتجاه سير محدد، نلاحظ مساهمة آلة البوصلة العربية في هذا المضمار وبشكل فعال على تنظيم مجال الملاحة البحرية، وقد كان للعرب دور هام في هذا المجال، بالإضافة إلى امتلاكهم القدرة في تطوير آلة البوصلة التي أخذوها عن الصينيين القدامى.

وللإشارة أيضا أنه لايمكن استبعاد علماء عرب مسلمين كـ “صدر الدين محمد بن ابراهيم شيرازي” مثلا المعروف بملا صدرا”(ولد ·٩٨هـ/ ١٥٢٧م ـ وتوفي ١٠٥٠/ ١٦٤٠م)  لقد برزت مكانة هؤلاء خلال مرحلة ما بعد هذا القرن الذي بدأ فيه أفول مجد حضارة العرب والمسلمين التي غطت العالم بعلومها وإنتاجاتها يتهاوى وينعكس تجديده بعدها داخل رقعة جغرافية أخرى ــ (الغرب) تولت فيها عجلة القيادة في مجال العلوم النظرية والعملية فيما بعد.

ثانيا: أخذ وتمثل العلوم العربية الإسلامية في الغرب

قام المستعربين المؤرخين للعلوم العربية الإسلامية على وضع تقييم أولي في إطار التاريخ العالمي العام ومعالجة مسألة التأثير معالجة أولية رغم اقتصارها على مواضيع أو مسائل فردية. وقد قدم المستعرب الفرنسي “أرنست رينان” (١٨٢٣م/١٨٩٢م) أول دراسة مثلت مجال أخذ وتمثل العلوم العربية الإسلامية في ميدان الفلسفة، من خلال عرضه لفلسفة ابن رشد ومدرسته، وقد كشف في هذه الدراسة أن اللغة العربية كانت في القرن ٤هـ/١٠م اللغة المشتركة للمسلمين والمسيحيين واليهود في إسبانيا، ورأى بأن الثقافة الأدبية لليهود في القرون الوسطى لم تكن سوى صورة عن الفلسفة العربية والمثال على ذلك يتضح في مدرسة ابن ميمون التي لم تخرج أبدا عن السياق والاتجاه المشائي الأرسطوطاليسي لابن رشد.

في مجال الموسيقى تم إجراء في زمن مبكر مجموعة من الدراسات الواسعة النطاق حول مسألة التأثير العربي في نظرية الموسيقى على الغرب. أولى هذه الدراسات هي تلك التي قدّمها المستعرب الإسباني “خوليان ربيرا ترّاجو” في كتابه La musiquai de la Contigas، حيث في جزئه الأول عالج تاريخ الموسيقى العربية في العالم الإسلامي حتى القرن ١٢م، وفي الجزء الثاني عالج تاريخها في إسبانيا، أما الجزء الثالث فقد خصصه في قضية تأثير الموسيقى العربية على الموسيقى الإسبانية وعلى أغاني “الطروبادور” في الغرب. أما ثاني الدراسات فهي تلك التي فاضت من قلم المستعرب والمؤرخ الموسيقي الإنكليزي “هنري جورج فارمر” التي عبر عنها في كتابه “Historical facts for the Arabian musical influence”  ومن المواضيع التي تطرق إليها  “فارمر” والتي واجهت معاداة شديدة لم تفند حتى الآن، هي محاولات كتابة النوتة الموسيقية لموسيقى الآلات التي جرت بنفس الشكل عند العرب وفي أوروبا القرون الوسطى، فالعرب هم أول من كتبوا الألحان بخط الحروف وبمقاطع معينة لتحديد مدة النغمة والإيقاع، كما يحفظ لنا ذلك ” كتاب الأغاني الكبير” لأبي الفرج الأصفهاني.

       أبانت ترجمة المؤلفات العربية في مجال العلوم الطبيعية والفلسفية عن مكانتها الريادية داخل الأوساط الغربية في القرنيين ١٢ و١٣م وفي إسبانيا بالخصوص، ومما له دلالة خاصة أن انتشارها جاء مع تأسيس الجامعات الأولى في إيطاليا وفرنسا وإسبانيا. وكان من بين المؤلفات التي احتلت مكان الصدارة في ذلك الوقت مؤلفات “ابن سينا” في الطب. وقد كتب المستعرب ” هاينرخ شبيرجس” مجموعة من المقالات والكتب في الشطر الثاني من القرن ٢٠م  عالج فيها قضية ” كيف تمت عملية أخذ وتمثل الطب العربي الإسلامي في العالم اللاتيني في القرون الوسطى”. إن عملية الأخذ للطب العربي الإسلامي في نظر “شبيرجس” بدأت مرحلتها الأولى في القرن ١١ في سالرنو مع العربي الذي اعتنق المسيحية وأصبح فيما بعد راهب مونت كاسينو “قسطنطين الإفريقي” (١٠١٥م – ١٠٨٧م). فبعد دراسة هذا الأخير للعلوم العربية الإسلامية دراسة عميقة في العراق وبلدان أخرى، تمكن من استحضار عشرات من الكتب الطبية العربية إلى سالرنو وبمساعدة زملائه من الرهبان نشر أكثر من خمسة وعشرين من تلك الكتب باللاتينية التي نسب معظمها إلى نفسه وعددا قليلا إلى مشاهير الإغريق. وكان أهم تلك الكتب التي تعرضت إلى هذا التضليل كتاب تعليم الطب الضخم “لعلي بن العباس المجوسي”( توفي في الربع الأخير من القرن ٤هـ/١٠م)  الذي يحمل عنوان “كامل الصناعة الطبية” أو”الكناش الملكي” والذي أهداه في ذلك الوقت إلى الملك البويهي عضد الدولة(٣٣٨حكم هـ/٩٤٩م – ٣٧٢هـ/٩٨٣م)، فبعد وفاة “قسطنطين” بأربعين سنة ترجم “اصطفان الأنطاكي” هذا الكتاب إلى اللاتينية من جديد تحت اسم مؤلفه الحقيقي علي ابن العباس ليعيده إلى مؤلفه الأصلي. أما ثاني المراحل لعملية الأخذ التي يقرها “شبيرجس” بدأت في الشطر الأول من القرن ١٢م في طليطلة التي كانت خاضعة منذ ٧١١م إلى ١٠٨٥للسيطرة العربية والتي سيطر فيها وبدون منازع كتاب الشفاء “لأبي علي بن سينا” من ضمن الموسوعة المشائية التي وصلت إلى الغرب في ذلك الوقت. أما بخصوص المرحلة الثالثة لهذه العملية فيراها “شبيرجس” أكثر تطورا بالنسبة لعملية الترجمة مع أقدم المترجمين الإيطاليين “جيرهارد الكريموني” الذي ساهم بشكل كبير في نقل الكتب العربية الطبية إلى اللاتينية ومنها “الكتاب المنصوري في الطب” وكتاب “التقاسيم” وكتاب “الجذري والحصبة” “لأبي بكر الرازي”، ثم كتاب “القانون في الطب” “لابن سينا” الذي أصبح في الغرب يعتبر قانونا لأسس الطب العلمي، كذلك لايمكن أن ننسى الترجمة التي أعدها للمقالة الثلاثين في الجراحة من الكتاب التعليمي للطب العام” التصريف لمن عجز عن التأليف”لأبي القاسم خلف بن عباس الزهراوي (توفي ٤٠٠هـ/١٠١٠م ) الذي استمر تأثيره في الغرب قرونا طويلة تحت عنوان Cirurgia Albucasis .

       بدأت “عملية التمثل” داخل المراكز الحيوية في فرنسا وإنجلترا وجنوب إيطاليا التي كانت تربطها بالعلوم العربية علاقة اتصال أثناء عملية فتح الأقاليم الإسبانية. خلال منتصف القرن ١٢م  شهدت مدينة طولوز ظهور مراكز للترجمة وهي ترتكز على التقاليد الفرنسية. وقد ساهمت هذه المراكز في ترجمة معظم الكتب التي تتعلق بعلوم الفلك وأحكام النجوم والفيزياء. وقد كان للعلماء اليهود دورا كبيرا في نقل المؤلفات العربية إلى العبرية واللاتينية داخل مراكز التوسط الفرنسية. وقد وصلت شهرة “ابن رشد” خلال القرن ١٣م داخل مدرسة باريس عبارة عن تجسيد للمساعي النظرية في إطار الطب وفلسفة الطبيعة.

       لم تنحصر عملية التمثل داخل المدارس الفرنسية فقط، بل دعت الضرورة العلمية أن تزحف من المنطقة الأنجلوساكسونية إلى المراكز العربية في جنوب إيطاليا وإسبانيا التي عرفت موجة تمثل جديدة وتلقائية، و كان من أبرز الممثلين لهذا التيار الإنجليزي “آدلارد من بارث” الذي كان قد عمل طويلا في مراكز التمثل في فرنسا وإيطاليا وإسبانيا وسوريا ثم إنجلترا، ترجم من خلالها كتبا هامة من العربية إلى اللاتينية شملت مجال الفلك وعلوم أحكام النجوم والرياضيات. أما بالنسبة لتيارات التمثل في جنوب إيطاليا وبالخصوص في مدينة صقلية التي عرفت من القرن ٩م إلى ١١م فتحا عربيا وتواصلا طبيعيا بين الثقافات الشرقية والغربية، اكتست نوعية جديدة مع شخصية القيصر “فريدريك الثاني” حكم (١٢١٢م ــ١٢٥٠م) الذي عُرِفَ بتوجهاته وميولاته الشخصية واتصالاته الخاصة نحو البيئة الثقافية العربية، ثم مع العالِم “ميخائيل سكوتس” الذي أدخل إلى صقلية أثناء عمله في الترجمة تقنية تقاليد إسبانيا العلمية في معارفه المخصصة لأرسطو الجديد (أرسطو العرب) وللطب والموسيقى وعلم الظواهر الجوية( الآثار العلوية) والكيمياء.

       شكل علمي الجغرافيا والكرتوغرافيا العربية الإسلامية أهمية كبيرة على مستوى الأخذ والتمثل داخل الأوساط الأوروبية منذ بداية القرن ١٢م. ويبدو من المعروف أن الكتب الجغرافية العربية المترجمة كانت تتواجد باهتمام العلماء في شبه الجزيرة الإيبيرية بعكس البلدان المجاورة لإسبانيا، والمثال على ذلك نراه في جغرافيا الأندلس “لأبي بكر بن محمد بن موسى الرازي”( ٢٧٤هـ /٨٨٧م ــ ٣٤٤هـ/٩٥٥م ) التي تم نقلها إلى البرتغالية بتكليف من الملك “دنيس”(١٢٧٩م ــ ١٣٢٥م) على يد راهب لا يعرف العربية اسمه “جيل بيرس” من ترجمة شفوية لشخص مسلم “المعلم محمد”. من جهة أخرى يعتبر كتاب “وصف إفريقيا” من أقدم الكتب التي وصلت إلى أوروبا من الجغرافيا العربية معنونا تحت اسم Historical facts for the Arabian musical influence “لجان باتستا راموسيو”. وفي مجال الجغرافيا الرياضية أيضا بلغت عملية الأخذ والتمثل درجة عالية في الفترة ما بين ١١٢٠م و١١٣٠م مع “آدِلارد” الذي قام بترجمة الجداول الفلكية “لمحمد بن موسى الخوارزمي” و”بلاتو تيفولي ” الذي ترجم في نفس الوقت الكتاب المرجعي في الفلك “لمحمد بن جابر البتاني”، أما كتاب “جوامع علم النجوم” لمؤلفه “محمد بن كيثر الفرغاني” فقد وصل منذ حوالي ١١٣٠م إلى العالم اللاتيني في ترجمات متعددة، بحيث اعتمده “يوهانس رجيومنتانوس” كمرجع أساسي بقي يحاضر منه في جامعة بادوا حتى سنة ١٤٦٤م.  وفي هذا المجال أيضا كان دخول كتاب “تقويم الأبدان” لأبي الفداء (٧٣٢هـ/١٣٣١) إلى أوربا عن طرق المستشرق الفرنسي المعاصر “جيوم بوستل”، الذي استخرج منه جداول لتصحيح مواقع الأماكن في الخرائط الأوروبية خصوصا عن الخرائط الفنيسيانية، وقد ساهم في نشر هذا الكتاب العالم الإنكليزي “ريتشارد هَكْلويت”( توفي ١٦١٦م ) الذي اعتمد عليه “جون دي” عندما دافع عن إمكانية الوصول إلى شرق آسيا من الشمال عن طريق البحر مختلفا في ذلك الزمن مع أكبر الكرتوغرافيين وهما “جيرهارد مركاتور” و”أرهام أرتيليوس” اللذين استحالا إمكانية الوصول من هذا الاتجاه عن طريق البحر.

       وفي الربع الأخير من القرن الخامس عشر اكتشف العالم الإيطالي “جاليليو” بواسطة منظاره الكبير أقمار المشتري. فكان لهذه العملية تسهيل إمكانية تحديد الأطوال الجغرافية وإجراء تصحيحات واسعة في الخرائط الموجودة، فتمكن العالم الفلكي الفرنسي “جون دومنيك كاسيني”( ١٦٢٥م ـ ١٧١٢م) من تطوير هذا الاكتشاف من خلال مجموعة من الإنجازات التي حققها في إطار نشاطات أكاديمية العلوم التي أسسها “لودفج الرابع عشر” كان الغرض منها أولا وضع خريطة أصح لفرنسا ثم مهمة ثانية كانت ذا أهمية عالية وهي – التوصل بواسطة تخفيض تناسبي أو تعديل مناطق الأرض الكبيرة إلى تصحيح خريطة العالم كلها.

إن أهمية الدراسات التي قدمها المستعرب ومؤرخ الجغرافيا ” يوآخيم للول” الذي كان أول من درس أصل الخرائط منذ منتصف القرن الثالث عشر إلى القرن الرابع عشر، أظهرت أن ما يسمى بالخرائط البحرية أو المينائية كان أساسها في الأصل بحسب رأيه شبكة درجات أعدت بواسطة إحداثيات جغرافية صنعها “جغرافيين صقليون” بين١١٣٩م و ١١٥٤م  الذين ورثوها من الجغرافيين العرب وأسلافهم الإغريق على صورة الجغرافيا وخرائط الإدريسي.

فالأصول المأخوذة من المنطقة العربية الإسلامية والاشتغال بها نشأ في أوروبا في القرن١٤م و١٥م بعدد لا يحصى من خرائط العالم غير المدرّجة رغم أن معظمها لم تكن منسوخة عن أصول وإنما كثيرا ما استنسخت عن بعضها البعض من دون أن تخلو من خيالات الخرائطيين. وأهم مثال على ذلك ما دأَبت عليه خريطة “فرا ماورو”، أحد رهبان كَمَلدولين في مورانو قرب فينيسيا والتي كان قد رسمها بِحَثّ من الملك البرتغالي ألفونصو. وقد سقطت بعض الخرائط الأوربية في التناقض منذ تعرفها على الجغرافيا البطلميوسية بواسطة الترجمة التي أعدها البيزنطي “مكسيموس بلاندوس” إلى اللاتينية حوالي ١٣٠٠م، لأنها لم تصمد طويلا أمام التصوير الخرائطي الذي وصل من العالم الإسلامي إلى أوروبا بواسطة البعثات البرتغالية منذ الرحلة الأولى التي قام بها المستكشف العالمي “فاسكو دا جاما”. بحيث نجد في هذا الصدد ومِمَا له قيمة بالغة في تاريخ الكرتوغرافيا أن جل ما أعده الرحالة والجغرافي “باتستا راموسيو”( ١٤٨٥م ــ ١٥٥٧م) من خرائط تشمل إفريقيا وبلاد العرب وفارس والهند وجزر مُلوكة ( في جنوب شرق آسيا) وخريطة جزئية لإفريقيا كلها تميزت بتسميات الأماكن وجداولها للأطوال والعروض التي لا تدع مجالا للشك في أن أصلها عربي. ونفس الأمر حصل بالنسبة لصديقه “جماكو جاستلدي” الذي اعتمد في خريطته أساس التقاليد العربية وفقا للجداول والإحداثيات التي وضعها الجغرافي العربي “أبي الفداء”.

طريق انتقال العلوم العربية الإسلامية إلى أوروبا.

 1 طريق إسبانيا الإسلامية                                                                                                                                 

بيَّنت الدراسات الحديثة بأن أول معرفة للغرب المسيحي بالعلوم العربية الإسلامية بدأت في الثلث الأخير من القرن العاشر الميلادي بواسطة اتصالات شخصية تمت بين أطراف من كلا البيئتين الثقافيتين في منطقة الحدود الإسبانية في برشلونة. وقد مثلت شخصية “جربرت” من أورياك Gerbert Von Aurillac الذي انتخب سنة ٩٩٩م بابا الكنيسة الكاثوليكية والذي اتخذ لنفسه اسم سلفستروس الثاني العمل على نقل هذه العلوم إلى الغرب.ومن بين المجالات التي اهتم بها “جربرت” وعمل على نقلها إلى الغرب المسيحي نجد الأرقام العربية وآلات الأسطرلاب التي اكتشفها العرب وله في ذلك كتيبان محفوظان أحدهما في استعمال الأسطرلاب De mensura astrolabii)) والثاني في الهندسة Geometria))، توصل إلى اكتشافهما كل من “واينسَنْبورن” و”وُورْشمت” بحيث اعتبرا أن هذيين الكتيبان امتدادا للعلوم العربية لأن فيهما نقلا مطابقا يعتمدان على نفس الطرق القياسية وبنفس الآلات و يناقشان المسائل المعالجة في الهندسة التي كان قد حلها العرب من قبل.

 منذ الشطر الأول من القرن ١٢ تم إنجاز أعمال ترجمة واسعة بعد عملية استرجاع مدينة طليطلة، ومن حجم الإنجازات الهامة في ذلك الوقت نجد المؤلفات التي نقلها اليهودي المتنصر”يوهانس هسبالنسس” Johannes Hispalensis)) والتي ترجم منها ما يقارب ٢٠ كتابا من مجالات الحساب والفلك وأحكام النجوم والطب والفلسفة من العربية إلى اللاتينية شملت كتب الفرغاني والخوارزمي في الفلك والحساب ومؤلفات فلسفية للكندي والفارابي والغزالي. ومن بين المترجمين الكبار الذين ترجموا أكثر في الفترة ما بين ١١٥٠و١٢٠٠م أيضا، نجد “دومينكوس جنديسالينوس” (Dominicus Gundissalinus) الذي نشر مع “يوهانس هِسبالُنْسس” المقالة De celo et mundo ( في السماء والعالم) التي اعتبرت لمدة من الزمن على أنها من تأليف ابن سينا، إلى أن جاء ” مانوئيل ألونصو” وأعادها إلى مؤلفها الحقيقي الذي هو “إسحاق ابن حنين”، وكذلك نجد كتابه المشهورDe divisione philosophiœ ( أقسام الفلسفة) الذي وجد فيه ” لودفيج باور” أجزاء كبيرة منسوخة من كتاب إحياء العلوم لأبي نصر الفارابي”  (توفي ٣٣٩م /٩٥٠م).

بقيت العلوم العربية الإسلامية في القرن ١٢م مستمرة في تقدمها الإبداعي في جميع المجالات، وقد وصلت عملية ترجمة الكتب العربية والإغريقية المتبناه من اللغة العربية إلى اللاتينية والعبرية مستوى عاليا ومهما مع شخصية “جيرارد الكريموني” الذي يعتبر وبدون شك أفضل مترجم للمؤلفات العربية الإسلامية إلى اللغة اللاتينية، وقد أعدت بعد وفاته قائمة للكتب التي ترجمها مرتبة على حسب المواضيع عنوانا، تعالج ٢٠ منها الفلسفة والمنطق، و١٢ أحكام النجوم ( معظمها في الفلك)، و١١الفلسفة، و٢٨الطب شملت مؤلفات ضخمة وعظيمة الأهمية مثل “المجسطي” لبطلميوس، و”القانون في الطب” لابن سينا، والقسم الجراحي من كتاب الزهراوي “التصريف لمن عجز عن التأليف” إضافة إلى كتب لأبقراط وجالينوس، هذه الكتب التي تمت ترجمتها من لدن “جيرارد الكريموني” والتي وصل عددها٧١ كتابا جلها ترجمت من العربية إلى اللاتينية في مدينة طليطلة.

2- أخذ العلوم عن طريق صقلية وجنوب إيطاليا

انطلقت حركة الأخذ من “مدرسة سالرنو” التي عرفت مستوى ثقافي واجتماعي عال إبان الحكم العربي الذي امتد من القرن ٩م إلى نهاية القرن ١٠م ، فرغم سقوط السيطرة العربية على صقلية لم يفقد الفكر الجديد والثقافة الجديدة مكانتهما داخل هذه المدينة. وقد مثلت شخصية “روجر الثاني” ملك النورمان ( حكم ١١٣٠م / ١١٥٤م) الدور الهام  في الحفاظ على مكانة العلوم العربية والمؤسسات العامة والإدراة الإسلامية في تسيير سجلات الأراضي باللغة العربية. كما يرجع الفضل بالنسبة إليه في عملية الأخذ وتمثل العلوم العربية عن طريق تشجيعه ومشاركته في مؤلف جغرافي كان قد ألفه الشريف الإدريسي تحت عنوان ” نزهة المشتاق في اختراق الآفاق” ورسم خريطة محفورة على صفيحة فضية كبيرة أثرت فيما بعد على الكرتوغرافيا الأوروبية.

    وفي مدينة صقلية كذلك عرفت عملية الأخذ والتمثل مع القيصر”فريدريك الثاني” ( حكم   ١٢١٢م – ١٢٥٠) مستوى رفيع بسبب اهتماماته بالثقافة العربية الإسلامية وتشجيعاته على دراستها وترجمة المؤلفات العلمية والفلسفية منها، وقد خاض هو نفسه في مناقشات حول فهم مسائل علمية وفلسفية بالغة الأهمية، بحيث باشر في مراسلة خصمه السلطان “الأيوبي ناصر الدين محمد الملك الكامل” ( حكم ٦١٥هـ/ ١٢١٨م – ٦٣٥هـ/ ١٢٣٨م) الذي تنازل للملك “فريدريك” عن القدس في صلح سنة ٦٢٦هـ/١٢٩٢م)، يطلب منه الإجابة على مجموعة من الأسئلة تتمحور في مجال العلوم الطبيعية والفلسفية وحتى الفقهية من طرف علماء عصره.

عرفت عملية الأخذ وتمثل العلوم العربية الإسلامية في الطريق الثاني وفي جنوب إيطاليا بالخصوص مكانة خاصة مع ثلاثة علماء كبار كان لهم الدور في عملية الأخذ والتمثل، أولهما “إصطفن الأنطاكي” الذي تعلم العربية وقام بإعادة ترجمة الكتاب المرجعي في الطب العلمي ” لعلي بن العباس المجوسي” الذي كان “قسطنطين الإفريقي” ترجمه ترجمة غير كاملة. ثانيهما “ليوناردو من بيزا”(حوالي١١٧٠م- حوالي١٢٤٠م) الذي اعتبر أول عالم رياضيات في الغرب المسيحي”، تمكن هذا العالم بواسطة اتصالاته بالعلماء العرب أثناء قيامه برحلات إلى مصر والعراق وسوريا واليونان وصقلية وجنوب فرنسا تأليف مجموعة من الكتب في الرياضيات والجبر والهندسة كانت فيها جل مصادره تحتوي على ترجمات لمؤلفات عربية وهذا مما لاشك فيه أنه خلال إقامته في الجزائر ومن خلال زياراته المتعددة للبلدان العربية أنه تعرف على كتب رياضية من أصولها العربية وأخذها معه إلى مدينة بيزا الإيطالية. أما ثالث العلماء والأخير فهو “ثيودورس الأنطاكي” ( توفي ١٢٥٠م) الذي كان عربيا مسيحيا على خلاف العالمين المذكورين أعلاه. لما هاجر إلى الموصل قرأ على يد العالم الكبير “كمال الدين بن يونس” مصنفات “الفارابي” و”ابن سينا” وحلّ أقليدس والمجسطي، حينما أصبح متضلعا في المجالات المتعددة والمعارف الواسعة في العلوم العربية اشتغل عالما ومستشارا عند القيصر “فريدريك الثاني”، وكان من بين الأعمال التي قدمها “ثيودروس اللأنطاكي” للقيصر ترجمته لكتاب “البيزرة” من العربية إلى اللاتينية الذي هو محفوظ تحت عنوان “مؤامن” وله طبيعة كتاب بيطري .

3 أخذ العلوم عن طريق بيزنطة

منذ ١٣٠ سنة تنّبه “هيرمان أوسينر” إلى وجود مخطوطات بترجمات بيزنطية لكتب عربية فارسية في مكتبات أوروبية. وقد تم الكشف لاحقا من خلال البحث العلمي العثور على ترجمات لكتب عربية إلى اللغة اليونانية البيزنطية، كترجمة كتاب خرافات الحيوانات “كليلة ودمنة” لـ “سيمون سيت” نهاية القرن الحادي عشر الميلادي من الصيغة العربية التي وضعها ” عبد الله بن المقفع” ( توفي ١٣٩هـ / ٧٥٦م) من النص الفارسي، أو الترجمة التي وضعها مترجم مجهول للكتاب الطبي “زاد المسافر” لأحمد بن ابراهيم بن الجزار” (توفي ٣٦٩هـ / ٩٧٩م) التي يبين فيها المترجم معرفته المتبصرة بالكتب العربية.

 لقد تَمَت من خلال الأعمال التمهيدية التي توصل إليها كل من “أتو نويجباور” و” أ.س. كندي” فتح المجال إلى مجموعة من الباحثين بعدهم إلى التوصل إلى الرأي القائل بأن كتبا عربية وفارسية خصوصا حول أحدث نظريات حركة الأفلاك لعلم الفلك الإسلامي قد وجدت بترجماتها البيزنطية طريقها إلى أوروبا. والدليل القاطع على ذلك هو كتاب “الحواشي” على بطلميوس الذي تعرف من خلاله البيزنطيين على علم الفلك العربي، حيث يعود لمؤلف مجهول حاول فيه أن يقوم بمقارنة نقدية بين الفلك البطلميوسي وفلك المحدثين اللذين يقصد بهم الفلكيين العرب. وفي نهاية القرن الثاني عشر ميلادي كذلك وضع تجميع بيزنطي حفظ في مخطوطة الفاتيكان رقم Cod. Vat. gr.1056 الذي يضم معظم محتواه علم أحكام النجوم يظهر نحو عشرين من أسماء المؤلفين العرب والهنود والهنود المزيفين، ويستشهد في هذه المخطوطة بأعلام كبار كـ “الخوارزمي” و”حبش الحاسب” و”كوشيار بن لبَّان” والجداول الفلكية الحاكمية “لعلي بن عبد الرحمن بن يونس”.

أما من جهة عملية الأخذ كذلك، فقد ظهرت حوالي منقلب القرن ١٣م والقرن ١٤م  اهتمامات جديدة بالعلوم العربية الفارسية التي كانت متواجدة في مدينة مراغة الخاضعة لسيطرة المنغوليين والتي عرفت تواجد مجموعة هامة من السكان المسيحيين، بالإضافة إلى اتصالها الوثيق بمدينة طرابزون التي خضعت في ذلك الوقت للحكم البيزنطي، فكان وراء هذا التجاور ترابطا حملَت بواسطته جل كتب الشرق طريقها إلى الغرب البيزنطي فتم العمل على ترجمتها إلى اللغة اللاتينية التي انتعشت على أضرابها النهضة العلمية لأوروبا المسيحية فيما بعد.

ثالثا: بداية الركود وأسباب نهاية الإبداع في البيئة الثقافية العربية الإسلامية

أخذت معالم التراجع عن الركب الحضاري تظهر في العالم الإسلامي منذ مرحلة الصراع بينه وبين أوروبا المسيحية خلال الحروب الثماني المعروفة بالحروب الصليبية التي استمرت من سنة ١٠٩٥م إلى ١٢٩١م وقد كان فيها الأوروبيون في الواقع هم الرابحين والمستفدين دائما. هذه الحروب التي تضعضع فيها العالم الإسلامي اقتصاديا وتراجع عن ركب مجرى التطور العلمي الذي كان سبب التقدم والتحضر بالنسبة لديه.

فالمسلمون رغم هذا الصراع المتزامن لم يندحروا على يد المحتلين في بدايته، بل كان التفوق عندهم لا يزال يأخذ مكانته في العلوم النظرية والتقنية، وقد شكلت هذه الأخيرة مكانة هامة عند المسلمين في ذلك الوقت خصوصا في حماسهم في العمليات الدفاعية ضد الصليبيين، والتي حققوا من خلالها تقدما بارزا في تطوير الأسلحة مثلا في الأقواس الكبيرة المستخدمة بالعجلات ( المسمى باللوالب) والمنجنيقات ذات الوزن المعادل وأيضا في المدافع والقنابل والأسلحة النارية اليدوية والأقواس الفولاذية. لكن هذه التجديدات في تقنية السلاح استفاد منها الأوروبيين بشكل أكبر بعد معرفتهم عن كيفية استعمالها والعمل على صناعتها وتطويرها.

 وقد كان لغزو المغول للقسم الشرقي في البلاد الفارسية بداية النهاية للإبداع داخل الثقافة العربية الإسلامية، والذي انتهى سنة ٦٢٨م/١٢٣١م بتقليص التوسع الإسلامي وتدمير الكثير من المراكز الثقافية والعلمية المحلية، كما شهد أيضا القسم الأوسط من العالم الإسلامي تدميرات أخرى سنة ٦٥٦م / ١٢٥٨م عندما احتل “هولاكو” حفيد “جنكيزخان” بغداد وأقسام كبيرة من الأراضي السورية.

ومن أسباب التحول التاريخي والذي يجب أخذه بعين الاعتبار نراه في التأثير الذي ساهمت فيه البعثات البرتغالية المتواصلة منذ نهاية القرن الخامس عشر الميلادي والتي كان لها دافع سياسي واقتصادي وديني، بحيث أعدّ لها بترتيبات عسكرية جيدة ساعدتهم على تحقيق انتصارات عديدة، حطموا من خلالها في غضون نصف قرن جل الأساطيل العربية الضعيفة والتركية – العثمانية التي جاءت لمساعدتهم، ودمروا أيضا المناطق الساحلية على البحر الأحمر وفي جنوب الجزيرة العربية والخليج العربي– الفارسي والهند وأرخبيل ماليزيا، كما سيطروا بعد ذلك على المحيط الهندي الذي كان على مدى قرون بمثابة بحر داخلي في العالم الإسلامي، بالإضافة إلى سيطرتهم على الثروات الطبيعية لهذه البلدان وحملها إلى البرتغال. لكن بعد اكتشاف أمريكا تغيرت خريطة العالم السياسية والإقتصادية والإستراتيجية لغير البيئة الثقافية العربية الإسلامية تغيرا كاملا، فانتقلت بذلك بعدها القوة الإقتصادية والعسكرية الجديدة التي لم تقتصر على إسبانيا والبرتغال وحدها، بل توسعت لتشمل مع مرور الوقت بلدان غربية أخرى غيرت موازين القوى داخل أوروبا المسيحية.

خــاتـمــة

ختاما، يطرح المؤلف في هذا الكتاب القيادة العلمية والمعرفية التي عرفتها الحضارة العربية الإسلامية لأزيد من عشرة قرون، أنتجت من خلالها علوما وعلماء استفاد منهما الغرب من بعد الركود الذي عرفته هذه الحضارة العظيمة منذ أواخر القرن السادس عشر الميلادي. كما لا يمكن أن ننسى الدور الفعال الذي أبانت عنه الدراسات الإستشراقية المنصفة لهذا الإرث الحضاري، والتي ساهم فيها مجموعة من المستعربين كـ “يوهان جوتفريد هيرد” و”يوهان فولفجانغ جوته ” و” ألكساندر فون هومبولت ” و” كورت سبرنجل “…إلخ بإنتاجاتهم العلمية الدقيقة والمفصلة، أبانوا فيها عن المكانة الوجودية للعلوم العربية في السياق التاريخي والإنساني والحضاري بشكل عام.

إن أبرز ما خلفته العلوم العربية الإسلامية في التاريخ الحضاري هو ذلك التوارث العلمي المستمر والمجدد للمعارف العلمية بكل أشكالها، والعمل على إبراز الطُرُق المتعلقة بعملية الأخذ والتمثل لما تم إنتاجه من طرف القدماء، ثم الحرص على نزاهة النظريات العلمية المتوارثة وإعطائها الحق في الوجود عن طريق الترجمة الصحيحة ودراستها دراسة علمية تحليلية ونقدية لِلتَّمَكُن من إبراز الجانب العلمي والغير العلمي فيها.

Science

ذ. زيدان عبد الغني

باحث مركز ابن البنا المراكشي

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق