مركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصةدراسات عامة

تعليلُ ترتيبِ القراء في بعض مصنفات القراءات

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على نبينا محمد خاتم النبوة والرسالة، وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.

وبعد:

فقد تباين ترتيب القراء لدى المصنفين لحروف القراءات، قال أبو شامة: «ومعظم المصنفين في القراءات يذكرونهم في أوائل كتبهم، مع طرف من أخبارهم، مختلفين في ترتيبهم. ونحن نذكرهم بطريق الاختصار على الترتيب الذي ألفناه بهذه الديار»(1)، لكنهم أجمعوا، في ما اطلعت عليه من مصادر، على تقديم قراء أهل الحجاز(2)، فمنهم من قدم نافعا أو شيخَه أبا جعفر المدنيين، ومنهم من قدم ابنَ كثير المكي، ثم بعد ذلك فهم مختلفون في ترتيب باقي القراء، قال عبد الله بن عبد المؤمن الواسطي: «اعلم أنّ مصنّفي كتب القراءات رحمهم الله، منهم من بدأ بمكة، ومنهم من بدأ بالمدينة، حرسهما الله. وقد رأيت أن أبدأ بمكة؛ لأنها حرمُ الله، ومنشأ النّبوة، وفيها بدأ الوحي»(3). وسأحاول من خلال هذه الكلمات أن أذكر ترتيب القراء عند بعض المصنفين، ,وأذكرمن علل منهم هذا الترتيب في مصنفه، أو من علل تقديم قارئ أو تأخير آخر حسبما وقفت عليه من نصوص، والله الموفق للصواب.

أول من نبدأ بذكره هو المسبع الأول؛ الإمام ابن مجاهد في كتابه السبعة، حيث صدر كتابَه بذكر الإمام نافع رحمه الله وعلل اختياره ذلك فقال: «فأول من أبتدئ بذكره من أئمة الأمصار، من قام بالقراءة بمدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وإنما بدأت بذكر أهل المدينة؛ لأنها مهاجَر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعدِن الأكابر من صحابته، وبها حُفظ عنه الآخر من أمره. فكان الإمامَ الذي قام بالقراءة بمدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد التابعين: أبو عبد الرحمن نافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم مولى جعونة بن شعوب الليثي حليف حمزة بن عبد المطلب»(4)، ثم ذكر بعده عبدَ الله بن كثير المكي لمقام مكة ولأنها مهبط الوحي كذلك، لكنه لم يصرح بذلك، ثم ذكر بعد ذلك القراءَ الكوفيين؛ فبدأ بذكر عاصم لأنه خلف أبا عبد الرحمن السلمي في القراءة، ثم ذكر بعده حمزة فالكسائي، وتقديم حمزة على الكسائي لا يخفى لمنزلة المشيخة، ثم ذكر بعد الكوفيين إمامَ أهل البصرة في القراءة؛ أبا عمرو البصري، فختم ذكر السبعة بإمام أهل الشام في القراءة؛ عبدِ الله بنِ عامر الشامي اليحصبي. ولعله قدم قراء أهل العراق على الشامي لأنها قراءة أهل بلده، فيُلاحظ أن ابنَ مجاهد رحمه الله علّل تقديمه لنافع على سائر القراء، لكن لم يصرح بالعلة التي راعاها في ترتيب باقي القراء. فكان ترتيب القراء عنده: قراءة أهل الحجاز مع تقديم قراءة المدينة على القراءة المكية، ثم قراءة أهل العراق مع تقديم قراءة أهل الكوفة على قراءة أهل البصرة ثم ختم بقراءة أهل الشام. وهذا ما أشار إليه بقوله: «فهؤلاء سبعة نفر من أهل الحجاز والعراق والشام»(5).

وقد وافق جمعٌ من المصنفين ابنَ مجاهد في تقديمه لنافع، وعللوا هذا التصدير بنحو ما علل به ذلك؛ فقال أبو عمرو الداني في كتابه جامع البيان: «باب ذكر أسماءِ أئمة القراءة والناقلين عنهم، وأنسابِهم، وكناهُم، ومواطنِهم، ووفاتِهم، ونكتٍ من مناقبهم وأخبارهم. فأول من ينبغي أن نبتدئ بذكره منهم؛ من قام بالقراءة بمدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وائتمَّ به فيها، إذ هي حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودارُ هجرته ومبعثه ومحشرِه، ومعدنُ الأكابر من الصحابة وتابعيهم، وإذ بها حُفظ عنه الآخر من أمره صلى الله عليه وسلم كثيرا إلى يوم الدين»(6). وورد نحوه في روضة المعدل(7). وقال ابن مهران في المبسوط بعد تقديمه لأبي جعفر المدني: «نبدأ بذكر قراءة أهل المدينة، حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودار هجرته، وأرض محشره ومنشره، ومسكن المهاجرين والأنصار، ومعدن الصالحين من عباد الله والأبرار»(8). فكان تقديم قراءة المدينة النبوية على سائر البلاد لشرفِها، وشرفِ من قام بالقراءة بها؛ ولأنه حُفظ بها الآخر من أمره صلى الله عليه وسلم، ويقصدون بذلك ما استقر عليه الأمر مما اشتملت عليه العرضة الأخيرة.

ولم يعلل الداني، مثل ابن مجاهد، ترتيبَه لباقي القراء، وقد خالفَ ابنَ مجاهد في ترتيبه لهم؛ فرتَّبهم على نحو ما هو مشهور الآن؛ أعني ترتيبهم الموجود في التيسير وحرز الأماني.

وقد وافق الدانيَ في ترتيبه للقراء ابنُ سفيان في الهادي، والكناني في البديع، والحكري في النجوم الزاهرة، وكذا ابن شريح في الكافي، إلا أن ابن شريح جعل حمزة القارئ السابع بدل الكسائي. وقد رتب شيخ الداني ابنُ غلبون القراء في كتاب التذكرة مثل هذا الترتيب أيضا، إلا أنه قدم ذكر عاصم الكوفي على أبي عمرو البصري. 

وقد علل الحكريّ في النجوم الزاهرة ترتيبه للقراء، فقال رحمه الله بعد تقديمه لنافع: «وقُدِّم عند بعض لعلمه ومحلّ بلده»(9)، وقال في شأن ابن كثير: «وقُدّم عند بعض بقراءته على عبد الله بن السائب، وبلزومه مكة، وهي أفضل البقاع عند أكثر العلماء كالشافعي ..»(10)، وقال عن تقديم حمزة على الكسائي: «وتقديمه على الكسائي لأنه شيخه»(11).

وقال ابن سوار في المستنير: «ذكر ترتيبهم في هذا الكتاب: فابن كثير، ونافع، وابن عامر، وأبو عمرو، وعاصم، وحمزة، والكسائي، وأبو جعفر، ويعقوب، وخلف»(12)؛ لكنه لم يعلل اختياره في هذا الترتيب.

أما مكي بن أبي طالب القيسي، فلم ينضبط ترتيبُ القراء عنده في كتابه التبصرة؛ فعند ذكر أسماء القراء ورواتهم صدَّر ذكرَهم بابن كثير، ثم أتبعه نافعا، ثم ذكر الكوفيين الثلاث؛ عاصما وحمزة والكسائي، وبعدهم أبا عمرو، وختم بذكر ابن عامر الشامي. 

وعند ذكره اتصالَ قراءته بهؤلاء القراء السبعة بدأ بذكر إسناد نافع ثم أتبعه بباقي القراء على الترتيب التالي: عاصم، ابن كثير، أبو عمرو، حمزة، الكسائي، ابن عامر.

وعند ذكره اتصالَ قراءة القراء السبعة بالنبي صلى الله عليه وسلم كان ترتيبُهم كالآتي: عاصم، نافع، ابن كثير، أبو عمرو، حمزة، الكسائي، ابن عامر.

فيلاحظ عدم ترتيب القراء عند مكي على سنن واحد؛ إلا أنه اتفق عنده تأخير ذكر ابن عامر، وهو ما علله بقوله: «وأما ابن عامر فهو أكبر القراء سنا، رُوي لنا أنه قرأ على عثمان رضي الله عنه، وعلى أبي الدرداء، وقيل: على المغيرة بن أبي شهاب المخزومي قرأَ، وقرأ المغيرة على عثمان، وكِلا الطريقين قد تُكلم فيه، ولذلك أخرناه»(13)، فهذا تعليل من مكيّ بن أبي طالب على تأخير ذكر ابن عامر رحمه الله، لكن عقبه بكلام نفيس؛ لكي لا يُعتقد أنه يطعن في قراءة ابن عامر، فقال رحمه الله: «ولم أر أحدا من الشيوخ يترك قراءَته، ولا يحملها إلا محلَّ الصحة والسلامة، وعلى ذلك نحن».

وممن ذكر ترتيبَ القراء وعلَّل ذلك: أبو الكرم الشهرزوري في مصباحه، قال رحمه الله:

«الباب الثالث في أسماء القُرّاء وتَرتيبِهم، رضي الله عنهم أجمعين.

فالأول: أبو رُوَيم نافع بن عبدالرحمن بن أبي نُعَيم المدني، ثم أبو جعفر يَزيد بن القَعقَاع المدني، ثم أبو مَعبد عبدالله بن كثير المكي، ثم أبو عِمران عبدالله بن عامر، قارئ أهل الشام، ثم أبو بكر عاصِم بن أبي النَّجود الكوفي، ثم أبو عُمارة حمزة بن حبيب الزيّات الكوفي، ثم أبو الحسن عليّ بن حمزة الكِسائي الكوفي، ثم أبو محمد خَلَف بن هِشام البزّار الكوفي، ثم أبوعمرو زَبّان بن العلاء البصري، ثم أبو محمد يعقوب بن إسحاق الحضرمي البَصري»(14). وعّلل ذلك فقال رحمه الله: «قال صاحب الكتاب: وإنما بدأتُ بنافع اقتداءً بالإمام أبي بكر ابن مجاهد، حيث بدأ به في كتابه، ولأنه من السبعة، ولأنه قارئ المدينة، إذ بها نزل أكثر القراء(15)، وأتبعتُه بأبي جعفر لأنه كان من أهل المدينة، وجعلتُه بعده لأنه من العشرة، ولأَجمع بين أهل المدينة، وأتبعتُهما بابن كثير لأنه من مكة، وهي أقرب إلى المدينة، ولِأَجْمع بين أهل الحجاز، ثم أتبعتُهم بابن عامر لأنه لقي جماعةً من الصحابة، وروى الوليد بن مُسلم أنه قرأ على عثمان بن عفّان نفسِه، وقيل: إن وفاتَه قبل وفاة الجماعة، توفي في سنة ثمان عشرة ومائة، وذكرتُ بعده أهلَ الكوفة، وجمعتُ بينهم: فأوّلهم عاصم بن أبي النَّجود، وكانت وفاته سنة سبع وعشرين ومائة، وبعده أبو عُمارة حمزة بن حبيب الزيات، وبعده أبو الحسن عليّ بن حمزة الكسائي، ثم بعده خَلف بن هشام البزّار، فهؤلاء الأربعة أهل الكوفة، ثم ذكرتُ بعده أهل البصرة، وهم: أبوعمرو زبّان بن العلاء البصري، ويعقوب الحضرمي. فهذا بيان اعتذاري في ترتيبهم، أعني القراء العشرة»(16).

وقد صدر العُمَاني كتابَه الأوسط بذكر ابن كثير فقال رحمه الله: «قال أبو محمد: نُقدّم أولاً إمامَ أهل مكة وقارئَهم؛ إجلالا لبيت الله الحرام وتعظيما له»(17). ثم خصص بعد ذلك بابا ذكر فيه ترتيبَ القراء الثمانية، وألقابَهم، فقال رحمه الله: «باب ترتيب القراء الثمانية وذكر الألقاب الموضوعة لهم»، وبعد ذكر ألقابهم قال رحمه الله: «فأما ترتيب أسمائهم، فأولهم ذكرا في اللفظ والكتابة ابنُ كثير، ثم نافع. وعلى هذا جمهور الشيوخ بالعراق. ورأيت بعضهم يقدم نافعا على ابن كثير، والأول أشهر، ثم يليهما أبو عمرو لعلمه بالعربية ووجوهها، ثم ابن عامر، ومنهم من يقدِّمه على أبي عمرو. ثم عاصم، وربَّما قُدِّم على ابن عامر. ثم حمزة والكسائي. ثم يعقوب، وإنما أُخِّر اسمُه؛ لأنه تأخَّرَ عنهم، وإن كان سابقا في علمه وفضله»(18).

ولم تخل بعض شروح الحرز من تعليل ترتيب القراء في هذا النظم المبارك، فذكر السخاويُّ أن الشاطبيَّ «بدأ بنافع تفضيلا له علما ومحلا، وبه بدأ ابن مجاهد»(19) ثم ساق كلام ابن مجاهد في تعليل ذلك ، وكذا ذكر الفاسي(20) ، وابن آجروم(21). 

وقال الجعبري: «بدأ بنافع متابعة للتيسير، وابنِ مجاهد، ولأن المدينةَ أشرفُ عند مقلّده»، يقصد بمقلده الإمام مالكا رحمه الله(22)، ثم قال في شأن تقديم ابن كثير رحمه الله: «وثنى بابنِ كثير لأنه من أشرف الأماكن عند الأكثر؛ لوجوب قصدِها، مع قراءته على صحابي، وإليه أشار بكاثر القوم»(23).

وقال الفاسي عن تقديم أبي عمرو البصري عن باقي القراء الذين ذكروا بعده: «وتقديمه في النظم لانتشار قراءته»(24). وقال عن تقديم ابن عامر: «وتقديمه في النظم؛ لما ذُكر من قرب سنده، وفضل محلِّه، وليُفرق بينه وبين أبي عمرو لاقترانهما في النسبة العربية»(25). وقال الجعبري: «قدَّمه على الكوفيين لعلو سنده»(26).

وقال الفاسي عن تقديم عاصم على حمزة: «وتقديمه في النظم على حمزة لتقدم وقته في الإمامة؛ لأن حمزة، رحمه الله، إنما اشتهر بالإمامة بعد موت عاصم»(27). وقال الجعبري: «قدمه على الكوفيين لعلو سنده»(28). وتقديم حمزة على الكسائي لمنزلة المشيخة، وبهذا علل الفاسي والجعبري(29).

فهذه بعض النصوص، في ما وقفت عليه، في تعليل ترتيب القراء، تبين أن ترتيبهم لم يكن عبثا، وأنه كان يراعى فيه فضلُ قطر الإمام، وفضل القارئ، وغير ذلك من المعايير، وأكتفي بما ذكرت، والله الموفق للصواب، لا رب سواه.

  1.  إبراز المعاني ص6.
  2.  أشار الجعبري في الكنز 2/72 إلى أن الأهوازي بدأ بابن عامر، ولعل ذلك في كتابه الإيضاح أو غيره من كتبه المفقودة؛ إذ أنه صدّر كتابه الوجيز بنافع، وصدر كتابه الموجز بابن كثير، ولعل تصديره لابن عامر لعلو إسناده، والله أعلم.
  3.  الكنز ص111.
  4.  السبعة ص53.
  5.  السبعة ص87.
  6.  جامع البيان 1/48.
  7.  روضة المعدل 1/99.
  8.  المبسوط ص5.
  9.  النجوم الزاهرة 1/141.
  10. النجوم الزاهرة 1/144/145.
  11. النجوم الزاهرة 1/159.
  12. المستنير 1/204.
  13. التبصرة ص81.
  14. المصباح الزاهر 1/196.
  15. ذكر محقق الكتاب أنه في بعض النسخ «القرآن» بدل «القراء».
  16. المصباح الزاهر 1/197-199.
  17. الأوسط ص41.
  18. الأوسط ص69-70.
  19. فتح الوصيد 1/131.
  20. اللآلئ الفريدة 1/94.
  21. فرائد المعاني 1/38أ.
  22. كنز المعاني 2/71.
  23. كنز المعاني 2/75.
  24. اللآلئ الفريدة 1/98.
  25. اللآلئ الفريدة 1/100.
  26. كنز المعاني 2/83.
  27. اللآلئ الفريدة 1/102.
  28. كنز المعاني 2/86.
  29. اللآلئ الفريدة 1/104، كنز المعاني 2/89.

ذ.سمير بلعشية

  • باحث بمركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق