مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةدراسات عامة

بناء الكعبة وبناء الإنسان أية علاقة؟

  لا يشك أحد ما للكعبة من مكانة عظيمة عند الله سبحانه وتعالى فهي اول بيت أمر الله تعالى ببنائه، قال عز من قائل: ( إن اول بيت وضع للناس للذي ببكة …)، كما أن له مكانة عظيمة عند الناس، كيف لا وقد بناه سيدنا إبراهيم أبو الانبياء عليه السلام، (وإذ يرفع إبراهيم قواعد البيت …)، كما أن للبيت هيبة جليلة في قلوب الناس على مر العصور، ولعل أهم حدث رسخ فيهم عظمة البيت وجلاله يوم أراد أبرهة الحبشي أن يهدم البيت بجيشه الجرار الذي لا يقهر، فانتقم الله منه بشهود قريش لذلك الحدث التاريخي الكبير، وسمي ذلك العام بعام الفيل، ومن العجيب أن يصادف ذلك العام ولادة خير البشر وحلية الناس، سيد العالمين وحبيب رب العالمين، سيدنا ومولانا محمد صلى الله عليه وسلم، وكأن الله تعالى أكرم الناس بحدثين عظيمين أولهما حفظ بيته الحرام، بأية من أعظم الآيات، وحدث ثان أعظم من الأول وهو ظهور منبع الأنوار وسر وجود الأنوار صلى الله عليه وسلم، إشارة إلى الارتباط الذي يجمعهما وهو أن الكل من عند الله، وأن حرمة النبي صلى الله عليه وسلم أعظم حرمة وأجل مكانة، فبناء الساجد أهم من بناء المساجد، فمعنى آخر أن بناء الإنسان بناء روحيا وأخلاقيا هو الأولى والأهم، حتى نتحقق بمعاني الهدي النبوي الذي نتعلمه من دراسة السيرة النبوية المطهرة، كيف ذلك؟

  المعروف أن الكعبة المشرفة تعرضت للهدم مرات عديدة من أهمها سيل عرم جرف مكة قبل البعثة بسنوات قليلة، حيث تصدعت جدرانها، وضعف بنيانها، فكان لزاما على قريش إعادة بنائها، وقد شارك النبي صلى الله عليه وسلم في بناء الكعبة المشرفة، وعمره خمس وثلاثون سنة.

  من الدروس المستفادة من بناء الكعبة المشرفة أن من أراد فعل الخير فليتحر الرزق الحسن والحلال، وأن أعظم الآثام أكل الحرام، وأعظمه أكل أموال الناس بالباطل، وهذا يحيلنا إلى أهمية الأخلاق التي تبني الانسان  نحو الكمال، فلا غرو أن نجد الصوفية يتحرون مصدر المال، ويعتبرون الرزق الحرام من المهلكات التي تهدم بناء الانسان.

  ومن الدروس التي نستفيدها من بناء الكعبة المشرفة أهمية بناء الانسان بحد ذاته، فلا يكفي معرفة ما هو واجب وحلال، وما حرام وممنوع، فقريش تعرف هذه المسائل جيدا ولكن لم تتحقق به قلبيا، فهي أوصاف باطنية لا تأتي بالعلم وحده بل بالتربية الروحية، والتزكية الباطنية، لذلك نجدهم في أدنى خلاف بينهم حول وضع الحجر الأسود كادت تنشب حربا ضروسا بينهم “فقد قربت بنو عبد الدار جفنة مملوءة دما ثم تعاقدوا هم وبنو عدي على الموت، وأدخلو أيديهم في ذلك الدم، ومكثت قريش على ذلك أربع ليال أو خمسا، دون أن يردها إلى الوفاق أي رأي أو تدبير” [1].

  ونستشف من خلال قصة بناء الكعبة المشرفة أهمية المكون الأخلاقي في بناء شخصية الانسان،  وأنه سبب في الخير كله، من أجل ذلك لما طلع عليهم الحبيب سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم رضوه وأقروا بفضله وأخلاقه، وقد أخمدت نار الفتنة على يديه صلى الله عليه وسلم، وهكذا كان وراث هديه صلى الله عليه وسلم في تحقيق المصالحة بين الناس على اختلافهم، والمشي في المجتمع بالخير والصلاح ورأب الصدع، ونبذ كل أشكال التفرقة والتشردم.

  كما نستفيد من هذا الحدث أن القادر على فعل الخير أو تقديم مساعدة أو فائدة فعليه أن يجتهد حسب قدرته واستطاعته، فالنبي صلى الله عليه وسلم شارك في بناء الكعبة ونقل الأحجار على كتفيه المباركة، فالأهم هو أن تعطي لمجتمعك الذي تعيش فيه أفضل ما لديك، إذا كان فيه مصلحة عامة، وليس فيه ضرر، بغض النظر عن الانتماء واللون والجنس.

  الهوامش :

[1] فقه السيرة، البوطي، 59

Science

د.مصطفى بوزغيبة

باحث بمركز الإمام الجنيد التابع للرابطة المحمدية للعلماء

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق