مركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصةدراسات عامة

تعليقة على نص أبي محمد ابن حزم في طرد الهـم «نص في علم النفس الاجتماعي»(2)

بسم الله الرحمـن الرحيم

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد فقد مضى في المقال السالف كلمة الحافظ ابن حزم الذي اقترى فيها من خلال دراسة نفسية اجتماعية ما تبغي الناس من سعيها، وما ترومه من كدحها، على اختلاف مشاربها، وتضارب مللها ونحلها، وتمايز مذاهبها، وتنوع أعراقها، وتفاوت منازلها في العلم والجاه، والمال والسلطان، فإذا شيء وحيد مرغوب، وهدف لا ثاني له مطلوب، وما سواه كالوسيلة في طرده، والسبب في مدافعته، والحيلة في إبعاده، حدده في طرد الهَمِّ وإزالته

وهي كلمة عريقة في الدراسة الاجتماعية، أثيلة في الأبحاث النفسية، بمنهج تجريبي استقرائي قد رام التنقيب والتجميع، ثم المقارنة والتحليل لدوافع الفرد والمجتمع في صيرورته الحياتية: أملا وألما، توقلا ونكوصا، مبادئ ومواقف، ثباتا عليها وتذبذبا أو تغيرا، في شتى مجالات المجتمع ومؤسساته: الثقافية والاقتصادية والسياسية وسواها؛ إذ الرجل بكل ذلك مطلع خبير، فقد نادم الملوك والسلاطين، وجالس الوزراء والأمراء،  وخبر أرباب الأعمال من كبار الصناع والتجار، وثافن العلماء والشعراء والمثقفين، ودرج في القصور وغرائبها، وطوحت به سنة التغيير الكونية إلى المنافي ومعاناتها: فقد عايش  أحداثا متقلبة، وتحولات جذرية أطاحت بدول ونهضت على أطلالها أخر، رمت به من  سني المقام، وسناء المنزلة، ورفه العيش، ورغد الحياة إلى مهوى النكبات، وسحيق الخطوب حتى وفاة أبيه الوزير أحمد بن سعيد، وقد كان لذلك التحول والبلاء بالغ التأثير وسيء الأثر، ولعله أحد أسباب حدته التي تفاجئ الناظر في مصنفاته.

فلا غضاضة ـ بعدئذ ـ أن تكون هذه الكلمة تحليلا عميقا للحراك الاجتماعي، وتفسيرا دقيقا للنفوس البشرية ونوازعها، وتوصيفا رصينا لميولاتها ودوافعها، فقد قضى علماء النفس أن للكائن البشري طاقة متأصلة حيوية تدفعه أبدا إلى  البحث والتنقيب عما يلائم غريزته البشرية، وحاجاته العضوية([1]).

وتلك الطاقة / الغريزة جزء من طبيعة الإنسان لا يمكن إنكارها أو كبتها، تتبدى في مظاهر لائحة بها ومن خلالها تحقق ماهيتها، وتعزز ذاتها،  إلا أنها ـ لحسن حظ البشرية ـ تجليات خارجية ليست من ماهية الإنسان في شيء، فأمكن مدافعتها تحويلا أو تقليلا أو إزالة.

فمعاناة الهموم والأحزان في كلمة ابن حزم رحمه الله لا تخرج عن مظاهر غريزة حب البقاء، التي تتمثل في عديد المظاهر كالخوف والرجاء، والغضب والرضا، وحب التملك، والنزوع إلى الطمع والادخار، والبخل والحسد، والتكتل والاجتماع، والحزن والأسى وسواها مما يؤول إلى نزعة حب البقاء، والتشبث بأذيال الحياة

ومن أجلى مظاهر غريزة البقاء ما رسم في هذه الآية الكريمة من قوة جزع الكائن البشري عند الضراء، وشدة بطره عند السراء، قال تعالى: (لا يسئم الإنسان من دعاء الخير وإن مسه الشر فيئوس قنوط، ولئن أذقناه رحمة منا من بعد ضراء مسته ليقولن هذا لي وما أظن الساعة قائمة ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى فلننبئن الذين كفروا بما عملوا ولنذيقنهم من عذاب غليظ وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونئا بجانبه، وإذا مسه الشر فذو دعاء عريض) [الشورى:48-50] رسم دقيق للنفس البشرية([2]): يصورها في تقلبها وضعفها ومرائها وحبها للخير وجحودها للنعمة واغترارها بالسراء، وجزعها من الضراء؛ فإذا ما مسه شدة أو وقع به لأواء فقد المنى والأمل، فضاق صدره، وكبر همه، إلى حد اليأس من روح الله، والقنوط من رعايته سبحانه، حتى لكأن الخير ناء عنه إلى الأبد، وكأن الشدة جاثمة على صدره مدى الدهر، وتلك حال تعتري كل كائن بشري اهتزت ثقته بالرحمـن الرحيم، ولما تُهذب غريزته بالكتاب الكريم، وهو المروم بالاستثناء في قوله تعالى: (ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نزعناها منه إنه ليئوس كفور ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليقولن ذهب السيئات عني إنه لفرح فخور إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة وأجر كبير) [هود: 9-11]، قال الفخر: «وحاصل الكلام أنه تعالى حكم على هذا الإنسان بأنه يئوس كفور، وتقريره أن يقال: إنه حال زوال تلك النعمة يصير يؤوسا، وذلك لأن الكافر يعتقد أن السبب في حصول تلك النعمة سبب اتفاقي، ثم إنه يستبعد حدوث ذلك الاتفاق مرة أخرى، فلا جرم يستبعد عود تلك النعمة فيقع في اليأس، وأما المسلم الذي يعتقد أن تلك النعمة إنما حصلت من الله تعالى وفضله وإحسانه وطوله؛ فإنه لا يحصل له اليأس، بل يقول: لعله تعالى يردها إلي بعد ذلك أكمل وأحسن وأفضل مما كانت، وأما حال كون تلك النعمة حاصلة فإنه يكون كفورا؛ لأنه لما اعتقد أن حصولها إنما كان على سبيل الاتفاق أو بسبب أن الإنسان حصلها بسبب جده وجهده، فحينئذ لا يشتغل بشكر الله تعالى على تلك النعمة.

فالحاصل أن الكافر يكون عند زوال تلك النعمة يؤوسا، وعند حصولها يكون كفورا»([3]).

وبالجملة فخوف الإنسان أساس هذا التشبث حد الإفراط بكل ما من شأنه ـ حسب اعتقاده ـ أن يزيح عنه شبح الهموم والأوهام، ويسبل عليه مسوح السعادة والاطمئان، فيبطر عند الفرح، ويجأر بالشكاة والبكا عند الترح في تمام غفلة عما يرفل فيه من بواقي النعم، وذهول عن لحظات البِشر، ونسيان لفترات الرغد : طبيعة بشرية في النكران، وسجية آدمية في الجحود: ﴿وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونئا بجانبه وإذا مسه الشر كان يئوسا﴾[الإسراء:83]: قال في التحرير والتنوير: «وجملة ﴿وإذا مسه الشر كان يئوسا﴾ احتراس من أن يتوهم السامع من التقييد بقوله: ﴿وإذا أنعمنا﴾ أنه إذا زالت عنه النعمة صلح حاله، فبين أن حاله ملازم لنكران الجميل في السراء والضراء، فإذا زالت النعمة عنه لم يُقلع عن الشرك والكفر ويتب إلى الله، ولكنه ييأس من الخير، ويبقى حنقا ضيق الصدر لا يعرف كيف يتدارك أمره»([4])

وفي ذات المعنى يقسم الحق سبحانه بالأيمان الخمس على كنود الإنسان:﴿إن الإنسان لربه لكنود﴾ [العاديات:6] وفي الأثر عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم: ﴿الكنود هو الكفور الذي يمنع رفده، ويأكل وحده، ويضرب عبده﴾، وقال الحسن البصري: «الكنود اللوام لربه يعُد المحن والمصائب، وينسى النعم والراحات» قال الفخر في المفاتيح: «إن حملناه على الكل كان المعنى أن طبع الإنسان يحمله على ذلك إلا إذا عصمه الله بلطفه وتوفيقه من ذلك»([5])

والكند يرتد في معناه اللغوي إلى القطع([6])، يقال: كند الحبل يكنده كندا، ومنه تتفرع معانيه القريبة، ومنه الأرض الكنود التي لا تنبت، والجحود والبخيل، والداعي إلى كل ذلك هلع من المجهول، ولهث دائب في تأمين المستقبل المأمول؛ حتى استوجب هذا الكائن وصفا لازبا لا فكاك منه في قوله سبحانه: (قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذا لأمسكتم خشية الإنفاق وكان الإنسان قتورا) [الإسراء:100] وهي مادة (قتر) تدل على تجميع وتضييق واكتناز؛ مخافة الإقلال والإملاق، وهو همٌّ يضاف إلى هموم مجانية ينوء بها الإنسان، ولعل ذلك من معنى قوله سبحانه في وصف أهل الجنة في الجنة: (ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة)؛[يونس:26] إذ القتر الغبار، وما يغشى الوجه من كرب([7])، وإليه الإشارة في وصف وجوه أهل النار:(وجوه يومئذ عليها غبرة ترهقها قترة) [عبس:40،41]   قال الرازي: (وكان الإنسان قتورا) أي بخيلا.. فإن قيل: فقد دخل في الإنسان الجواد الكريم؟ فالجواب من وجوه. الأول: أن الأصل في الإنسان البخل؛ لأنه خلق محتاجا، والمحتاج لا بد أن يحب ما به يدفع الحاجة، وأن يمسكه لنفسه إلا أنه قد يجود به لأسباب من خارج، فثبت أن الأصل في الإنسان البخل. الثاني: أن الإنسان إنما يبذل لطلب الثناء والحمد وللخروج عن عهدة الواجب، فهو في الحقيقة ما أنفق إلا ليأخذ العوض، فهو في الحقيقة بخيل»([8])

فتحصل أن الكائن البشري خلق ضعيفا كنودا جحودا قتورا..؛ لخوفه وهلعه ما لم يروض بقيم الوحي ومبادئه، ولهذا السبب كتب «دان جريغوري» عن هذا الكائن وضعفه كتابا بعنوان:  «أناني وخائف وغبي»: فنحن كائنات جبانة نخاف الموت والفشل، ونهاب الرفض والعزلة والمجهول، ونخشى المرض والتقدم في العمر.. ونرتجف من فقد المكانة والشهرة والوظيفة.. كما نرتعد من الظلام  والأشباح الخيالية، وبعضنا في رعب من المتغيرات العادية.. وفي فزعنا المتوهم المفرط استثمرت الشركات العملاقة عن طريق إنتاج مسكنات لحظية لارتياعنا المكبوت في دواخلنا.

وعليه فكائن هذه صفته لابد أن يلهث لطرد الهـم المرخي سدوله عليه جراء ارتعابه من تخيل الأخطار المحدقة بحياته، وانذعاره من توقع المدلهمات المتربصة ببقائه، بيد أن ذلك ـ لكونه مظهرا لغريزته لا جرما من ماهيته ـ يمكن معالجته إجمالا بتحويل فَرَقه مما حوله  إلى خشيته من خالقه، والرضا بقضائه وقدره، وأن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه؛ ليسكن روعه، ويهنأ خاطره، فيزول همُّه،  وفي سبيل ذلك يسمو كتاب الله بنفسية الكائن البشري من حضيض ملاحظة تصرفات المخلوق رغبا ورهبا إلى يفاع الفناء في الخالق خوفا وطمعا؛ تهوينا لما حقه التهوين من أقوال الخليقة و أفعالها، ولقد قالت ملأ قريش لما صرفت القبلة إلى الكعبة: «قد رجع إلى قبلتكم فيوشك أن يرجع إلى دينكم»([9])  فأنزل الله:+فلا تخشوهم واخشوني) [البقرة:149] قطعا للالتفات إلى مقولتهم، وتساميا بالأمة عن تخرصاتهم، مع ما في ذلك من الغض الشديد من شأنهم، والتهوين من قيمتهم.

وقد أتت هذه التربية أكلها في إقدام أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بعد غزاة أحد في مواعدة أبي سفيان للقاء،  فعن عكرمة مولى ابن عباس قال: كانت بدرًا متجرًا في الجاهلية، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم واعد أبا سفيان أن يلقاه بها، فلقيهم رجل فقال لهم: إن بها جمعا عظيما من المشركين. فأما الجبان فرجع، وأَما الشجاع فأخذ أُهبة التجارة، وأهبة القتال، وقالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل. ثم خرجوا حتى جاؤوها فتسوقوا بها، ولم يلقوا أحَدًا؛ فنزلت: (الذين قال لهم الناس) إلى قوله: (بنعمة من الله وفضل) ([10])؛ ذلك أن أكثر الخوف توهم لا حقيقة، ولعل ذلك من معنى قوله سبحانه (إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه)، وفي قراءة ابن عباس رضي الله عنهما: «يخوفكم أولياءه»([11])، ويؤيدها قوله سبحانه: (الشيطان يعدكم الفقر) [البقرة:267] فالأليق بالكائن البشري مدافعة المتوهم من خلال التشبث بالمتيقن: (فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين) [آل عمران:175] فمن خاف شيئا غير خالقه سلط عليه قهرا وإذلالا (وإنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا) [الجن:6] ومن خاف الله أمن، واطمأن قلبه، وسكنت نفسه للحقيقة الكلية القاطعة (قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو موليـنا وعلى الله فليتوكل المومنون)[التوبة:51]

([1]) علم النفس معرفة النفس الإنسانية في القرآن والسنة د سميح عاطف الزين: 1/153 وما بعدها. دار الكتاب اللبناني

([2]) ن علم النفس «معرفة النفس الإنسانية في القرآن والسنة» د سميح عاطف الزين: 1/141 .

([3]) مفاتيح الغيب:17/322.

([4]) التحرير والتنوير: 15/193.

([5]) ن مفاتيح الغيب للرازي:32/261.

([6]) مقاييس اللغة لابن فارس: (كند).

([7]) مقاييس اللغة لابن فارس: (قتر).

([8]) مفاتيح الغيب:21/413.

([9]) ن  موسوعة التفسير المأثور:3/ 164

([10]) ن  موسوعة التفسير المأثور:5/ 705.

([11]) ن  موسوعة التفسير المأثور:5/ 713.  سورة آل عمران:[آيات: 173، 174، 175]

د. عبد الهادي السلي

  • باحث بمركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق