مركز ابن البنا المراكشي للبحوث والدراسات في تاريخ العلوم في الحضارة الإسلاميةتراث

تاريخ العلوم العربية من خلال سلسلتين مرئيتين : حصيلة أولية

تاريخ العلوم العربية من خلال سلسلتين مرئيتين : حصيلة أولية

عبد العزيز النقر

مركز ابن البنا المراكشي

 

   مرت سنة ونيّف على إطلاق مركز ابن البنا المراكشي لسلسة مرئية تحمل عنوان "أعلام العلوم الكونية في الإسلام". كان الهدف من وراء هذه المبادرة -ولا يزال- تحقيق مجموعة من الرهانات الأساسية فيما يتعلق بتراثنا العلمي، ويأتي في مقدمة هذه الرهانات تعريف الجمهور العربي -من كل الفئات العمرية- بأهم وأبرز الإنجازات العلمية التي أبدعها أو أسهم في تطوريها علماء الحضارة العربية الإسلامية. وبما أن أحد أهدافنا الأساسية كانت هي مخاطبة فئات مختلفة من غير المتخصصين، فإننا نعتقد أن اختيار تقديم تلك المادة العلمية على شكل فيديوهات (مرئية) كانت خطوة مهمة ساعدت في الانفتاح على أكبر قدر ممكن من الجمهور. إذ لا يخفى أنه رغم الأهمية البالغة التي تكتسيها الأعمال الأكاديمية الرصينة، إلا أنها غالبا ما لا تتعدى النطاق الضيق لأهل اختصاص معين (تاريخ العلوم في حالتنا هذه). لهذا، فإننا نعتقد أن استثمار التطور التقني المعاصر يمكن أن يكون ذا فوائد جمة بخصوص الأهداف المُشار إليها أعلاه، خصوصا تعريف عموم المتتبعين بالإنجازات العلمية للحضارة العربية الإسلامية.

   تم الشروع، خلال السنة الماضية (2023)، في العمل على سلسلة "أعلام العلوم الكونية في الإسلام" بالموازاة مع الاشتغال على سلسلة أخرى تحمل عنوان "ومضات من تاريخ العلوم في الحضارة الإسلامية". تشترك السلسلتان في نفس الغاية وتختلفان -نوعا ما- في الكيفية، إذ تم تخصيص سلسلة "ومضات" لمواضيع تتسم بطابع عام بحيث تتناول حلقاتها مجموعة من الجوانب العلمية والعمرانية للحضارة العربية الإسلامية، وذلك من خلال إبراز خصائصها العامة مع التركيز على استجلاء مميزاتها وفرادتها قياسا إلى الحضارات السابقة واللاحقة. بتعبير آخر، تهدف السلسلة، في المقام الأول، إلى أن تجعل المتتبع على معرفة بالخطوط الكبرى التي شكلت فسيفساء الحضارة الإسلامية في شقيها العلمي والعمراني. وغني عن البيان أن هذان الجانبان لم يكونا منفصلين البتة داخل هذه الحضارة، لدرجة يمكن القول معها إنه ما كان للعمران أن يتطور لولا الأرضية العلمية (كالهندسة وعلم الفلاحة وعلم الفلك ...) التي أسندته، وما كان أيضا للمعرفة العلمية أن تتقدم -في بعض جوانبها على الأقل- لولا تلك الحاجيات العمرانية والدواعي المجتمعية التي حثت العلماء وشجعتهم على تطوير معارفهم وتجوديها خدمة للمجتمع الإسلامي.

   تم إلى الآن إنجاز حلقتين من سلسلة "ومضات". خُصصت الحلقة الأولى للحديث عن السياق الثقافي العام الذي أطر البدايات الأولى لظهور المعرفة العلمية داخل الحضارة الإسلامية (نُشرت هذه الحلقة في جزئين). وفي ارتباط وثيق بموضوع الحلقة الأولى، بدا لنا أن نخصص الحلقة الثانية لموضوع "الترجمة" نظرا لأهميته ومركزيته في نشوء وتطور المعرفة العلمية في الإسلام. لم تركز الحلقتان -في غالب الأحيان- على المعطيات التفصيلية بقدر ما تم الاقتصار فيهما على إبراز طبيعة تلكمُ المواضيع وفق كيفية تتسم بالعمومية والشمولية قدر الإمكان. وينبع اختيار هاتين السمتين من أننا كنا نتوخى، كما أسلفنا القول أعلاه، مخاطبة أكبر قدر ممكن من المتتبعين من غير ذوي الاختصاص.

   في المقابل، لا تعكس خاصية الشمولية وسمة العمومية بالضرورة بساطة في العرض أو سطحية في التناول، ففي حالات كهذه، تقتضي كتابة نصوص (Script) الحلقات الالتزام بتقديم معلومات تتسم بالشمولية من جهة، وتتصف كذلك بـ"الدقة" العلمية من جهة أخرى. ونأمل أن نكون قد وفقنا في الموازنة بين هذين المعطيين في مجمل الحلقات التي قدمناها. ينضاف إلى ما تقدم معطى ثالث يتعلق بالحيز الزمني، حيث حرصنا دائما على ألا تكون الحلقات التي نعرضها طويلة تفاديا لأي نتائج سلبية، كالعزوف عنها أو عدم مشاهدة الحلقة كاملة من طرف المتتبعين.

   أما السلسلة الثانية التي تحمل عنوان "أعلام العلوم الكونية في الإسلام"، فهي تشترك مع سلسلة "ومضات" في مجمل الخصائص التي أسلفنا الحديث عنها، باستثناء أن سلسلة "أعلام" تركز، بشكل أكبر، على إبراز قيمة وأهمية عالِم من علماء الحضارة العربية الإسلامية في مجال العلوم الدقيقة، حيث يتم -في الغالب الأعم- تقديم معطيات بيوغرافية موجزة عنه، ثم الإشارة إلى أبرز مؤلفاته العلمية مع التركيز على الإسهامات النوعية التي قدمها في مبحث معين أو مبحثين. ولكي نُضفي على هذه الفيديوهات نوعا من التفاعل، ارتأينا أن نقدمها بصيغة المتكلم، حيث يتولى عالم ما الحديث بنفسه عن أبرز محطات حياته وتكوينه العلمي، مبرزا في الآن نفسه لقيمة بعض إنتاجاته وإسهاماته العلمية. ونعتقد أن هذا الأمر قد يُسعف في إضفاء طابع تفاعلي على الفيدوهات المعروضة بحيث يجعل من المتلقي شخصا مخاطَبا من طرف العالِم الذي يتحدث عن نفسه بضمير المتكلم.

   نشرنا حتى الآن سبع حلقات من هذه السلسلة، وقد تناولت الحلقات -على التوالي- الأعلام التالية : الشيخ الرئيس ابن سينا، أبو القاسم الزهراوي، ابن البنا المراكشي، أبو الخير الإشبيلي، أبو الريحان البيروني، ابن هيدور التادلي، جابر بن حيان. وكما يلاحظ القارئ، فإن هذه الأسماء تنتمي لمناطق مختلفة من العالم الإسلامي، حيث تتوزع على شرقه وغربه، كما أن هؤلاء العلماء اشتغلوا بمباحث مختلفة ومتنوعة، منها الرياضيات والطب وعلم الفلك وعلم النبات ...

   لقد كان هذا التنوع، سواء من حيث الأماكن الجغرافية أو من حيث المباحث العلمية التي اشتغلوا بها، مقصودا بحيث لم نشأ إعطاء أولوية لأي مبحث علمي على حساب المباحث أخرى. من جهة ثانية، يمكن لهذا التنوع الجغرافي والمعرفي أن يعكس خاصية مهمة وسمت الممارسة العلمية داخل الحضارة الإسلامية، وتتجلى هذه الخاصية في أن الاهتمام بالعلوم لم يكن محصورا في منطقة معينة دون باقي المناطق الأخرى، بل إن توزع العلماء على كثير من الحواضر الإسلامية، سواء في المشرق أو في المغرب، ليشهد بأن المعرفة قد عرفت داخل هذه الحضارة الإسلامية انتشارا في المكان وامتدادا في الزمان قل نظيرهما في التاريخ الإنساني.

   إضافة إلى هذا، فإن المرء لا يكاد يجد مبحثا من المباحث العلمية إلا ولقي اهتماما وتطويرا من لدن علماء الحضارة الإسلامية. ويشهد على ذلك أمور عدة، من بينها كثرة المنصفات التي تركها هؤلاء، والتي تغطي مجمل المجالات العلمية التي كانت موجودة إبان تلك المرحلة التاريخية. بناء عليه، فإننا نعتقد أن تنويع الأعلام التي نقدمها، بناء على مناطق انتمائهم والمباحث التي أبدعوا فيها، قد يساعد في استجلاء كثير من الخصائص والمميزات التي طبعت حضارتنا في مجال العلوم الدقيقة.

   كان هذا فيما يتعلق بالجوانب المعرفية من هاتين السلستين، أما فيما يرتبط بالجوانب التقنية والفنية، فقد حرصنا في كل حلقات السلسلتين على تقديم صور (متحركة) تراعي خصوصيات وحيثيات وتفاصيل الحضارة الإسلامية في العصر الوسيط على عدة مستويات، من بينها -مثلا- طبيعة الأماكن والملابس والشخصيات ...

   من جهة أخرى، يستطيع المتتبع أن يلاحظ تحسنا تدريجيا في كيفية تقديم وعرض محتويات هذه الحلقات. ولا ريب في أن السعي إلى الجمع بين "الدقة العلمية" والإخراج الفني "الأنيق" لكفيل بأن يسهم في تحقيق الأهداف التي من أجلها تم إنشاء هاتين السلسلتين. وهذا بالضبط ما نأمل أن ننجح في تحقيقه في المستقبل بإذن الله تعالى.

   لقد حرصنا على نشر مجمل الحلقات على الموقع الإلكتروني لمركز ابن البنا المراكشي وعلى قناة المركز على اليوتيوب. ونعتقد أن إنشاء هذه القناة قد كان خطوة موفقة في عدة جوانب، من بينها إتاحة إمكانية "للترجمة الآلية" (إلى لغات مختلفة) للمحتوى الذي تقدمه هذه الفيديوهات. ورغم أن هذه الترجمة الآلية ليست دقيقة بالشكل الكافي، إلا أن وصول هذه المادة العلمية -ولو بشكل تقريبي- إلى المتتبعين غير الناطقين باللغة العربية يظل مكسبا بالغ الأهمية بالنسبة لنا.

   نشير، في الختام، إلى أن مشروع هاتين السلسلتين المرئيتين ("أعلام العلوم الكونية في الإسلام" و"ومضات من تاريخ العلوم في الحضارة الإسلامية") قد أنجز تحت الإشراف العام للسيد الأمين العام للرابطة المحمدية  د. أحمد عبادي، وبإشراف علمي من رئيس مركز ابن البنا المراكشي  د. جمال بامي. أما كتابة نصوص الحلقات فقد تولاها كل من عبد العزيز النقر وعبد الغني زيدان وسلوى سعود (باحثون بمركز ابن البنا المراكشي)، هذا في حين تولى أكرم صبحا (مصمم جرافيك بوحدة علم وعمران) مهمة الإنجاز الفني والتعليق الصوتي.

Science

ذ. عبد العزيز النقر

حاصل على شهادة الماستر في الفلسفة

باحث بمركز ابن البنا المراكشي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق