مركز ابن البنا المراكشي للبحوث والدراسات في تاريخ العلوم في الحضارة الإسلاميةقراءة في كتاب

تاريخ علم الفلك القديم والكلاسيكي

تأليف: جان بيار فردي1

تمهيد

يضم كتاب جان بيار فردي “تاريخ علم الفلك القديم والكلاسيكي” -الصادر المنظمة العربية للترجمة في 222 صفحة (ترجمة ريما بركة)- مقدمتين وستة فصول، حاول الكاتب خلالها استجلاء أهم المراحل التي قطعها علم الفلك خلال تاريخه المديد، أي منذ العصور القديمة وانتهاء بالعصر الكلاسيكي، ومروراً بالعصر الوسيط.

مقدمة

أشار الكاتب بداية إلى أن علم الفلك يتعلق بطريقة تفكير مغايرة، إذ لا يقوم بمعالجة موضوع الميتولوجيات المتعلقة بنشأة الكون، باعتباره يبدأ بمرحلة ازدهار بابل حوالي العام 1800 قبل الميلاد، إذ قدمت هذه المرحلة أقدم الألواح التي تحمل طابعا فلكيا واضحا. وقد خصص المؤلف فقرة لعلم الفلك المصري القديم بالرغم من أن اهتمام الحضارة المصرية بعلم الفلك كان أقل من نظيرتها البابلية، فقد خلف علماؤها الفلكيون إرثا للأجيال التي أتت من بعدهم. ثم خصص فصلا لعلم الفلك في العصور الوسطى اعترافا بفضل علماء الفلك العرب الذين قاموا  بأكثر من المحافظة على الرسالة اليونانية وكذلك بأكثر من نقلها إلى الحضارة الأوروبية. فضلا عن فصلين: أحدهما للثورة الكوبرنيكية التي انطلقت مع نشر كتاب نيكولا كوبرنيكوس “في الدوران” عام 1534م، والثاني لولادة علم الفلك الكلاسيكي باعتباره ثمرة علم الميكانيك السماوي النيوتوني وكذا تطور التحليل الرياضي منذ بدايات هذا العلم وحتى انتصاره الكبير مع اكتشاف كوكب نبتون عام 1846.

ما قبل علم الفلك اليوناني

خصص الكاتب الفصل الأول لدراسة علم الفلك قبل الفترة اليونانية، وأشار إلى أن تطور علم الفلك الرياضي في بلاد ما بين النهرين قد تم عبر أربع مراحل أو حقب، وبين أنه رغم تألق الحضارة السومرية التي امتدت على بلاد ما بين النهرين برمتها، فليس هناك شيء معروف عن علم الفلك في سومر باستثناء أسماء النجوم والكواكب التي نقلت من اللغة السومرية وهي موجودة في النصوص الأكادية، إضافة إلى بعض الأساطير المتعلقة بنشأة الكون. ولم يعرف الإنتاج الفلكي البابلي إلا في الفترة التي تبدأ مع نهوض بابل حوالي العام 1800 ق.م والتي ستنتهي مع نهب الحثيين لمدينة بابل وبداية العصور المظلمة وذلك حوالي عام 1530 ق.م. ووصلت نصوص من تلك الحقبة وهي على نوعين: نص فلكي وآخر تنجيمي.

وفي أواخر الحقبة الثانية تظهر أولى المحاولات المنهجية للأرصاد الفلكية التي قام بها فلكيو البلاطات الآشورية، وتمتد هذه الحقبة من العام 1530 ق.م وحتى العام 612 ق.م وقت حكم الكاشيين (cassite) ثم السيطرة الآشورية، إذ جاء أشهر نص من مكتبة آشور[ii] بانيبال، وتعالج هذه الألواح القمر والشمس والكواكب السيارة والهالات والغيوم والشموس الكاذبة، وكذلك دراسة التقلبات السماوية الأخرى، و تعتبر هذه الألواح مجهود عدة قرون، إذ كتبت بين  بين عام 1000 و900 ق.م، حيث ثم جمع التوقعات والأرصاد، ويفترض أنها تحتوي على 70 لوحا تتضمن 7000 توقع تقريبا.

يطلق على الحقبة الثالثة إسم “بابل الجديدة”، وتمتد من العام 611 ق.م  حتى العام  540 ق.م، ظهر في تلك الفترة اهتمام كبير لمسارات القمر والكواكب السيارة من خلال التقويم الفلكي لنبوخذ نصر الثاني، إذ تم بدقة ابراز اقترانات القمر والكواكب بالنجوم الثابتة، إضافة إلى تواريخ أول وآخر إمكانية لرؤيتها. والدوائر التي كانت مقسومة في السابق إلى أربعة أجزاء -تجتاز الشمس كل جزء منها خلال ثلاثة أشهر- أصبحت الآن مقسومة إلى اثني عشر جزءاً من ثلاثين  درجة.

وأما الحقبة الرابعة فتتجلى في السيطرة الفارسية التي بدأت حوالي 538 ق.م وانتهت في العام 75 قبل الميلاد. وبدأ الميل في هذه المرحلة إلى الوصف الرياضي يُرسم بوضوح. وبعد حكم السلوقيين والأشكانيبن ظهرت النصوص الأولى التي تتضمن دراسات للحركات الفلكية المبنية على الرصد المتواصل، وكذا على نظريات رياضية مبنية على علم الجبر. وبالتالي فقد تمكنت بلاد ما بين النهرين خلال ألفية ونصف من تجميع جل الأرصاد الفلكية ووضع النظريات الرياضية التي قدموا بها وصفا تجريبيا لحركات القمر والشمس والكواكب السيارة.

كما تطرق صاحب الكتاب إلى مشاكل التقويم في علم الفلك مبرزا أهميته الكبرى، وتطرق للتقويم البابلي، والذي كان يبدأ فيه الشهر في الليلة التي يبزغ فيها الهلال للمرة الأولى من خلال أشعة المغيب، ويشير الكاتب إلى الصعوبات التي واجهها البابليون في مطابقة تقويمهم القمري مع الفصول؛ أي مع حركة الشمس وهو ما ينتج عنه أشهر غير متساوية لا تعطي سوى ثلاثمائة وأربعة وخمسين يوما، أي تتخلف بأكثر من أحد عشر يوما عن السنة الشمسية، إذ لم يتم ضبط عملية إضافة الأشهر إلا في العام 532 ق.م.

وضع الفلكيون تقويما قمريا أسفر عن نتائج إيجابية في علم الفلك، وكان ذلك نتيجة وضع جداول لحركات القمر والشمس اليومية، وتحديد آخر إمكانية لرؤية الهلال القمري وأول إمكانية تليها لرؤيته. وقد خصص الكاتب فقرة لتقاويم ومتواليات حسابية ودالات متعرجة عن العد البابلي.

أما فيما يخص علم الفلك عند المصريين القدامى (الفراعنة)، فقد مثل دورا متواضعا في الحضارة المصرية، وخلف علماؤهم إرثا للأجيال اللاحقة، ونذكر مثالا على ذلك حساب السنة المصرية التي كانت تتألف من ثلاثمائة وخمسة وستين يوما مقسمة بالتالي على إثني عشر شهرا من ثلاثين يوما يضاف إليها خمسة أيام نسيئة مجموعة في نهاية السنة، فالسنة المصرية قد أدخلت لتكون أساس التقويم الزراعي ويلاحظ ذلك من خلال أسماء الشهور، وبالرغم من أنها لا تمت بصلة كبيرة إلى المسائل الفلكية إذ كانت مبنية على أسس عملية، فقد اعتمد العلماء من بطليموس إلى كوبرنيكوس على السنة المصرية في حساباتهم.

علم الفلك الرياضي عند اليونان

إن ما يميز علم الفلك اليوناني النظري – الهندسي عن علم الفلك البابلي الحسابي- التجريبي هو وضع تراكيب من الحركات من أجل تقديم عرض عن الحركات السماوية، خلافا لعلم الفلك التجريبي الذي كان مبنيا على وضع التقاويم، ويذهب الكاتب إلى أن استعمال مثل هذه الأنظمة يعد تطورا في حد ذاته بالنسبة للعلم، وبالتالي فإن علم الفلك النظري في مثل هذه الحالة يفضل بكثير علم الفلك التجريبي.

يعود الفضل إلى أفلاطون في صياغة المسألة الفلكية، لأنه حدد هدف علم الفلك في ابتكار نظام من كرات مشتركة المركز من قبل Eudoxide Coride، حيث تدور كرة غير متنقلة بانتظام من الشرق إلى الغرب حول محور العالم (كرة النجوم)، والكرة الثانية تسهم في حركة الكرة الأولى، أما الكرة الثالثة فهي تتلقى الحركة المنظمة مسبقا وتضيف إليها دورانها المنتظم الخاص، ويبقى التنظيم على هذه الشاكلة إلى أن تنتج الكرة التي تحمل الجرم السماوي الحركة المركبة التي ستحافظ بدورها على الحركات الظاهرة.

لم تكن نظرية حركات الكواكب معروفة جيدا قبل بطلميوس، بالرغم أن نظرية الكواكب التي نعرفها اليوم وكذلك المبادئ التي ورثت عن أفلاطون وأرسطو والتي كانت تفرض على الأقدمين من أجل إنقاذ ظاهرة حركات الكواكب فيمكن البحث عما كان عليه تطور نظرية الكواكب حتى المرحلة التي تم فيها إدخال نقطة التساوي1، ويبين الكاتب أن نظام أودوكس وكاليب للكرات المشتركة المركز يعرض الكواكب وهي تتحرك على مسافات ثابتة من الأرض، ولكن لم يتم حل مشكل ظاهري واحد على الأقل؛ وهو التغيرات في اللمعان التي كشفت عنها أرصاد الكواكب، ويرجع سبب هذه التغيرات إلى تغير المسافات.

ويقر الكاتب أننا لا نعرف الكثير عن أبولونيوس كعالم فلك باستثناء ما  نقله بطليموس الذي أخذ بدوره عن هيبارخوس في الكتاب الثاني عشر من المجسطي، إذ ذكر أن أبولونيوس كان من بين المهندسين الذين قاموا بدراسة أحد التفاوتين اللذين يتعلقان بالشمس.

توج عالم الفلك هيبارخوس2 المرحلة الكبرى لعلم الفلك الهندسي اليوناني من خلال اكتشافه مبادرة الاعتدالين التي هي عبارة عن سير بطيء يجعل عقد المدار الأرضي ينزلق على طول البروج وينتج عن هذا الانزلاق أثران يمكن رصدهما وهما: تغير خطوط الطول للنجوم بحوالي خمسين ثانية قوسية في السنة، وفارق الطول بين السنة النجمية والسنة المدارية، وهو يساوي حوالي عشرين دقيقة من الوقت. ولكن اعتبر كتاب المجسطي الخلاصة لهذه المرحلة، وأول ما يمكن نسبه إلى أعمال هيبارخوس عملية رصد الاعتدال الخريفي يوم 26 أيلول عام 146 ق.م، كما يدين بدوره لأبولونيوس الذي سبقه بخمس وسبعين سنة بالنماذج الهندسية التي تغير أساس نظرياته، إلا أن هيبارخوس قد أضاف لهذه النماذج اهتماما خاصا في استخدام الأرصاد من أجل تحديد المتغيرات الوسطية التحتية. أما فيما يخص نظريته فهو يسلم بأن الجرم النهاري لا يبدي سوى شذوذ بسيط واحد، الشيء الذي يعني وفق التعبير الهندسي أنه يمكن أن يتخذ نموذجا له إما فلكا خارج المركز ذا أوج ثابت وإما فلكا حاملا ذا فلك تدوير واحد.

يمكن تحديد فترة عمل بطليموس  بفضل الأرصاد التي يذكر أنه قام بها بنفسه في العامين 127 و143. ويعتبر كتابه “الأطروحة الرياضية” الذي ترجم لدى العرب تحت إسم“المجسطي” أكثر مؤلفاته شهرة، يبين المؤلف أن علم الفلك لا يتميز في السنوات التي تفصل هيبارخوس عن بطليموس بتطورات مهمة. وقد اعتمد بطليموس على نظرية هيبارخوس في ما يتعلق بحركة الشمس و اكتفى بها بالرغم من الأخطاء التي لوحظت في المقاييس الهيبركية، وندين لبطليموس بمجموعة من التطورات الكبيرة في نظرية القمر- إذ تحتل هذه الأخيرة مكانة مهمة في تاريخ علم الفلك- إضافة إلى العديد من النظريات التي احتلت مكانة مهمة في تاريخ العلم.

العصور الوسطى

يميز الكاتب  في العصور الوسطى بين منطقتين هما: الغرب المسيحي والعالم الإسلامي. ويبين أن الغرب المسيحي مر بأربعة حقب: تمتد الأولى – وهي الفترة المظلمة- من غزو البرابرة إلى بداية القرن الحادي عشر، ونجد هنا شخصيات قليلة أدركت مدى أهمية إنقاذ تراث الحضارات القديمة،  نجد من أهمهم  “بويسيوس Boéce وتلميذه “كاسيودوروسCassiodore ” وآخرون. والحقبة الثانية امتدت خلال القرنين 11 و12 م حيث أسهمت الاتصالات الدولية على إيقاظ أوروبا من سباتها، وساعدت كذلك على إدخال العلوم العربية إلى الغرب، وفي هذه المرحلة أصبحت طليطلة عاصمة قشتالة وأشرف فيها الأسقفريمون على جانب الترجمة.

تأتي بعد تلك المرحلة الحقبة الثالثة وهي التي شهدت تأسيس الجامعات، وعُرفت هذه الفترة بحركة خلاقة حلت محل التلقي السلبي للثقافة العربية بتأثير من ملِكين هما فريديريك الثاني (ملك صقلية) وألفونس العاشر(ملك قشتالة). ثم تلتها الحقبة الرابعة وهي فترة الركود والتراجع الإقتصادي الذي رافقه انحطاط الجامعات  بين عام 1350 وعام 1450.

وأما في العالم الإسلامي فتحدث الكاتب عن إسهام علماء الإسلام في علم الفلك مشيرا إلى أن مغامرة علم الفلك الجديدة قد بدأت في بغداد منذ النصف الثاني للقرن 8. ويقدم الكاتب مثالاً على ذلك كتاب “زيج3 السندهند” الذي ترجم إلى العربية على يد محمد بن ابراهيم الفزاري ويعقوب بن طارق.

بالإضافة إلى ما سبق فإن أول عمل فلكي للعرب يصل إلينا بالكامل يحمل أيضا نفس الاسم ألا وهو “زيج السندهند” الذي يعود للخوارزمي4، وذلك بفضل الترجمة اللاتينية التي قام بهاأديلارد الباثي في القرن الثاني عشر.

يستنتج الكاتب من كل هذا أن علم الفلك العربي وريث علم الفلك البطليمي، وقد قسم مراحل علم الفلك  في العالم الإسلامي إلى ثلاثة حقب: مرحلة الجمع ثم مرحلة التحليل النقدي للمعطيات البطليمية، ثم أخيرا مرحلة إعادة صياغة النماذج البطليمية.

إن اكتشاف الأزياج الهندية كان هو السبب الرئيسي في جعل علماء العرب يهتمون بعلم الفلك البطليمي والقيام بنشره، ومن أشهر العروض التي قدمت في تلك الفترة كتاب “جوامع علم النجوم والحركات السماوية5 الذي هو عبارة عن ملخص “للمجسطي” يتضمن مختلف حسابات الأشهر والسنوات عبر العصور.

وخلص في هذا الفصل إلى أن علم الفلك العربي بالغرب الإسلامي- الذي تطور بالأخص في الأندلس- قد لعب دورا حاسما في نشأة علم الفلك في أوروبا المسيحية رغم أنه لن يصل إلى مكانة وجودة علم الفلك المشرقي، ويرجع السبب في ذلك حسب الكاتب إلى الموقف الصلب الذي اتخذه بعض علماء الفلك الأندلسيين تجاه خرق علم الكون الأرسطي، رغم أن علماء الفلك العرب قد رفضوا نقطة التساوي إلا أنهم اعتبروا رفض النماذج ذات الأفلاك التدويرية أو ذات الأفلاك الخارجة المركز مسألة خاطئة.

ولقد كانت الدوافع الأكثر قوة لعلم الفلك في العالم الإسلامي مسائل عملية بالخصوص، مثل المسائل المتعلقة بتحديد أوقات الصلاة، أو تحديد اتجاه القبلة، ولقد كان المجتمع الإسلامي الأول من اعتمد على عدد كبير من علماء الفلك بين القرنين الثامن والرابع عشر، ولم يسبق لأي حضارة أخرى أن استعانت به. كما شهد العالم الإسلامي إنشاء مراصد عامة و خاصة تعتمد على برامج رصد محددة. ويشير الكاتب إلى أن هذه المراصد قد بلغت أوجها في الجزء الثاني من القرن الثالث عشر مع مرصد مراغة شمال غربي إيران حاليا. وتواصل هذا التطور مع مرصد سمرقند6 في القرن الخامس عشر.                            

الثورة الكوبرنيكية

قدم الكاتب في بداية هذا الفصل لمحة عن مجرى  حياة عالم الفلك كوبرنيكوس7 وتنقلاته، والتي خاض فيها مجموعة من التجارب العلمية، مع ذكر أهمية مؤلَّفه في (دوران الأجرام السماوية) الذي اعتبره كوبرنيكوس نفسه المجسطي الجديد، ويعرض في هذا الكتاب على حد قول فيردي “البنية العامة للعالم والأسس الفيزيائية التي بنى عليها كوبرنيكوسإنقاذ الظواهر حيث يرفض كل الأرصاد المعروفة”، كما يعرض فيه النظام الجديد للعالم إذ تكون الشمس فيه ثابتة في مركز هذا النظام (أو قرب المركز) ويصبح كل من عطارد والزهرة والأرض مجرد كواكب عادية، وتدور الأرض كل يوم حول نفسها، ويأتي المريخ وزحل وراء مدار الأرض (المدار الكبير) وتحيط بهذا النظام كرة النجوم الثابتة. أما الكتاب الثاني فقد اقتصر فيهكوبرنيكوس على عرض المسائل الرياضية لعلم الفلك الكروي، وتطرق في الكتاب الثالث إلى موضوع حركة الشمس الظاهرة، أما الكتاب الرابع فاختص بحركة القمر ونظرية الخسوفات، والكتابان الخامس والسادس خصصا لحركة الكواكب على خطوط الطول وكذلك على خطوط العرض.

وبعد كوبرنيكوس تحدث فردي عن كبلر الذي تفرغ في بداية حياته الدراسية لدراسة علم اللاهوت، كما درس علم الأخلاق وفن الجدل واللغة اليونانية والعبرية وعلم الفيزياء وعلم الكرويات. وتلقى تعليما جيدا من قبل “مايكل مايستلين” في جامعة توبنغن. أصبح فيما بعد أستاذا في جامعة شتيفتشول “Stiftsschule”، وقام بتدريس علم الفلك بعدما كانت مهمته تدريس مبادئ علم الفلك لشبان نبلاء بروتستانتيين وكذا القيام بكتابة تقارير تتضمن توقعات فلكية للسنة التالية. كما قام كبلر بالعديد من التجارب من أجل التوصل إلى السبب وراء عدد المدارات متسائلا: “لماذا هي ستة مدارات بالتحديد بدلا من عشرين أو مئة؟”. شكلت هذه التساؤلات الحافز القوي الذي دفع كبلر إلى إنجاز كتاب “اللغز”، واعتمد على مجموعة من التجارب التي باء أغلبها بالفشل من أجل فك هذه التساؤلات، وانتقل من الهندسة المستوية إلى الهندسة الفضائية والتي بإمكانها أن تعبر أكثر عن بنية العالم واعتبرها حلا لفشله السابق. كما قام بوضع لائحة بالميزات الرياضية الموجودة في نظام كوبرنيكوس التي تميزه عن نظام بطليموس.

انتقل جان بيار فردي بعد ذلك للحديث عن واحد من أهم علماء الفلك ألا وهو “غاليليه” الذي يعتبر مؤسس علم الميكانيك الكلاسيكي، إذ قام باختراع أول منظار له في 21 أغسطس عام 1609، وفي نفس العام خلال نهاية نوفمبر أنهى منظارا جديدا بقوة عشرين في حين لم تبلغ قوة المنظار الذي كان قد عرضه على الدوج (doge) سوى ثمانية. وبنفس المنظار الذي تبلغ قوته عشرين قام غاليليه برصد العديد من الأشياء من بينها رصد ورسم القمر ذي الأربعة أيام، وواصل رصده حتى مغيبه، كما اكتشف بعد ذلك الطبيعة الحقيقية لدرب التبانة والجبال القمرية، وأقمار المشتري والكلف الشمسي؛ وقد سبق إلى هذا الاكتشاف الأخير كل منThomas Harriot  و Christophe Scheiner و Johanne Fabricuis وقد اعتمد غاليليه في ذلك على تاريخ نشر الرسالات، فقد كان هاريوت أول من أعطى تفسيرا لهذه الظاهرة، ثم تأتي بعد ذلك رسائل لشاينر تتعلق بالكلف الشمسي ثم رسائل غالييليه التي نشرت عام 1613. لكن دقة ووضوح برهان طبيعة الكلف الشمسية الذي قدمه غاليليه جعلا من رسائله المتعلقة بالكلف الشمسي واحدة من أفضل مؤلفاته، وتشهد ثلاثة من هذه الاكتشافات على الأقل لصالح كوبرنيكوس أو بعبارة أخرى ضداً على بطليموس وأرسطو.

بعد فترة امتدت نحو خمسين سنة من بعد نشر كتاب “دوران الأجرام السماوية “لكوبرنيكوس لم تنتصر مركزية الشمس. وبالرغم من أن الحصن الأرسطي البطليمي قد تزعزع، وأن تنظيم العالم البطليمي يتعارض معه اكتشاف أوجه الزهرة وأن السماوات ليست ثابتة، فإن نظام تيكو براهي سيقوم بجذب العالم العلمي وعلماء اللاهوت، إذ قدم نظامه عام 1588 في مؤلفه De mundi aetheri recentioribus phaenomenis8 وطمحتيكوبراهي إلى الجمع بين ميزات النظام البطليمي بثبات الأرض وميزات النظام الكوبرنيكي. وشرح المظاهر الحركية للحركات السماوية، كما أنه رفض مبدأ أن يكون هناك عالم فيه حجم الأجسام أكبر من المسافات التي تفصل بينها. وعمل على رصد مسافات الزاوية من النجم الجديد – الذي لاحظ أنه يلمع أكثر من الزهرة- إلى النجوم المجاورة طوال ثمانية عشر شهراً ولم يلاحظ أي تغير بالمسافات، ليخرج بنتيجة مفادها أن هذا الجرم عبارة عن نجم.

ولادة علم الفلك الكلاسيكي

ارتسمت معالم علم الفلك الكلاسيكي مع إسحق نيوتن، الذي كان على وشك أن يصبح مزارعا، لكنه عاد إلى الدراسة ووصل إلى كامبردج. وساهمت العزلة التي قضاها في قراءة الكتب ودراستها ونقدها في تشكيل تفكيره العميق، إذ وضع الأسس الأولى لعلم بصرياته، ولعلم الميكانيك، وقد وقعت أحداث التفاحة في هذه الفترة الزمنية. ورغم أنها اعتبرت مجرد أسطورة إلا أنها كشفت عن قانون أساسي هو قانون الجاذبية، كما أدت إلى وضع عدة تساؤلات من قبيل “لماذا لا يقع القمر على الأرض كما تقع هذه التفاحة؟”. والجواب المناسب على حد تعبير فردي “إن القمر يقع نحو الأرض”، بمعنى أنه يقع في كل لحظة، وإذا لم يكن يقع بموجب مبدأ العطالة، فإنه سيبتعد عن الأرض.

كشف نيوتن عن نتائجه سنة 1687 في كتابه “المبادئ الرياضية للفلسفة الطبيعية9، إذ خصص الكتاب الأول منه لدراسة حركات الأجسام الخاضعة لتأثير قوة مركزية، فالجزء الأول منه يحتوي كل ما يتعلق بالجاذبية الكونية، وبالتالي فهو تعميم لقانون كبلر الثاني للمساحات، ويدرس الكتاب الثاني حركات الأجسام نفسها عندما تكون مغمورة في سائل مقاوم، أما الكتاب الثالث فإنه يعرض نظام العالم إذ هو أقل اهتماما بالرياضيات. وقد صنع نيوتن أول تلسكوب. وهو الذي سيحل محل المنظار، وستصبح الأداة المفضلة لدى علماء الفلك الفيزيائي.

 الطريقة التي يعرضها نيوتن في المبادئ هي طريقة علماء الهندسة القدامى، إذ تتمحور حول استخلاص النتائج من فرضيات محددة وتسمى الطريقة التركيبية بخلاف ما إذا كان الباحث بصدد وضع نظرية أو شروط فإنه يتبع الطريقة التحليلية.

علم الفلك الكلاسيكي 

أدرج الكاتب في الفصل الأخير المتعلق بعلم الفلك الكلاسيكي مجموعة من العلماء الذين كانت لهم إسهامات مهمة في علم الفلك، كـ “ليونارد أويلر” الذي ساهم في وضع أسس علم الميكانيك التحليلي في مؤلفه “Mechanica, sive motus scientia ، “ولكن طريقته كانت مثقلة بأساليب الطريقة التركيبية القديمة”10. إضافة إلى بيار لويس مورو دو موبرتوي، وجان لو رون دالامبير الذي وضع القواعد الرياضية لديناميكية أنظمة نقاط مادية في كتاب“رسالة في علم الديناميك”، وغيرهم من العلماء الذين كان لهم أثر بارز في علم الفلك.

لم يقم نيوتن بتطوير نظرية القمر لعدم إحاطته ببعض المعطيات المتعلقة بحركته، إضافة إلى صعوبات أخرى، إذ كان من الضروري إعادة هذه النظرية بالتفصيل على حد تعبير الكاتب، فلمعادلات الحركات السماوية خاصية تكمن في أنها تحل ببساطة وذلك في حالة جسمين متواجهين، ولكن في حالة إضافة جسم ثالث يصبح الحل تحليلياً معقداً. ومع النظام الشمسي يجد الميكانيكيون أنه إذا كانت المسألة تتعلق بكوكب ما فبالتالي يخضع للتأثير الغالب للشمس، وإذا كانت تتعلق بقمر ما فإنه يخضع للتأثير الغالب لكوكبه الأم. ويبين الكاتب أن لحركة القمر صعوبات تجعل بعض المتخصصين في الميكانيكا السماوية يعتقدون أنه ينبغي تعديل قانون الجاذبية الكونية. ويعتبر اكتشاف كوكب أورانوس سنة 1781  11 بالحساب الجديد انتصارا لعلم الميكانيك النيوتوني.

حاول الكاتب أن يبرز المراحل الأساسية لتطور علم الفلك الغربي منذ عصر اليونان إلى العصر الذي تفوقت فيه الميكانيكا السماوية في العصور الكلاسيكية، وقدمها بكل قواعدها الأساسية التي يرتكز عليها علم الفلك الحديث، مع ذكره للاكتشافات التي شهدها علم الفلك ويقدم أبرز علمائه الذين كان لهم دور كبير في إبراز أهم النظريات التي تتعلق برصد السماء كما أحدثوا انقلابات عديدة. 

يتبين لنا مما سبق أن الكتاب تعليمي وليس تخصصي، لأنه يعتمد على إبراز أهم مراحل علم الفلك برصد بداياته منذ المرحلة اليونانية وصولا إلى علم الفلك الكلاسيكي، محاولا بذلك تقريب القارئ إلى كل مرحلة من مراحل علم الفلك التاريخية، مع عدم إغفال الجانب الإسلامي، مخصصا له بذلك محورا في الفصل الثالث المعنون ب “العصور الوسطى” وتطرق فيه إلى أهم المراحل التي مر بها علم الفلك في العالم الإسلامي، كما ذكر مجموعة من العلماء العرب كالبيروني و البتاني، ولم ينس المؤلف أن يربط علم الفلك بعلوم الرياضيات التي كانت أساسا مهما لعدد كبير من الدراسات التي إعتمد عليها علماء الفلك أمثال ليونارد أويلر و بيار لويس مورو دو موبرتوي.


1 – نقطة التساوي هي النقطة التي يدور حولها بسرعة ثابتة مركز فلك تدوير كوكب. وبطليموس هو أول من أدخل هذه النقطة في مِلفه المجسطي، وذلك لتفسير ظاهرة تغير المسافات بين بعض الكواكب والأرض.

2 – التأكيدات الوحيدة التي يملكها الكاتب حول هيبارخوس تتمثل في مكان ولادته “نيقيا” (Nicée) في بيثينيا (Bithynie) في شمال غربي آسيا الصغرى.

3 – جداول رياضية عددية، تحدد حركات الكواكب السيارة في فلكها ووضعها من حيث الارتفاع والنخفاض والميول، وهي بالتالي تسمح بحساب أماكن الكواكب السيارة في وقت زمني محدد.

4 – رياضي وعالم فلك وجغرافي، ولد قبل العام 800.

5 – ألفه أحمد بن محمد بن كثير الفرغاني حوالي العام 850، توفي في مصر بعد العام 861، وله كذلك دراسة حول بناء مزاول شمسية في كتاب “أمل السخامات“.

 6 – بناه السلطان والعالم أولغ بيغ

7– ولد في بولونيا في 19 شباط/فبراير عام 1473 في تورن (Torun) توفي سنة 1543.

8 – يتخصص هذا المؤلف لأرصاد مذنبات الأعوام 1577 و1580 و1582 و1585.

9 – يتكون من ثلاثة أجزاء يسبقها مقطعان صغيران ويقدم في المقطع الأول ثمانية تعاريف هي: 1- تقاس كمية المادة بالثقل النوعي والحجم معاً 2- كينة الحركة هي حاصل ضرب الكتلة بالسرعة 3- القوة الداخلية للمادة هي قدرتها على المقاومة 4- القوة المنقولة هي الحركة التي يتغير تحت تأثيرها حال الجسم 5- القوة الجاذبة هي القوة التي تشد الأجسام نحو نقطة معينة 6- الكمية المطلقة للقوة الجاذبة يختلف كبرها حسب فعالية المصدر الذي ينشرها انطلاقا من المركز 7- المقدار المسرع للقوة الجاذبة متناسب مع السرعة التي يولدها خلال فترة معينة 8- المقدار المحرك للقوة المسرعة متناسب مع الحركة التي  يولدها.

10  – يشير الكاتب أن طريقة ‘أويلر” في دراسة الحركة المنحنية الأضلاع تقوم على تقسيم كل القوى إلى قوى عادية وقوى تماسية،. ص160

11 – اكتشف هرشل على أنه كوكب سيار بعد ما ظن أنه كوكب ثابت.


1 – عنوان الكتاب الأصلي هو: Histoire de l’astronomie ancienne et classique صدر عن المطابع الجامعية الفرنسية PUF ، وترجم إلى العربية من قبل ريما بركة، وصدر عن المنظمة العربية للترجمة’ بيروت، 2009.

وجان بيار فردي Jean-Pierre Verdetعالم فلك يعمل في مرصد باريس حيث يشغل فيه منصب رئيس جناح علم الفلك الأساسي  « L’astronomie Fondamentale »، حائز على درجة الدكتوراه في العلوم، ويهتم بمجال الفيزياء الفلكية وكذا بتاريخ علم الفلك، وله مجموعة من الأعمال العلمية الموزعة بين أعمال جماعية (بالإشتراك) وفردية بين ترجمات وكتب مدرسية.

Science

ذة. كنزة فتحي

حاصلة على الإجازة في الفلسفة

باحثة سابقة بمركز ابن البنا المراكشي

مهتمة بدراسة تاريخ النساء العالمات في الحضارة العربية الإسلامية

ترجمت عدة مقالات من اللغة الإنجليزية إلى اللغة العربية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق