مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةقراءة في كتاب

لغة القرآن وبلاغته من خلال كتاب: «معارج التفكر ودقائق التدبر» الشيخ عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني «الفاصلة القرآنية: سورة المدثر أنموذجا» «الحلقة الرابعة»

الفاصلة القرآنية في سورة المدثر:

وعن فواصل سورة المدثر يقول سيد قطب: «وهذه السورة قصيرة الآيات، سريعة الجريان، منوعة الفواصل والقوافي، يتئد إيقاعها أحياناً، ويجري لاهثاً أحياناً! وبخاصة عند تصوير مشهد هذا المكذب وهو يفكر ويقدر ويعبس ويبسر، وتصوير مشهد سقر، لا تبقي ولا تذر، لواحة للبشر، ومشهد فرارهم كأنهم حُمُرٌ مُستنفَرة فرت من قسورة! وهذا التنوع في الإيقاع والقافية بتنوع المشاهد والظلال يجعل للسورة مذاقاً خاصاً؛ ولا سيما عند رد بعض الفواصل ورجعها بعد انتهائها كقافية الراء الساكنة: المدثر، أنذر، فكبر، وعودتها بعد فترة : قدر،  بسر، استكبر، سقر، وكذلك الانتقال من قافية إلى قافية في الفقرة الواحدة مفاجأة ولكن لهدف خاص  عند قوله: « فما لهم عن التذكرة مُعرِضين؟ كأنهم حمر مستنفرة، فرت من قسورة »، ففي الآية الأولى كان يسأل ويستنكر، وفي الثانية والثالثة كان يصور ويسخر! وهكذا»[1].

عند التمعن في سورة المدثر نجد أن الفاصلة تتغير بتغير الموضوع، فما إن نجد الفاصلة المنتهية بحرف الراء المسبوقة بحرف متحرك كما جاء في قوله تعالى: «المدثر- أنذر- كبر- طهر…» حتى يتغير الموضوع للحديث عن مشاهد يوم القيامة وأحوال الآخرة فتتغير إيقاعات الفاصلة إلى راء قبلها حرف مد «الناقور- عسير- يسير»، فإذا انتهت المشاهد الأخروية بدأت مشاهد تهديد ووعيد للمكذبين تتغير الفاصلة في قوله جل وعز: «وحيدا، ممدودا، شهودا، تمهيدا، أزيد، عنيدا، صعودا».

وفي هذا المقام سنقف عند فواصل سورة المدثر وقد قسمناها حسب تغيرها في كل مقاطع الآيات وقد جاءت كالتالي:

1- الفاصلة المنتهية بحرف الراء التي يسبقها حرف متحرك مكسور،  وقد تكررت في السورة في ست كلمات: « المدثر، فأنذر، فكبر، فطهر، تستكثر، فاصبر» وعن صفات حرف الراء يذكر إبراهيم أنيس: على أنه قد يتسع الفراغ مع بعض الأصوات اتساعا كبيرا يسمح بمرور الهواء دون أن يحدث نوع من الصفير أو الحفيف، ويلاحظ هذا مع اللام والنون والميم والراء، ولعل هذا هو الذي دعا القدماء إلى تسمية هذه الأصوات الأربعة بالأصوات المتوسطة، أي التي ليست انفجارية ولا احتكاكية[2]، وقد استهلت السورة الكريمة بـ «يا» وهو حرف نداء، و«أيُّها» منادى مبني على الضم؛ لأنها نكرة مقصودة، والهاء للتنبيه [3]، وهو نداء موجه من الله عز وجل للرسول محمد صلى الله عليه وسلم، بعد أن فزع من مشاهدة جبريل عليه السلام قاعدا على كرسي بين السماء والأرض، لما سمع صوتا من السماء فرفع بصره إلى جهته، فإذا الملك الذي جاءه، وأملى عليه الآيات الخمس من صدر سورة العلق، ومن شدة فزع الرسول عليه السلام هوى إلى الأرض، فنهض وجاء إلى أهله مذعورا، وقال: زَمِّلوني زَمِّلوني، دثِّروني، فدثَّروه وزمَّلوه، وقبع جالسا في بيته يترقب الأحداث التي ستأتيه من قبل ربه، فجاءه الوحي وقال له: يا أيها المدثر حتى قوله: ولربك فاصبر[4] كما جاء في صحيح البخاري قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: « جاورتُ في حراءٍ، فلما قضيتُ جواري هبطتُ، فاستبطنت الواديَ فنوديتُ فنظرتُ أمامي وخلفي، وعن يمِينِي وعن شمالِي، فإذا هو جالسٌ على كرسي بين السماءِ والأرضِ، فأتيتُ خدِيجةَ فقلتُ: دثرُونِي، وصُبُّوا عليَّ ماءً باردًا، وأُنْزلَ عَلَيَّ: «يَا أَيُّهَا المُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ» [المدثر: 1-2][5].

ولذلك نلحظ أن الراء في هذه الآيات جاءت قوية حسب ما يقتضيه سياق الخطاب وزمانه، ففعل الأمر «قُمْ» فيه نوع من الشدة والقوة وهو أمر من الله تعالى لنبيه الكريم، لأن طبيعة الأوامر تحتاج لقوة حتى يتم تنفيذها، ولا يناسب ذلك إلا فاصلة رائية تمتلك خصائص القوة حتى تصل إلى المأمور.

2- ثم الفاصلة التي تنتهي بحرف الراء يسبقها حرفي الواو والياء، جاءت في الفواصل التالية: « الناقور، عسير، يسير».وفيها تتغير الفاصة من موضع الراء القوية الثابتة بالسكون التي تتناسب مع سياق الأمر والتوجيه وهول ذلك اليوم العظيم، إلى الراء المسبوقة بحرفي الواو والياء، يقول سيد قطب في وصف ذلك المشهد:  «والنقر في الناقور، هو ما يعبر عنه في مواضع أخرى بالنفخ في الصور، ولكن التعبير هنا أشد إيحاء بشدة الصوت ورنينه؛ كأنه نقر يصوّت ويدوّي، والصوت الذي ينقر الآذان أشد وقعاً من الصوت الذي تسمعه الآذان، ومن ثم يصف اليوم بأنه عسير على الكافرين، ويؤكد هذا العسر بنفي كل ظل لليسر فيه: «عَلَى الكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ»، فهو عسر كله، عسر لا يتخلله يسر، ولا يفصل أمر هذا العسر، بل يدعه مجملاً مجهلاً يوحي بالاختناق والكرب والضيق، فما أجدر الكافرين أن يستمعوا للنذير، قبل أن ينقر في الناقور، فيواجههم هذا اليوم العسير العسير!»[6].

3- ثم الفاصلة المنتهية بحرف الدال الذي يسبقه حرفي الياء والواو ومثاله في السورة: «وحيدا، ممدودا، شهودا، تمهيدا، أزيد، عنيدا، صعودا». وفي هذا المقام جاءت الفواصل مختومة بحرف الدال المتبوع بألف الإطلاق، والدال من أحرف القلقلة، وعنه يقول إبراهيم أنيس: «فكل من هذه الأصوات الباء الدال التاء الكاف والجيم صوت شديد، والصفة التي تجمع بينها هي انحباس الهواء معها عند مخرج كل منها انحباسا لا يسمح بمروره حتى ينفصل  العضوان فجأة ويحدث النفس صوتا انفجاريا»[7]، فجاءت نغمة الحرف قوية شديدة، وهذا الأسلوب من التعبير يتضمن تهديدا ووعيدا شديدا لمن يراد تهديده ووعيده، وهذا التهديد موجه من الرب الخالق جل جلاله، لا من الرسول صلى الله عليه وسلم[8]، وهنا يرتعش الحس ارتعاشه الفزع المزلزل؛ وهو يتصور انطلاق القوة التي لا حد لها، قوة الجبار القهار، لتسحق هذا المخلوق المضعوف المسكين الهزيل الضئيل! وهي الرعشة التي يطلقها النص القرآني في قلب القارئ والسامع الآمنين منها، فما بال الذي تتجه إليه وتواجهه![9].

وجاءت الفاصلة المشتملة على صوتين ممدودين لتسهم في الإيحاء بصورة النغمة السابقة، لأن امتداد الصوت  مرتين في نهاية هذه الآيات القصيرة يسمح للإيقاع الممدود بالوضوح التام في الأسماع، فيوحي إليها بصورة الامتداد والاتساع وهي صورة المعنى المقصود، هكذا يتضح كيف تؤدي حروف اللين التي تكثر في فواصل القرآن وظائفها الإيقاعية والمعنوية في بلاغة الآيات.

4- ثم الفاصلة التي تنتهي بحرف الراء يسبقها حرف متحرك مفتوح وهي كما يلي: « قدر، نظر، بسر، استكبر، يؤثر، البشر، سقر، تذر، تسعة عشر، القمر، أدبر، أسفر، الكبر، يتأخر» ثم يرسم تلك الصورة المبدعة للسخرية والرجل يكد ذهنه، ويعصر أعصابه ويقبض جبينه وتكلح ملامحه وقسماته، كل ذلك ليجد عيبا يعيب به هذا القرآن، وليجد قولا يقول فيه: « إنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ نَظَرَ ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ»[10]، وفي قوله تعالى: «فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ»، فــ «ثم» حرف عطف للترتيب والتراخي، وأتى بها للدلالة على أن هذه الجملة أبلغ من الجملة الأولى، فهي للتفاوت في الرتبة، وهي مؤكدة لنظيرتها المتقدمة، فالتكرار للتأكيد[11].

ونرى أن فواصل هذه الآيات قد جاءت متمكنة في مكانها مستقرة في مواضعها تتناسب مع مشهد الرجل وهو يقطب وجهه حينا ويرسله حينا آخر، عله يجد مخرجا، وهذا الموقف العصيب يتناسب تناسبا واضحا مع الفاصلة الرائية ذات الصفات القوية، كما أن حركة الفتح قبل حرف الراء تتناسب والمشهد المتحرك الواضح. يقول سيد قطب: «إنها لمحات حية يثبتها التعبير القرآني في المخيلة أقوى مما تثبتها الريشة في اللوحة، وأجمل مما يعرضها الفيلم المتحرك على الأنظار! وإنها لتدع صاحبها سخرية الساخرين أبد الدهر، وتثبت صورته الزرية في صلب الوجود، تتملاها الأجيال بعد الأجيال»[12].

وتتكرر نفس الفاصلة في الوعيد المفزع لهذا الكافر في قوله تعالى: «سَأُصْلِيهِ سَقَر وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَر لاَ تُبْقِي وَلاَ تَذَر لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَر عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَر وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلاَّ مَلاَئِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلاَ يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَمَا هِيَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْبَشَر كَلاَّ وَالْقَمَر وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَر وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَر إِنَّهَا لإِحْدَى الْكُبَر نَذِيرًا لِّلْبَشَر لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّر» [المدثر: الآيات: 26-37]، فالفاصلة الرائية تأتي متناسقة مع هذه الألفاظ الشديدة وحرف الراء يتناسب مع قوة هذا الوعيد الذي جاء فيه التعبير عن النار بسقر وهو اسم من أسماء جهنم، وسقر ممنوع من الصرف للعلمية والتأنيث لأنه اسم بُقعة من جهنم أو اسم جهنم وقد جرى ضمير سقر على التأنيث في قوله تعالى : «لا تُبقي» إلى قوله: «عليها تسعة عشر»[13]. وقوله: «و ما أدراك ما سقر» جملة حالية من  «سقر»، أي سقر التي حالها لا ينبئك به مُنبىء وهذا تهويل لحالها. و «ما سقر»  في محل مبتدإ وأصله سقر مَّا، أي ما هي، فقدّم  «ما»  لأنه اسم استفهام وله الصدارة.

فإن «ما» الأولى استفهامية، والمعنى: أيُّ شيء يدريك، أي يعلمك[14]، و  «ما» الثانية استفهامية في محل رفع خبر عن «سقر»، وجملة «لا تبقي»  بدل اشتمال من التهويل الذي أفادته جملة  «وما أدراك ما سَقر»،  فإن من أهوالها أنها تهلك كل من يصلاها، والجملة خبر ثان عن سقر[15]، ولفظة سقر لها نبرة مخيفة ترتجف النفس عند سماعها ولهذا وصفت بأنها لا تبقي ولا تذر، وهذه العبارة – وما أدراك ما سقر- وأشباهها في القرآن صيغة من صيغ التعجيب القرآنية المبتكرة ضمن قواعد اللسان العربي[16].

والبشر: يكون جمع بشرة، وهي جلد الإِنسان، أي تغير ألوان الجلود فتجعلها سوداً، ويكون اسم جمع للناس لا واحد له من لفظه، وقوله : «عليها تسعة عشر» خبر رابع عن  «سَقر» من قوله : «وما أدراك ما سقر». ومعنى «عليها»  على حراستها، فـ «على» للاستعلاء المجازي بتشبيه التصرف والولاية بالاستعلاء كما يقال: فلان على الشرطة، أو على بيت المال، أي يلي ذلك والمعنى: أن خزنة سقر تسعة عشر مَلَكاً، وقال جمع: إن عدد تسعة عشر: هُم نقباء الملائكة الموكلين بجهنم [17]. وتتوالى هذه الفاصلة في قوله: «وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ» إلى «لِمَنْ شَاءَ مِنْكُم أَنْ يَتَقَدَّمَ وَيَتَأَخَّرَ»، وهذه الفاصلة الرائية تنسجم ومشهد حركة الخلق في تكرار مسيرة خلقهم منذ آدم عليه السلام، كما تتسق الفاصلة مع حركة القمر المتكررة الدالة على عظمة الخالق سبحانه وتعالى.

فأقسم تعالى بالقمر، وبالليل وقت إدباره، والنهار وقت إسفاره، لاشتمال المذكورات على آيات الله العظيمة، الدالة على كمال قدرة الله وحكمته، وسعة سطانه، وعموم رحمته، وإحاطة علمه، والمقسم عليه قوله: «إِنَّهَا» أي: النار، «لإحْدَى الْكُبَرِ» أي: لإحدى العظائم الطامة والأمور الهامة، فإذا أعلمناكم بها، وكنتم على بصيرة من أمرها، فمن شاء منكم أن يتقدم، فيعمل بما يقربه من ربه، ويدنيه من رضاه، ويزلفه من دار كرامته، أو يتأخر عما خلق له و عما يحبه الله ويرضاه، فيعمل بالمعاصي، ويتقرب إلى نار جهنم، كما قال تعالى: «وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ»[18].

5- ثم الفاصلة التي تنتهي بحرف التاء المربوطة والمسبوقة بحرف النون وردت في لفظة «رهينة»، بمعنى محبوسة، ورهين بمعنى محبوس، وهو مما شاع في الاستعمال، وأصل الرهينة الرهن مصدرا بوزن فعيلة كالشتيمة والشتم، وجاء في سورة الطور قول الله عز وجل: « كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ»[الطور: 21]، أي: محبوس في دار العذاب بسبب ما كسب من جرائم تستوجب في عدل الله حبسه فيه حبسا أبديا[19]، وهي كل نفس مكلفة كاسبة لأعمالها باختيارها الحر، مسؤولة عند الله عما كسبت لمحاسبتها ومجازاتها، ستكون محبوسة بما كسبت يوم الدين في دار العذاب حبسا أبديا لا نهاية له[20]. ونجد أن هذه الحالة للنفس الضعيفة المنكسرة أمام ما قدمت من أعمال سيئة استوجبت بها الذل والهوان والضعف لا يناسب الفاصلة التي وردت فيها إلا التاء المربوطة ذات الصفات الضعيفة المربوطة كرباط النفس بأعمالها.

6- ثم الفاصلة المنتهية بحرف النون الذي يسبقه حرفي الواو والياء في قوله: « اليمين، يتساءلون، الخائضين، الدين، اليقين، الشافعين، معرضين» ونلحظ أن حرف النون واضح المعالم في هذه الآيات وفيه ينساق موضوعها، وفي هذا المقام يذكر إبراهيم أنيس: «أن اللام والميم والنون أكثر الأصوات  الساكنة وضوحا، وأقربها إلى طبيعة أصوات اللين، ومن الممكن أن تعد حلقة وسطى بين الأصوات الساكة وأصوات اللين، ففيها من صفات الأولى أن مجرى النفس معها تعترضه حوائل، وفيها أيضا من صفات أصوات اللين أنها لا يكاد يسمع لها أي نوع من الحفيف. وأصوات اللين في اللغة العربية هي ما اصطلح على تسميته بالحركات من فتحة وكسرة وضمة، وكذلك ما سموه بالألف اللينة والياء اللينة والواو اللينة، وما عدا هذا فأصوات ساكنة»[21] ، فالكافرون المكذبون بيوم الدين يجرهم تكذيبهم لارتكاب الجرائم الكبرى، فسيكونون مرتهنين محبوسين حبسا أبديا في دار العذاب يوم الدين، وأما المؤمنون أصحاب اليمين فهم مستثنون من هذا الحبس الأبدي في دار العذاب. واقتطع النص من أحداث المستقبل حوارا سيجري بين بعض أصحاب الجنة ومعارفهم في الدنيا من نزلاء سقر، وعرضه كأنه حدث جرى في زمان مضى، وهذا من بدائع القرآن الفنية، التي يكون التعبير فيها عما سيحدث في المستقبل حتما، بعبارات الأحداث الماضية[22]. فالفاصلة النونية تناسبت مع السياق التي سيقت لها الآيات مع إصدار الحكم الثابت على الكافرين بأنهم لا تنفعهم شفاعة شافع بسبب جحودهم وإعراضهم وتكذيبهم ليوم الدين.

7- وختمت السورة بالفاصلة التي انتهت بحرف التاء المربوطة مسبوقة بحرف الراء المتحرك في ألفاظ  « مستنفرة، قسورة، منشرة، الآخرة، تذكرة، ذكره، المغفرة».

وتأتي الصورة البيانية في آيات هذه الفاصلة منسجمة مع طبيعة المشهد النفسي، وهذا النص يشبه المجرمين المعرضين بنفور عن تذكرة القرآن التي لا قهر فيها ولا غلبة ولا قسر، بحمر الوحش التي تشتد في النفور، إذا أحست بأسد يترصدها لافتراسها[23].

وفي تشبيه عامتهم بالحمر إيماء إلى ضعف عقولهم، وقلة إدراكهم لحقائق الأمور، وسخف تصرفهم تجاه بيانات القرآن ودعوة الرسول صلى الله عليه وسلم، ونلاحظ في هذا التشبيه أنه قد شبهت حالة نفورهم النفسي عن القرآن، وعن دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم بحالة النفور الحسي الذي يكون من حمر الوحش إذا أحست بالأسد أو بجماعة الرماة.

وفي اختيار لفظ القَسْورَة المأخوذ من القسر، إيماء إلى أن أذكياءهم يشعرون بأن سلطان البراهين والحجج والاقناعات والترغيبات القرآنية قادرة على قسر عقولهم ونفوسهم وقلوبهم ومحاصرتهم من كل جانب، فتوقعهم في أسر الإيمان، وهو أمر لا يريدونه، إذ لا يريدون مخالفة أهوائهم وشهواتهم ونوازغ كِبْرهم، ورغباتهم في الفجور، فهم ينفرون منه[24]، وهذه الحالة المرتعشة لذلك القطيع من الحمير لا يناسبها إلا الفاصلة المنتهية بالتاء المربوطة الضعيفة في الصفات.

تلك هيئتهم الخارجية  «حمر مستنفرة، فرت من قسورة »، إن في هذا التشبيه لإبداعا عجيبا، فالمشبه به نافرات من الحمر الوحشية، وللحمار في التشبيه معنى الغباء وضعف الإدراك، لكن هذه الحمر أحسن حالا، فهي تنفر من قسورة[25]، ثم لا يدعهم حتى يرسم نفوسهم من الداخل، وما يعتلج فيها من المشاعر فيقول تعالى:« بل يريد كل امرئ منهم أن يؤتى صحفاً منشرة ».

فهو الحسد للنبي صلى الله عليه وسلم أن يختاره الله ويوحي إليه؛ والرغبة الملحة أن ينال كل منهم هذه المنزلة، وأن يؤتى صحفاً تنشر على الناس وتعلن، ولا بد أن الإشارة هنا كانت بصدد الكبراء الذين شق عليهم أن يتخطاهم الوحي إلى محمد بن عبد الله، فقالوا: «لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم؟»، ولقد علم الله أين يضع رسالته واختار لها ذلك الإنسان الكريم الكبير العظيم.

ثم يستمر في رسم صورة النفوس من داخلها، فيضرب عما ذكره من ذلك الطمع والحسد، ويذكر سبباً آخر للإعراض والجحود، وهو يردع في نفوسهم ذلك الطمع الذي لا يستند إلى سبب من صلاح ولا من استعداد لتلقي وحي الله وفضله: « كلا بل لا يخافون الآخرة»، وعدم خوفهم من الآخرة هو الذي ينأى بهم عن التذكرة، وينفرهم من الدعوة هذه النفرة، ولو استشعرت قلوبهم حقيقة الآخرة لكان لهم شأن غير هذا الشأن المريب[26].

ثم يردعهم مرة أخرى، وهو يلقي إليهم بالكلمة الأخيرة، ويدعهم لما يختارون لأنفسهم من طريق ومصير:« كلا! إنه تذكرة فمن شاء ذكره »، إنه هذا القرآن الذي يعرضون عن سماعه، وينفرون كالحمر، وهم يضمرون في أنفسهم الحسد لمحمد، والاستهتار بالآخرة، إنه تذكرة تنبه وتذكر، فمن شاء فليذكر، ومن لم يشأ فهو وشأنه، وهو ومصيره، وهو وما يختار من جنة وكرامة، أو من سقر ومهانة.

وبعد أن يثبت مشيئتهم في اختيار الطريق يعقب بطلاقة المشيئة الإلهية، وعودة الأمور إليها في النهاية، وهي الحقيقة التي يحرص القرآن على تقريرها في كل مناسبة لتصحيح التصور الإيماني من ناحية طلاقة المشيئة الإلهية وشمولها الكامل الأخير، وراء جميع الأحداث والأمور: «وما يذكرون إلا أن يشاء الله، هو أهل التقوى وأهل المغفرة»، فكل ما يقع في هذا الوجود، مشدود إلى المشيئة الكبرى، يمضي في اتجاهها وفي داخل مجالها، فلا يقع أن يشاء أحد من خلقه ما يتعارض مع مشيئته، ومشيئته تسيطر على أقدار الوجود كله، وهي التي أنشأته وأنشأت نواميسه وسننه، فهو يمضي بكل ما فيه وكل من فيه في إطار من تلك المشيئة المطلقة من كل إطار ومن كل حد ومن كل قيد [27].

وختمت السورة بعبارة التلويح بالترهيب والترغيب، فالترهيب جاء في وصف الله عز وجل لأنه هو أهل التقوى، والترغيب جاء في وصفه بأنه هو أهل المغفرة.

ومن خلال ما تقدم فالفاصلة القرآنية لها تأثير مباشر في بناء الجملة القرآنية، فهي تضيف للنص القرآني قيمة صوتية منتظمة، فمن خلال توازن الجمل والعبارات يتولد أثر جمالي يفوق في ذلك وزن الشعر وقافيته، بحيث يمتاز بالأثر الذي يحدثه على أذن المستمع وبقوة وقعه على النفس، فالفواصل القرآنية لها قيمة بارزة على مستوى الجرس الصوتي والدلالة المعنوية معا، فأحسن الفواصل ما تساوت قراءﺗﻬا.

فكما احتوت السورة جمال الفواصل في  ألفاظها وتركيبها ومعانيها، ضمت كذلك أساليب بلاغية، فجاءت ألفاظها وصيغها في أسلوب ينساب في عذوبة وسلاسة، وحسن تركيب، وبديع ترتيب، سنتحدث عن تلك الأساليب في الحلقة المقبلة إن شاء الله.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

[1] في ظلال القرآن، سيد قطب، ص:6/3753-3754.

[2] الأصوات اللغوية، إبراهيم أنيس، ص: 26.

[3] إعراب القرآن الكريم وبيانه، محيي الدين درويش،  8/109.

[4] معارج التفكر ودقائق التدبر، عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني، 1/57.

[5] الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه  صحيح البخاري، محمد بن إسماعيل أبو عبدالله البخاري الجعفي، تحقيق: محمد زهير بن ناصر الناصر، دار طوق النجاة (مصورة عن السلطانية بإضافة ترقيم ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي) الطبعة: الأولى، 1422هـ، 6/162.

[6] في ظلال القرآن، 6/3755.

[7] الأصوات اللغوية، ص: 25.

[8] معارج التفكر ودقائق التدبر، 1/99.

[9] في ظلال القرآن، 6/3756.

[10] نفسه، 6/3757.

[11] إعراب القرآن الكريم وبيانه، 8/128.

[12] في ظلال القرآن، 6/3757.

[13] التحرير والتنوير، الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور، 29/311.

[14] نفسه، 29/311.

[15] نفسه، 29/312.

[16] معارج التفكر، 1/110.

[17] التحرير والتنوير، 29/312.

[18] تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، عبد الرحمن بن ناصر بن عبد الله السعدي، تحقيق: عبد الرحمن بن معلا اللويحق، مؤسسة الرسالة الطبعة: الأولى 1420هـ -2000 م، ص: 897.

[19] معارج التفكر، 1/129.

[20] نفسه، 1/130.

[21] الأصوات اللغوية، ص: 28-29

[22] معارج التفكر، 1/127-128

[23] نفسه، 1/141.

[24] نفسه، 1/141.

[25] نفسه، 1/147.

[26] في ظلال القرآن، 6/ 3762-3763.

[27] نفسه، 6/ 3763.

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق