وحدة الإحياءدراسات عامة

تصنيف العقود وآثارها في قانون الالتزامات والعقود المغربي

وقد اخترت الحديث في هذا الموضوع لما تبين لي فيه من آثار هامة على استقرار المعاملات وضبطها والتطور الاقتصادي والاجتماعي الذي سيعرفه المجتمع بسبب العولمة وتقدم وسائل الاتصال وتطورها.

وسأتناول بالبحث في هذا الموضوع بإيجاز تعريف العقد وحكمه في الشريعة الإسلامية انطلاقا من قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ﴾ [البقرة: 282]، ثم قوله: ﴿وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: 282].

ثم بعد ذلك أتناول في هذا الموضوع بإيجاز تصنيف العقود وشروط إنشاء العقد وآثاره في قانون الالتزامات والعقود المغربي.

تعريف العقد

ففيما يخص تعريف العقد، فإن قانون الالتزامات والعقود المغربي لم يعرف العقد خلافا لما فعله القانون الفرنسي الذي عرفه بأنه هو: “اتفاق يلتزم بمقتضاه شخص أو أكثر بإعطاء أو بعمل شيء أو بالامتناع عن عمل شيء”.

وقد أحسن المشرع المغربي صنعا بعدم تعريفه للعقد لأن تعريفه مسألة فقهية يجب أن يترك أمرها للفقهاء والاجتهاد.

وإن فريقا من الفقهاء ميز بين الاتفاق وبين العقد معتبرا الأول أعم من الثاني، لأن الاتفاق يشكل نوعا والعقد جنسا منه، ونظرا لضيق الوقت فإنني أتجنب الخوض في هذا الجدل، وأعتمد الرأي السائد الذي لا يفرق بين العقد والاتفاق وآخذ بوحدة المدلول التي أخذ بها المشرع المغربي في الباب الأول من القسم الأول، الذي خصه للتعبير عن الإرادة بالبحث أولا، في التعبير عن الإرادة الصادرة عن طرف واحد، ثم ثانيا بالتعبير بالاتفاقات والعقود واستعمل أحيانا لفظ الاتفاق وأحيانا أخرى لفظ العقد وتارة لفظ الاتفاق والعقد معا في مادة واحدة.

وبذلك نفي كل تفرقة بين العقد والاتفاق، وعلى هذا الأساس يمكن تعريف العقد أو الاتفاق بأنه توافق إرادتين على إنشاء التزام أو نقله أو تعديله أو إنهائه، وبصورة أدق تعبيرا العقد هو توافق إرادتين على إحداث أثر قانوني، ذلك أن كل طرف فيه تنعقد إرادته على أمر معين، فلابد لانعقاد العقد أن تتقابل إرادة طرفيه، فالبيع مثلا لا يعتبر منعقدا إلا إذا التقت إرادة البائع بإرادة المشتري واقترن إيجاب أحدهما بقبول الآخر.

ولا يعني ذلك توافق الإرادتين بالنسبة لجميع شروط العقد حتى ما كان منها ثانويا وغير جوهري، ويكفي أن يتم التوافق على ما هو أساس كطبيعة العقد ومحله وغير ذلك مما يعتبره المتعاقدان أساسيا في العقد، ويتضح ذلك بالبحث عن قصدهما في إنشاء العقد، وهذا ما أشار إليه الفصل 19 من قانون الالتزامات والعقود المغربي الذي ورد فيه: “لا يتم الاتفاق إلا بتراضي الطرفين على العناصر الأساسية للالتزام وعلى باقي الشروط المشروعة الأخرى التي يعتبرها الطرفان أساسية”.

كما أنه يجب أن تتجه إرادة الطرفين إلى إحداث أثر قانوني، فليس كل اتفاق إرادتين على شيء يعتبر عقدا، فقد يتفق الطرفان على عمل عادي دون النية إلى إحداث آثار قانونية كالاتفاق مثلا على نزهة ففي هذه الحالة لا نكون أمام عقد.

وبعد هذه النظرة الوجيزة على تعريف العقد، سأتناول بيان حكمه وأصله في الشريعة الإسلامية باختصار انطلاقا من قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ﴾ إلى قوله: ﴿وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ﴾ [البقرة: 282].

حكم العقد في الشريعة الإسلامية

إن اهتمام الإسلام بالمعاملات والأمور الدنيوية بصفة عامة لا يقل عن اهتمامه بالعبادات كالصلاة والصيام وغيرهما، لأن الإسلام دين شامل جاء لإصلاح المجتمع وتنظيمه وتقويم سلوك البشرية في كل توجهاتها واحتياجاتها الروحية والجسدية، وجاء لتكريم الإنسان وتنظيم المجتمع الإنساني بصفة عامة، والأمة الإسلامية بصفة خاصة بإخراجها من ظلمات الجهل إلى نور المعرفة بمقتضى القرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والمعجز بمنطوقه ومفهومه، وتكفل الله تعالى بحفظه بقوله جل من قائل: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر: 9] وقال تعالى: ﴿لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾ [الإسراء: 88].

وكما اهتم الإسلام في القرآن الكريم بالأمر والتوجيه في العبادات والتي الهدف منها تقريب المخلوق من خالقه والعبد من ربه وتقويم سلوك الإنسان وإصلاح المجتمع وتنظيمه، اهتم كذلك بالمعاملات لأن الدين هو المعاملات، وذلك بقصد استقرار المعاملات ونشر الأخوة وتثبيتها بين أفراد المجتمع ومحاربة العداوة والبغضاء بين أعضائه، واختار لبيان ما يتوهم الإشكال في مدلوله خاتم الأنبياء والمرسلين محمدا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقال تعالى: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾ [النحل: 44].

ولما كانت عناية الله شاملة كل أحوال عباده أرشدهم إلى أقوم السبل في معاملاتهم فقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ﴾ إلى قوله: ﴿وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ﴾ [البقرة: 282]. ولما كان الأمر الإلهي يقتضي الوجوب في الغالب. كما يقتضي التوجيه والإرشاد إلى الأفضل على جهة الاستحباب بناء على القاعدة الأصولية القائلة: الأمر إذا أطلق انصرف إلى الوجوب إلا إذا كانت قرينة تصرفه عن الوجوب، وإن التفصيل الذي أتى به العلامة ابن كثير في هذا الشأن في تفسيره للآية المذكورة يرمي إلى أن الأمر هنا للإرشاد والندب بما ورد في تفسيره. حيث قال: قال ابن حاتم حدثنا أبو زرعة حدثني يحيى بن عبد الله ابن بكر حدثني ابن لهيفة حدثني عطاء بن دينار عن سعد بن حبير في قوله تعالى: ﴿وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ﴾، يعني أشهدوا على أمر سواء كان فيه أجل أو لم يكن فيه أجل، وروى عن جابر بن زيد ومجاهد وعطاء والضحاك نحو ذلك، وقال الشعبي والحسن هذا الأمر منسوخ بقوله تعالى: ﴿فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ﴾ [البقرة: 283]. وهذا الأمر محمول عند الجمهور على الإرشاد والندب لا على الوجوب، وهذا ما يستخلص من تفسير ابن كثير وأغلبية المفسرين للآية الكريمة المذكورة بأن الأمر فيها يقتضي الإرشاد والتوجيه وهو للندب لا للوجوب بدليل قوله تعالى: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ﴾ [البقرة: 283]، وهذا ما يقصده السيد قطب في بحثه وبيانه لهذا الموضوع في تفسيره للآية الكريمة المذكورة.

والخلاصة والأهم هو أن التشريع الإسلامي سبق بهذه المبادئ التشريع المدني والتجاري وضبط المعاملات واستقرارها بحوالي عشرة قرون قبل التشريعات الوضعية، وأن الفقهاء المحدثين يعترفون ويقرون بذلك، كما أدرك التشريع الإسلامي قبل جميع القوانين حكمة توثيق العقود وضبط إجراءاتها وصفة القائم بها والذي يكتبها لتثبت الثقة والطمأنينة بين المتعاملين والمتعاقدين واستقرار المعاملات بمقتضى عقود مكتوبة تتضمن الإشهاد على طرفيها من كاتب مأمور إن يكتب بالعدل، فلا يميل مع أحد الطرفين ولا ينقص أو يزيد في النصوص، الشيء الذي يدل على شمول التشريع الإسلامي واهتمامه بتنظيم المجتمع وإصلاحه قبل غيره من التشريعات بدليل نص القرآن الكريم ولإقرار الفقهاء المحدثين بذلك.

تصنيف العقود

وبعد تلك النظرة الوجيزة عن حكم العقد في الشريعة الإسلامية واصل تشريعه من القرآن الكريم الذي هو أول مصدر للشريعة الإسلامية التي كانت سباقة في التشريع المدني والتجاري، والأمر يشرط الكتابة والشهادة على الوجوب وعلى الرخصة، وإقرار حقوق الكتاب والشهود. كما أقر واجباتهم التي منها ألا يأبوا الكتابة أو الشهادة، وأوجب لهم الحماية والرعاية ليتوازن الحق والواجب في أداء التكاليف العامة، مما يؤكد ويثبت أن دين الإسلام جاء شاملا للدين والدنيا ونظم المعاملات بجميع أصنافها بين أفراد المجتمع ومكوناته حماية له وحفاظا على سلامته وتدعيما لتنميته وتطوره، وذلك ردا على من يدعي أن دين الإسلام هو دين العبادات فقط كالصلاة والصيام وغيرها من العبادات.

وبعد هذه الخلاصة عن حكم العقد وأصل تشريعه في الإسلام سأتناول الحديث باقتضاب عن تصنيف العقود في القانون الوضعي، وذلك أن المشرع الفرنسي تعرض لبعض تقسيمات العقود، كتقسيمها إلى عقود تبادلية وإلى عقود غير محددة، أو عقود غرر وإلى عقود معاوضة أو عقود تبرع.

كما أن المشرع اللبناني خص بحثا لتصنيف العقود أما أغلب التقنيات الحديثة فقد عرضت عن ذلك، وقانون الالتزامات والعقود المغربي سار في ذلك الاتجاه، وقد أحسن صنعا في نظري لأن تقسيم العقود وتصنيفها عمل فقهي يخرج عن مهمة المشرع، وإن تصنيف العقود ليس مجرد ترتيب نظري، بل له نتائج عملية هامة من حيث اختلاف القواعد القانونية بعضها عن بعض، بحسب نوعية العقود وصنفها.

وإن العقود تصنف تبعا للوجهة التي ينظر منها إلى العقد، وأهم تلك التصنيفات هي: عقود مسماة وعقود غير مسماة، وعقود تبادلية وعقود معاوضة وعقود تبرع، وعقود رضائية وعقود شكلية وعقود عينية وعقود تراضي أو عادية وعقود إذعانية وعقود فردية وعقود جماعية وعقود محددة وعقود غرر.

فالعقد المسمى هو الذي نظمه المشرع وميزه عن غيره باسم خاص وأحكام خاصة كالبيع والهبة والإجارة والكفالة مثلا.

أما العقد غير المسمى فهو الذي لم يميزه المشرع عن غيره، وتركه لإرادة المتعاقدين يكيفونه حسب مشيئتهم.

وقد كان لهذا التصنيف أثر عظيم في التشريع الروماني إذ كان التنفيذ الجبري بواسطة القضاء لا تتمتع به إلا العقود المسماة المعقودة وفقا لمراسمها الشكلية.

أما في ظل القوانين الحديثة ففائدة هذا التصنيف قاصرة على تحديد القواعد التي تحكم العقد، ففي العقد المسمى يرجع أولا إلى أحكامه الخاصة به، فإن لم يوجد نص يساعد على الحل وجب الرجوع إلى القواعد العامة لنظرية العقد الواردة في قسم الالتزامات، وإذا تعذر الحل فيلجأ إلى القواعد الخاصة بأقرب العقود المسماة عن طريق القياس.

أما التصنيف الثاني فهو عقود تبادلية وعقود غير تبادلية، فالعقد التبادلي أو العقد الملزم لجانبين هو الذي ينشئ التزامات متقابلة في ذمة كل من طرفيه، بحيث يصبح كل واحد منهما دائنا في ناحية ومدينا في أخرى، كالبيع مثلا؛ نجد البائع مدينا بتسليم المبيع ونقل ملكيته للمشتري، ونجد المشتري مدينا بالثمن ودائنا بقبض المبيع.

وأما العقد الغير التبادلي أو العقد الملزم لجانب واحد فهو الذي ينشئ التزامات في ذمة أحد المتعاقدين دون الآخر بحيث يكون أحدهما مدينا غير دائن والآخر دائنا غير مدين كالهبة بغير عوض والوديعة بغير أجر.

ففي الهبة بغير عوض يلتزم الواهب بنقل ملكية الموهوب وتسليمه ولا يلتزم الموهوب له بشئ.

وفي الوديعة بغير عوض يلتزم الوديع بالمحافظة على الوديعة وردها ولا يلتزم المودع بشيء.

والعقد غير التبادلي يبقى محافظا على صفته غير التبادلية حتى لو أن الطرف الدائن تحمل فيما بعد بالتزامات تجاه الآخر نتيجة تغير الظروف أثناء قيام العقد أو عند تنفيذه، فالوديعة مثلا بغير عوض هي عقد غير تبادلي لا تنشأ عنه التزامات إلا على الطرف الوديع الذي يترتب عليه إعادة الوديعة إلى المودع، ولكن الوديع قد يضطر لإنفاق بعض المصروفات في سبيل المحافظة على الوديعة وصيانتها من الهلاك والتلف، فيصبح من حقه إلزام المودع بهذه المصروفات حسب مقتضيات الفصل 814 من قانون الالتزامات والعقود، ففي هذه الحالة يصبح الوديع مدينا بالوديعة ودائنا بالنفقات، ويصبح المودع دائنا بالوديعة ومدينا بالنفقات، ومع ذلك تبقى الوديعة بغير أجر، لأن التزام المودع بالنفقات لم ينشأ مباشرة من العقد، وإنما نشأ عن ظروف طرأت فيما بعد وكان يمكن أن لا تطرأ، وأن العقد حتى يوصف بكونه عقدا تبادليا يجب أن يكون هو المصدر المباشر للالتزامات المترتبة على الطرفين المتعاقدين.

وبهذا الصدد يجب التمييز بين العقد الملزم لجانب واحد والتصرف القانوني الصادر عن جانب واحد وهو المسمى بتصرف الإرادة المنفردة كالوصية أو الوعد بجائزة، وأطلق على هذا النوع من العقود اسم العقود التبادلية الناقصة أو غير الكاملة.

فالعقد الملزم لجانب واحد لا يتم إلا باتفاق إرادتين، أما التصرف الصادر من جانب واحد فيتم بإرادة منفردة.

ولتصنيف العقود إلى تبادلية وغير تبادلية نتائج هامة، منها كون العقد التبادلي إذا طلب أحد طرفيه الطرف الآخر بتنفيذ التزامه جاز للطرف الملاحق بالتنفيذ أن يمتنع عن التنفيذ مادام ذلك الخصم لم ينفذ التزامه عملا بمقتضيات الفصل 235 من قانون الالتزامات والعقود المغربي وما أقره المجلس الأعلى في عدة قرارات منها القرار عدد 5640 بتاريخ 9/2/1999 الصادر في الملف المدني رقم 867/95.

كما أنه في العقد التبادلي إذا لم يقم أحد المتعاقدين بتنفيذ التزامه جاز للمتعاقد الآخر أن يطلب فسخ العقد، وإن أكثر التشريعات تمنح هذا الحق للمتعاقد حتى لو كان التنفيذ ممكنا، كما في التشريع الفرنسي والتشريع السوري والتشريع المصري والتشريع اللبناني، أما قانون الالتزامات والعقود المغربي فقد حصر حق طلب الفسخ في الحالة التي يصبح فيها تنفيذ الالتزام غير ممكن أصلا أو في الحالة التي يكون فيها الالتزام غير ممكن إلا في جزء منه عملا بمقتضيات الفصل 259 من قانون الالتزامات والعقود المغربي، وقد أحسن صنعا في ذلك لأن هذا الاتجاه يؤدي إلى استقرار المعاملات.

وإن قاعدة الفسخ لا محل لها في العقود غير التبادلية ففي العقد التبادلي إذا استحال على أحد المتعاقدين تنفيذ التزامه لسبب أجنبي لابد له فيه فإن هذا الالتزام ينقضي ويسقط بسبب انقضائه.

وأما التصنيف الثالث المتعلق بعقود المعاوضة وعقود التبرع: فعقد المعاوضة هو الذي يأخذ فيه المتعاقد مقابلا لما يعطي كالبيع والإجارة، ففي البيع يقبض البائع الثمن مقابل إعطاء المبيع، ويتقاضى المؤجر الأجرة مقابل تخليه عن الانتفاع بالمأجور، ويحصل المستأجر على الانتفاع بالمأجور مقابل دفع الأجرة.

أما عقد التبرع فهو الذي لا يأخذ فيه أحد المتعاقدين مقابلا لما يعطي كالهبة التي يعطيها الواهب دون أخذ مقابل، وللتمييز بين عقود المعاوضة وعقود التبرع أهمية ترجع إلى اختلاف القواعد التي تطبق على كل منها من وجوه متعددة، والحديث عنها لا يسمح به الوقت الراهن. ومن هنا انتقل إلى التصنيف الرابع وهو عقود رضائية وعقود شكلية وعقود عينية. فالعقد الرضائي هو الذي يتم انعقاده وينتج آثاره بمجرد تراضي عاقديه وبدون اشتراط شكل ما لانعقاده، والقاعدة السائدة اليوم هي رضائية العقود خلافا لما كان عليه الحال في الماضي.

وأما العقد الشكلي فهو الذي يشترط لانعقاده علاوة على تراضي طرفيه مراسيم شكلية يجب أن يقوم بها المتعاقدان، فالبيع الواقع على عقار مثلا هو عقد شكلي لأن قانون الالتزامات والعقود المغربي أوجب إجراءه كتابة في محرر ثابت التاريخ عملا بمقتضيات الفصل 489 من القانون المذكور والشركات التي يكون محلها عقارات أو غيرها من الأموال مما يمكن رهنه رهنا رسميا وتبرم لتستمر أكثر من ثلاث سنوات تعتبر كذلك من العقود الشكلية، لأن المشرع أوجب أن يحرر العقد كتابة عملا بمقتضيات الفصل 987 من قانون الالتزامات والعقود، وعقد الزواج وإن كان ينعقد بالإيجاب والقبول إلا أنه يشترط لصحته حضور شاهدين عدلين سامعين في مجلس واحد، الإيجاب والقبول من الزوج أو نائبه، والزوجة ومن الولي بعد موافقة الزوجة (الفصل 5 من قانون مدونة الأحوال الشخصية).

وقد يحصل أن يشترط المتعاقدان جعل تصرفهما رغم كونه تصرفا رضائيا خاضعا لشكل معين فينقل من تصرف رضائي إلى تصرف شكلي، ولا ينعقد إلا بتوفر الشكل الذي ارتضاه الطرفان بناء على ما نص عليه الفصل 402 من قانون الالتزامات والعقود، فعقد الإيجار مثلا هو عقد رضائي، ومع ذلك إذا ما اتفق المؤجر والمستأجر على تنظيم الإيجار بينهما بحجة رسمية فإنه يتحول من عقد رضائي إلى عقد شكلي، ويتوقف انعقاده على تحرير السند الرسمي الذي أراده المتعاقدان.

إلا أنه ينبغي بهذه المناسبة التمييز بين شكلية العقد وشكلية الإثبات، فالكتابة قد تكون مشروطة لوجود التصرف وانعقاد العقد كما في البيع العقاري أو في الشركة التي يكون محلها عقارات أو غيرها من الأموال مما يمكن رهنه رهنا رسميا، وتبرم لأكثر من ثلاث سنوات، وقد تكون الكتابة مشروطة للإثبات فحسب كما في بيع السلم الفصل 613 من قانون الالتزامات والعقود أو كما في كراء العقارات والعقود العقارية لأكثر من سنة، حيث يقتضي القانون البينة الخطية الفصل 629 من القانون المذكور أو كما في كل اتفاق تتجاوز قيمته 250 درهما. ومن هنا انتقل إلى الحديث عن التصنيف الخامس المتعلق بعقود تراضي وعقود إذعانية، فعقد التراضي أو العقد العادي هو الذي تجري المناقشة في بنوده بين الطرفين على وجه التعادل والمساواة، كعقود البيع والإجارة والقرض وتحديد شروطه باتفاق الطرفين، أما عقد الإذعان فهو الذي ينعقد دون مناقشة بين الطرفين، ويكون فيه موقف أحد المتعاقدين موقف المطاوع لا يملك إلا أن يقبل شروطا يمليها الطرف الآخر، وإن التقنينات الحديثة تتجه إلى حماية الطرف المذعن من تعسف الآخر باعتبار المذعن هو الطرف الضعيف، كما تصنف العقود إلى عقود فردية وعقود جماعية، فالعقد الفردي هو الذي يتطلب قبول كل واحد من الأطراف المتعاقدين، ويكفي تخلف متعاقد واحد حتى يكون العقد غير قائم، ففي عقد شركة الأشخاص مثلا لابد لتمام العقد من رضاء كل واحد من الشركاء مهما بلغ عددهم.

أما العقد الجماعي فهو الذي يكتفي فيه بقبول أغلبية أعضاء مجموعة من الأشخاص، بحيث تجد الأقلية نفسها مقيدة بعقد لم تبرمه ولم توافق عليه كعقد الصلح الذي يجريه التاجر المفلس مع دائنيه إذ يكفي أن يصوت عليه أكثرية الدائنين.

أما التصنيف المتعلق بالعقود المحددة وعقود الغرر فيمكن إجماله بكون العقد المحدد هو الذي يستطيع فيه كل من الطرفين المتعاقدين أن يحدد وقت التعاقد مقدار ما يأخذ ومقدار ما يعطي كالبيع مثلا.

أما عقد الغرر أو العقد الاحتمالي فهو الذي لا يستطيع فيه أي من الطرفين أن يحدد وقت العقد مقدار ما يأخذ ومقدار ما يعطي، وإنما يتحدد ذلك في المستقبل تبعا لأمر غير محقق الحصول كما في التأمين ضد الحريق وفي عقود الغرر يتبين أن احتمال الكسب والخسارة هو عنصر أساسي لقيام هذه العقود، بحيث إذا انعدم هذا الاحتمال كان العقد باطلا، وهذا ما أكده المجلس الأعلى عندما قرر “أن السبب في عقد البيع مقابل أداء راتب عمري هو الغرر الناتج عن عدم معرفة طول حياة مستحق ذلك الراتب وبالتالي يكون السبب مفقودا متى كانت حياة ذلك المستحق للراتب العمري مقضيا عليها بالفناء العاجل عند إبرام العقد بشهادة الأطباء”، ومن عقود الغرر الشائعة اليوم عقود التامين وعقود المرتب مدى الحياة.

ومن عقود الغرر أيضا عقود المقامرة والرهان، وقد قرر قانون الالتزامات والعقود المغربي في الفصل 1092 أن كل التزام يكون سببه دين مقامرة أو رهان يقع باطلا بقوة القانون.

وحتى يكون العقد صحيحا وينتج آثاره القانونية يجب أن تتوفر فيه الشروط المنصوص عليها في الفصل 2 من القانون المذكور أعلاه، وهي أهلية المتعاقدين والتعبير الصحيح عن الإرادة يقع على العناصر الأساسية للالتزام التعاقدي، وشيء محقق يصلح لأن يكون محلا للالتزام المتولد عن العقد وسبب مشروع للالتزام وشرط التسليم في العقود العينية التي تتطلب هذا الشرط، وإن التعبير الصحيح عن الإرادة هو الركن الأساس في عملية التعاقد ورغبة في تفادي التطويل، فإنني اكتفي بهذه الإشارة إلى شروط العقد دون تحليلها، وانتقل إلى الحديث عن آثار العقد بإيجاز.

إن العقد ينتج آثاره بين المتعاقدين وهو شريعة لهما، ومن القواعد الكلية فإن العقد لا ينصرف أثره إلى الغير إلا استثناء، وكثيرا ما يبرم المتعاقدان عقدا ظاهرا ويعمد إلى تعطيل آثاره بمقتضى عقد يطلق عليه في الاصطلاح الفقهي الصورية، وعلى هذا الأساس سأتطرق إلى آثار العقد بين المتعاقدين وآثاره بالنسبة للغير والصورية.

فيقصد بالمتعاقدين في العقد الأشخاص الذين كانوا طرفا فيه بأنفسهم أو بمن يمثلهم وأن الفصل 230 من قانون الالتزامات والعقود المغربي يقضي بأن الالتزامات التعاقدية المنشأة على وجه صحيح تقوم مقام القانون بالنسبة إلى منشئيها. فالقاعدة إذن؛ هي أن العقد شريعة المتعاقدين. وقد عبر المشرع الفرنسي على ذلك بأن الاتفاقات التي تمت على وجه شرعي تقوم مقام القانون بالنسبة إلى عاقديها، وفي هذا الاتجاه سار القانون المدني المصري والقانون المدني السوري، وعلى هذا الأساس أوجب المشرع على المتعاقدين تنفيذ العقد بحسن نية (الفصل 231 من قانون الالتزامات والعقود المغربي) وسوء النية في تنفيذ العقد يسمى في الاصطلاح القانوني غشا، ويقتضي حسن النية من المتعاقد أن يختار في تنفيذ العقد الطريقة التي تفرض الاستقامة والنزاهة في التعامل. وفي بعض العقود يقتضي حسن النية التعاون بين المتعاقدين في تنفيذ العقد، وإن التزام المتعاقد بمراعاة حسن النية في تنفيذ العقد يفرضها العقد نفسه، ويلزم المتعاقدان لا بما صرحا به في العقد بل أيضا بكل ملحقات الالتزام التعاقدي والتي يقررها القانون أو العرف أو العدالة وفقا لما تقتضيه طبيعة العقد (الفصل 231 من قانون الالتزامات والعقود).

وأما آثار العقد بالنسبة للغير فيقتضي بيان مدلول الغير قبل كل شيء، فالغير بالنسبة للعقد بمعناه الواسع هو كل من لم يكن طرفا فيه بنفسه أو بمن يمثله ويشمل الخلف العام والخلف الخاص والدائنين، أما الغير بالمعنى الضيق الصحيح فهو كل من سوى الخلف العام والخلف الخاص والدائنين، ويقصد بالخلف العام كل من يخلف سلفه في كامل ذمته أو في جزء شائع منها كالنصف أو الثلث مثلا؛ فالوارث الوحيد أو الواحد من ورثة متعددين يعتبر حلفا عاما، وقد نص المشرع المغربي على آثار العقد بالنسبة للخلف العام في الفصل 229 من قانون الالتزامات والعقود، غير أن هناك استثناءات لا يسري فيها آثار العقد على الخلف العام بمقتضى إرادة المتعاقدين أو صيغة العقد أو نص القانون، حيث ينص على عدم سريان آثر العقد على الخلف العام، كما يكون في العقد المتضمن لإنشاء حق انتفاع حيث ينقضي الانتفاع بموت المنتفع الفصل 35 من القانون المطبق على العقارات المحفظة.

وأما المقصود بالخلف الخاص فهو من تلقى من سلفه حقا معينا كان قائما في ذمة هذا السلف، سواء كان هذا الحق عينيا كالذي ينتقل إلى المشتري أو الموهوب له أو الموصى له، أو كان حقا شخصيا كالذي انتقل إليه من السلف، والقانون المغربي لم يتعرض لأثر العقد بالنسبة للخلف الخاص، إلا أن الفقه والقضاء استطاع تحديد الخلف الخاص من خلال المبادئ العامة، بمقتضى القاعدة القائلة بأن الشخص لا يستطيع أن ينقل لغيره أكثر مما يملك.

هذا عن آثار العقد بالنسبة للخلف الخاص باقتضاب أما آثاره بالنسبة للدائنين، فإن الفصل 1241 من قانون الالتزامات والعقود أعطى حق الضمان العام للدائن على أموال مدينه وتوزيع ثمنها على الدائنين بنسبة دين كل واحد منهم، ولذلك فإن الدائن يتأثر بالعقود التي يبرمها مدينه، لأن هذه العقود قد تزيد وقد تنقص من ضمانه العام، والقاعدة أن للمدين حق التصرف في ماله، وأن الدائن ليس له أن يعارض هذا التصرف حتى لو نقص من ضمانه العام.

ولكن المشرع المغربي في الفصلين 22 و238 من قانون الالتزامات والعقود خول الدائن ووسائل حمايته من تصرفات المدين الضارة به، ومنها حق إلقاء الحجز التحفظي على أموال المدين، وهناك وسائل أخرى لم يأخذ بها المشرع المغربي وأقرتها أكثر التشريعات تسمح للدائن إذا ما أبرم مدينه تصرفا جديا ضارا به أن يطلب عدم نفاذ هذا التصرف في حقه، وإذا ما أهمل المدين المطالبة بحق له في ذمة الغير أن يطالبه بهذا الحق باسم مدينه عن طريق ممارسة الدعوى غير المباشرة.

والقاعدة الأساسية هي أن الغير لا يصبح دائنا ولا مدينا بعقد يبرمه متعاقدان آخران، وهذا هو الغير بالمعنى الصحيح الضيق، ولكن مقتضيات الفصل 228 من قانون الالتزامات والعقود قضت على وجه الاستثناء بجعل هذا الغير يكسب حقوقا أو تترتب عليه التزامات بمقتضى عقد لم يكن طرفا فيه، وهي الالتزام على الغير على شرط إقراره، والاشتراط لمصلحة الغير، وهو من متعلقات الفضالة.

تلك نظرة وجيزة وباقتضاب عن تعريف العقد وأصل حكمه في الشريعة الإسلامية وتصنيف العقود وشروط إنشاء العقد وآثاره في قانون الالتزامات والعقود المغربي.

انظر العدد 21 من مجلة الإحياء

تصنيف العقود وآثارها في قانون الالتزامات والعقود المغربي

الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق