وحدة الإحياءدراسات وأبحاث

المستشرقون والسنة

د. يوسف الكتاني
(العدد 17)

مقدمة

مما لاشك فيه أن قضية الاستشراق والمستشرقين قديمة حديثة، برزت موازية لظاهرة التبشير في العالم العربي والإسلامي، لتحقيق هدف واحد هو التمهيد لاستعمار العالم الإسلامي، وفتنة المسلمين في عقيدتهم ودينهم، وتكفيف أواصر وحدتهم، وبث الخلاف في صفوفهم، والقضاء على شوكة الإسلام وقوة المسلمين، والإجهاز عليهم كما يشهد تاريخ الاستعمار في بلاد العرب والمسلمين، وقد تعددت أهداف المستشرقين ووسائلهم للوصول إلى مبتغاهم، وكان أهمها:

أولا؛ تشكيك في صحة رسالة النبي عليه الصلاة والسلام ومصدرها الإلهي، وإنكارهم لنبوته ورسالته، وتخبطهم في تفسير مظاهر الوحي، وتحاملهم في تفسيراتهم وتحليلاتهم مما يبعدها عن الصواب والواقع.

ثانيا؛ إنكارهم أن يكون الإسلام دينا من عند الله، وأنه ملفق من الديانتين اليهودية والنصرانية من دون أن يسندوا دعواهم بحجج علمية صحيحة ومقبولة.

ثالثا؛ التشكيك في صحة الحديث النبوي وتذرعهم في ذلك بما دخل عليه من وضع ودس، ضاربين عرض الحائط بالمنهج الحديثي الصحيح الذي وضعه علماء الحديث وأئمته.

رابعا؛ التشكيك في القيمة الذاتية للفقه الإسلامي، غيرة وحسدا من هذا المجهود الضخم الذي لم يجتمع مثله لأمة قط غير المسلمين.

خامسا؛ التشكيك في قدرة اللغة العربية على مسايرة التطور العلمي، والطعن في أدبنا العربي وقيمته وتاريخه بغية القضاء عليه.

سادسا: إضعاف ثقة المسلمين بتراثهم، وبث روح الشك في كل ما بين أيديهم من قيم وعقائد ومثل عليا، تمهيدا لنشر حضارة الغرب ومثله وأخلاقه.

وهم من أجل ذلك قاموا بكل ما يوصلهم إلى أهدافهم، ويحقق مقاصدهم من تشويه وتزييف في دراساتهم وكتبهم ونشراتهم، وبما أشاعوه بين المسلمين من خلال مؤتمراتهم وتجمعاتهم، من سوء الظن برجال المسلمين وعلمائهم وروادهم، وتصوير المجتمع الإسلامي في مختلف عصوره كمجتمع متفكك أناني، وتحقير الحضارة الإسلامية والتشكيك في قيمها ومعالمها، وتحريفهم للنصوص المدروسة وبترها، تحقيقا وصولا إلى نظرياتهم التي وضعوها من أجل التشكيك والتهوين، وبث الاختلاف بين المسلمين، وسوء اختيارهم للنصوص التي درسوها أو قدموها نموذجا لدراساتهم ونظرياتهم، مما جعل أغلب دراستهم ونظرياتهم بعيدة عن الحقيقة والواقع، من جراء جهلهم بطبيعة المجتمع الإسلامي، وبحقائق الدين ومقاصده السامية، ونياتهم المبيتة لتحقيق أهدافهم ومراميهم المختلفة، سواء كانت سياسية أو دينية أو علمية أو غيرها.

ولم يترك المستشرقون وسيلة لنشر أبحاثهم، وبث آرائهم، ونظرياتهم إلا سلكوها، كتأسيس الجامعات والكليات، وطبع الكتب والنشرات، وعقد المؤتمرات والتجمعات، وفتح المستشفيات والجمعيات، والمدارس والملاجئ، ودور الضيافة، وغيرها، ناهيك وأن أخطر، ما قام به المستشرقون إلى الآن، هو إصدار دائرة المعارف الإسلامية بعدة لغات، وكذا إصدار موجز لها بنفس اللغات الحية التي صدرت بها الدائرة، ومصدر الخطوة في هذا العمل، هو أن المستشرقين عبؤوا كل قواهم وأقلامهم لها، وملؤوها بمختلف المزاعم والأباطيل عن الإسلام ونبيه وشريعته.

المستشرقون ودراستهم للسنة 

من المعلوم أن المستشرقين لم يتجهوا في أول الأمر إلى الدراسات الحديثية، بل انطلقت بحوثهم وكتابتهم في الاتجاهين الأدبي والتاريخي، وتفرغوا لهما وكتبوا فيهما، وكان الذين تفرغوا لدراسة السنة النبوية قلة قليلة منهم، إلى أن جاء المستشرق ” الأغناس غولد زيهر” وتفرغ لدراسة الحديث النبوي والكتابة فيه، إذ نشر سنة 1890م كتابه الشهير “دراسات إسلامية” وقد أصبح هذا الكتاب فيما بعد مصدرا للمستشرقين، ومرجعا للباحثين، باعتباره أول كتاب في هذا المجال.

ثم تلاه بعد أكثر من نصف قرن الأستاذ “شاخت” وتفرغ هو أيضا لدراسة السنة وعلومها، وأصدر كتابه الشهير “أصول الشريعة المحمدية” الذي انتقل فيه من النظرية التشكيكية “لغولدزيهر” إلى نظرة يقينية عنده بعدم وجود أحاديث صحيحة وخاصة الأحاديث الفقهية.

وبعد ثلاثة أرباع القرن ظهر مستشرق جديد هو “ألفريدغيوم” الذي وضع كتابا سماه “أحاديث الإسلام” اعتمد فيه على سابقيه، مما جعل كتابه غير ذي موضوع ولا صفة علمية.

هذا ويمكن القول بأن دراسة المستشرقين وبحوثهم وكتبهم حول السنة النبوية، لم تكن صحيحة ولا موفقة، لعدم فهمهم لحقائق الدين ومقاصده، وعدم إحاطتهم وإدراكهم للمنهج الحديثي العظيم، الذي أبدعه علماؤنا رواية ودراية ونقدا، وفي مقدمتهم الإمام البخاري، والإمام مسلم، والنووي، والذهبي وسواهم، كما أن مناهج بحثهم جانبت الصواب، وتغافلت عن الحقيقة أو تجاهلتها ولم تدركها، وفي مقدمة هؤلاء المستشرقين كتابات “جولد زيهر” و “شاخت” التي صارت مراجع لكتاب الغرب، الذين قاموا بأخطر دور في تاريخ البحث العلمي بالنسبة للحديث النبوي، وتلخصت مطاعنهم فيما يلي:

1. تحريف مفهوم السنة النبوية معتبرين بأنها “الأمر المجتمع عليه في الأوساط العلمية”، مما يعني أنها ليست سنة النبي، صلى الله عليه وسلم، كما هي حقيقة، وكما يعتقدها سائر المسلمين.

2. الطعن في حجية السنة وقيمتها التشريعية

3. الادعاء بتأخير تدوين السنة وكتابتها قرنا بل قرونا، مستنتجين من ذلك عدم إمكان الاعتماد عليها بدعوى خيانة.

4. التشكيك في قيمة الأسانيد الحديثية، بدعوى أنها وجدت بشكل بدائي في نهاية القرن الأول، ثم تطورت في القرنين الثاني والثالث، مما تعتبر معه غير صحيحة ولا يمكن قبولها، خاصة وقد بلغ عدد الأحاديث أكثر من سبعمائة حديث كما يقولون.

5. ظهور الوضع والكذب نتيجة انتشار المذاهب.

شبهات المنكرين للسنة 

أثار المستشرقون من خلال دراستهم النبوية شبهات كثيرة حول: مصدرها، ونشوئها، وعددها، وثبوتها، وصحتها، ومنها أنها غير متواترة، وفيها الحسن والضعيف، والموضوع، وفيها أحاديث نقلت بالمعنى لا باللفظ، ومنها اختلاف رواياتها ورواتها، وغير ذلك من الأقاويل والأباطيل والأكاذيب، التي ألصقت بالحديث النبوي الشريف عن قصد مبيت، وغاية مشبوهة، بواسطة آراء مكذوبة، ودسائس مغرضة، قصد بها زعزعة ثقة المسلمين في سنة نبيهم، وتسميم أفكارهم، وخاصة الشباب، وذلك من أجل إبطال العمل بالسنة، وتعطيل الشريعة الغراء تحت ستار الاكتفاء بالقرآن، ونكتفي من تلك الشبهات المثارة حول السنة النبوية بإيراد أربعة منها  ثم نرد عليها.

الشبهة الأولى: الاكتفاء بالقرآن

لقد ذكر المستشرقون بأن الله تعالى أنزل قرآنه الكريم ليكون نظاما للمسلمين في حياتهم، ودستورا لمعاشهم، وقد وضع فيه كل ما يحتاجه الإنسان في حياته الدنيا والأخرى وجعل العمل به فريضة لازمة، فلا يحتاج القرآن إلى غيره لقوله تعالى: ﴿ما فرطنا في الكتاب من شيء، ثم إلى ربهم يحشرون﴾ [الأنعام: 38].

الشبهة الثانية: القرآن تبيان لكل شيء، ولا حاجة معه للسنة النبوية على الإطلاق

استدلوا أيضا على نظريتهم بعدم الحاجة إلى السنة النبوية، والاكتفاء بالقرآن الكريم وحده في جميع الأحكام والتشريعات، بآية أخرى لا علاقة لها بالسنة على الإطلاق، مؤكدين بأن الله جعل في القرآن مندوحة من كل ما عداه، لأنه تبيان لكل شيء كما جاء في الآية الكريمة: ﴿ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين﴾ [النحل: 89].

الشبهة الثالثة: عدم حاجة القرآن إلى بيان لأنه مفصل

أما الشبهة الثالثة التي احتجوا بها فهي قولهم: بأن القرآن لا يحتاج إلى بيان بل هو تبيان لكل شيء، وهو مفصل وموضح فيه كل شيء، لم يترك تعالى شيئا إلا ذكره وبينه وفصله، مصداقا لقوله تعالى: ﴿وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا﴾ [الأنعام: 114] لا يحتاج إلى غيره لأنه فيه جميع الحكام من أمور الحلال والحرام، والترغيب والترهيب، والثواب والعقاب.

الشبهة الرابعة: الاستغناء بالقرآن عن السنة

اعتمادا على أن القرآن قطعي الثبوت، والسنة ظنية، لذلك لا ينبغي الاعتماد في التشريع إلا على ما كان قطعيا دون الظني لاحتمال عدم الصحة حتى لا يكون العمل بالسنة، اتباعا للظن، وقفوا لما لا يعلم، وقد قال تعالى: ﴿وإن الظن لا يغني من الحق شيئا﴾ [النجم: 28].

وقوله تعالى: ﴿ولا تقف ما ليس لك به علم﴾ [الإسراء: 36].

الرد على هذه الشبهات

1. أما الرد على الشبهة الأولى

والآية التي استدلوا بها فإنها لا تسعفهم فيما ذهبوا  إليه، بل هي تتحدث عن سعة علم الله، وأن جميع أمور الناس والمخلوقات معلوم عنده تعالى، مسجل في اللوح المحفوظ الذي هو معنى الكتاب في الآية الكريمة، ولا يراد به القرآن الكريم، كما ذهب إلى ذلك الإمام الطبري في تفسيره، من أن الله الذي لم يضيع إثبات شيء متعلق سواء بالبشر أو الحيوان في لوحه المحفوظ وأثبته فيه فكيف يضيع أعمال  البشر ويترك جزاءهم في الآخرة[1].

فظهر من ذلك أن جهل المستشرقين بالمعنى الحقيقي للآية، هو الذي دفعهم إلى الزعم المذكور؛ لأنه لا يراد بالكتاب في الآية، القرآن الكريم بل يراد به اللوح المحفوظ، الذي سطر الله فيه ما كان وما يكون إلى يوم القيامة.

2. وعن الشبهة الثانية

فإن قولهم بان الاكتفاء بالقرآن وحده في جميع الأحكام والتشريعات هو زعم باطل، وفهم سقيم لمعنى الآية الكريمة، كما بين الله في كتابه العزيز، بأن من خصائص النبي عليه الصلاة والسلام، تبيين القرآن وتفصيله كما قال تعالى: ﴿وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلمهم يتفكرون﴾ [النحل: 44].

إذن يكون شرح القرآن وبيانه وتوضيح معانيه هو مما أمر الله به رسوله، ولو كان القرآن يغني عن السنة لكان الأمر ببيانه عاريا عن الحكمة، ولا فائدة من بيان الرسول لأن كل شيء موضح في القرآن كما يزعمون، وقد أخرج الحاكم والخطيب البغدادي، عن الحسن البصري قال: بينما عمر بن حصين يحدث عن سنة  النبي، صلى الله عليه وسلم، إذ قال له رجل: حدثنا بالقرآن ولا تحدثنا بغيره، فقال له عمران: “إنك امرؤ أحمق، أتجد في كتاب الله تعالى صلاة الظهر أربعا لا يجهر فيها، هل تجد صلاة المغرب ثلاث ركعات” وأن صلاة العشاء أربعا قال: لا، قال: أرأيت لو وكلت أنت وأصحابك إلى القرآن أكنت تجد الطواف بالبيت سبعا، والسعي بين الصفا والمروة سبعا؟ ثم قال له: عمن أخذتم ذلك؟ ألستم أخذتموه عنا، وأخذناه عن النبي صلى الله عليه وسلم”[2].

3. وعن الشبهة الثالثة

كما قالوا بأن القرآن لا يحتاج إلى بيان لأنه تبيان لكل شيء، ولكونه جاء مفصلا  وموضحا، لم يترك الباري تعالى فيه شيئا إلا بينه وذكره تاما كاملا، وفصله تفصيلا شاملا، وهذا كله تلبيس وتلفيف، فإن قارئ القرآن ودارسه يعرف جيدا أنه مجمل في أحكامه جاء بالكليات لا بالجزئيات، وكذلك القواعد العامة والأسس العامة العقدية والفكرية والاجتماعية، وترك البيان والتفصيل للرسول الكريم، فتلك مهمته كما أكد القرآن نفسه في أكثر من آية: ﴿وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون﴾ [النحل: 44]، وقوله تعالى: ﴿وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه﴾ [النحل: 64]، وقوله تعالى: ﴿وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم﴾ [إبراهيم: 4].

وكما أوضح الباري جلت قدرته بأن طاعة الرسول واجبة، والعمل بأوامره لازم، لأنه مبين عن الله فروضه، وأوامره ونواهيه، وطاعة الرسول جزء من طاعة الله ﴿من يطع الرسول فقد أطاع الله﴾ [النساء: 80].

ولو كان الأمر كما زعموا لما أمر الله الرسول بتبيين ما نزل إلى الناس، لأن في القرآن غناء عن بيان الرسول، خاصة وأن المراد بالآية المستدل بها في غير موضعها، وأن دلائل التوحيد والإيمان فيه مفصلة واضحة كما قال المفسرون “مفصلا” أي أن الحق والباطل، موضحا فيه الهدى من الضلال، وليس معناه أنه فيه جميع الأحكام، لأنه لو كان كذلك لما احتاج إلى بيان الرسول واجتهاد الأئمة المجتهدين.

4. وعن الشبهة الرابعة 

وهي الاستغناء بالقرآن عن السنة، أي بالقطعي عن الظني لاحتمال عدم الصحة، فهذا جهل بالسنة وبأحكامها، وبمدلولات الألفاظ والمصطلحات، وتحريف لها، لأن العلماء يعنون بقولهم: إن السنة ظنية، أي تثبت بغير طريق التواتر فلا يكفر جاحدها، بخلاف القرآن الكريم لأنه مقطوع بصحته، منقول إلينا بطريق التواتر عن الصحابة، عن الرسول، عن جبريل، عن رب العزة والجلال، خاصة وأن السنة فيها ما هو مروي بطريق التواتر، وما هو مروي بطريق الآحاد، فالعمل بها واجب بنص القرآن، غير أن الفارق بينهما وبين القرآن أن من أنكر بعض الأحاديث لا يكفر بل يصبح فاسقا، بخلاف من أنكر شيئا من القرآن فهو كافر بالإجماع وكذلك إنكار السنة كاملة وعدم الأخذ بشيء منها هو كفر بالإجماع لأنه رفض لكتاب الله  الذي أمر بالرجوع إلى حكم الرسول وطاعته في كل ما أمر به أو نهى عنه، لقوله تعالى: ﴿وما آتاكم الرسول فخذوه، وما نهاكم عنه فانتهوا، واتقوا الله إن الله شديد العقاب﴾ [الحشر: 7].

فيتبين من ذلك تحامل المستشرقين على السنة النبوية، ومحاولتهم بشتى الوسائل والأكاذيب، قلب الحقائق، وبتر النصوص، للوصول إلى التشكيك في السنة النبوية كلها أولا، ثم إلى إنكارها، والحكم ببطلانها، وأنه لا حاجة إليها اكتفاء بالقرآن خلافا لصريح آياته، وتعدد توجيهاته، بالرجوع إلى الرسول من أجل البيان والتوضيح، حتى أصبحت حاجة القرآن (إلى السنة أكثر من حاجة السنة إلى القرآن) لمهمة البيان والإرشاد الذي أسنده الله تعالى إلى رسوله الكريم، ومن هنا تظهر أقاويل المستشرقين وأكاذيبهم وتحاملهم على السنة النبوية “فرية ما فيها مرية”كما قيل،مما يبين بطلان ادعائهم، وكذب افتراءهم كما بينا بإيجاز، وكما سنفصل فيه القول فيما يلي حول موقفهم من الحديث إسنادا ومتنا.

المستشرقون والإسناد

كايتاني وشبنجر 

انطلقت نظرية المستشرقين حول الإسناد من اختلافهم في تاريخ بداية استعماله في الأحاديث النبوية، قال: الأمير كايتاني: أقدم من جمع الأحاديث عروة سنة 94ﮪ وكان لا يستعمل الأسانيد، لذلك كان يعتقد أنه في عهد عبد المالك (80-70ﮪ) أي بعد وفاة الرسول الأكرم بستين عاما لم يكن استعمالها معروفا، إذ يمكن القول بأن استعمالها بدأ بين عروة وابن إسحاق سنة 151ﮪ، ويزيد قائلا: “بأن الجزء الأعظم من الأسانيد الموجودة في كتب السنة قد اختلقها المحدثون في القرنين الثاني والثالث الهجريين.

والعجب في هذا الحكم المتحامل على السنة النبوية، أن كتابات عروة غير موجودة على الإطلاق، اللهم إلا اقتباسات من كتاباته سجلها الإمام أحمد في مسنده[3]، والطبري في تاريخه، وهذا هو مكمن الصعوبة في عدم وجود النص الأصلي حتى نصدر الحكم عليه، ونستخرج منه رأيا صحيحا كما زعم كايتاني، خاصة وأنه لم يبق بين أيدينا سوى نقول قليلة ومتفرقة.

كما يلاحظ أن عروة متقدم جدا على غيره، وأن مصدره الصحيح كان الصحابة المعاصرون للحوادث، وأن إسناده كان عاليا جدا يتكون من شخص واحد حينما يروي عن السيدة عائشة أم المؤمنين كما جاء في المسند[4]، ولذلك كان من السهل حذف ذلك الاسم من الأسانيد لسبب أو آخر.

ومن ناحية ثانية روى كتاب عروة عدة أشخاص، منهم الزهري الذي نجد روايته لكتاب عروة يذكر الإسناد على صورتين: مرة منفردا، وأخرى مزدوجا كما جاء عند الإمام أحمد في المسند[5] وهذا يعارض ما ادعاه كايتاني وشبنجر من أن عروة لم يستعمل الإسناد، فقد رد على كيتاني وشبنجر في زعمهما بأن عروة لم يستعمل الإسناد، مستشرق منصف هوهو روفتش وأفحمهما، مؤكدا أن الذين نفوا استعمال عروة للإسناد لم يدرسوا كتاباته وأسانيده كاملة، لافتا النظر إلى أن هناك فرقا بين أسلوب الكتابة عندما يكتب الباحث ردا على استفسار، وبينه عندما يكتب لزمرة المثقفين، مؤكدا في رده: أن بداية استعمال الأسانيد في الأحاديث يرجع إلى الثلث الأخير من القرن الأول[6].

وكما نجد باحثا آخر وقف موقفا صحيحا نتيجة دراساته العميقة والمحايدة للحديث النبوي، وهو البروفسور “روبسون” الذي أكد بأنه في منتصف القرن الأول يمكن للمرء أن يتوقع شيئا ما يشبه الإسناد، إذ قد مات عدد من الصحابة، والذين لم يروا النبي صلى الله عليه وسلم بدأوا يروون الأحاديث، ومن الطبيعي أن يسألهم أحد السامعين عن مصدر رواياتهم ومعلوماتهم ما لم تكن مباشرة، وأن وجود نظام دقيق للإسناد كان تدريجيا.

وزاد قائلا: إننا نعلم أن ابن إسحاق في النصف الأول من القرن الثاني أعطى أكثر معلوماته بدون إسناد، وأكثر ما بقى منه بدون إسناد كامل، ولا يصح أن نقول إن الإسناد راجع إلى الزهري ولم يكن معلوما في عصر عروة، بينما يمكن أن يقبل أن بعض الأسانيد راجع إلى القدم كما يدعيه بعض الناس[7].

شاخت والإسناد

 كما نجد مستشرقا آخر تفرع للحديث النبوي وخاصة الأحاديث الفقهية، هو “شاخت” حسب زعمه في كتاباته وبحوثه، معلنا رأيه بأن الإسناد جزء اعتباطي في الأحاديث، وأنها نمت وتطورت على يد الأحزاب المختلفة، التي كانت تريد أن تنسب نظرياتها إلى أشخاص مرموقين.

وقد تولى “شاخت”  من جهة أخرى كبر افتراء آخر بخصوص رأي ابن سيرين في الإسناد؛ إذ نقل عن هذا الأخير بأن البحث في الإسناد والسؤال بدأ عنه بعد  الفتنة، بحيث لم يعد ممكنا اعتبار الناس ثقات دون البحث والتدقيق، وسنرى أن الفتنة التي بدأت بمقتل الوليد بن يزيد ت 126ﮪ، على مقربة من الدولة الأموية، العصر الذي كانت فيه سنة النبي، صلى الله عليه وسلم، فيه غالبة، غير أن وفاة ابن سيرين كانت سنة 110ﮪ، مما يجعل نسبة هذا الكلام إليه غير صحيح، والأثر موضوع مما يحتم علينا عدم قبول أن بداية الإسناد تسبق بداية القرن الثاني الهجري كما ذهب إلى ذلك شاخت[8].

ومن الواضح أن خطأه يرجع إلى تفسير كلمة “فتنة” وهو تفسير تابع لهواه، خاصة وأن هناك فتنا كثيرة في التاريخ الإسلامي قبل هذه الفتنة، كفتنة ابن الزبير، وفتنة علي ومعاوية، مما لا يمكن معه تفسير أن الفتنة بدأت بمقتل الوليد، إذ لا مبرر لها مما يتبين معه أن “شاخت” يتناول الحادثة ويفسرها حسب هواه، متجاهلا  الحقائق التاريخية التي تؤكد أن الفتنة المشار إليها في نص ابن سيرين، هي فتنة علي ومعاوية رضي الله عنهما[9].

وقد علق “روبسون” على رأي “شاخت” الذي لم يكن يشاركه فيما ذهب إليه، وإن كان يتفق معه في جزء من أقاويله، فأكد بأن الأسانيد شيء متأخر، لكن المرء يتردد أن يقبل كلام شاخت بكامله، خاصة وأنه بحث في مجال الأحاديث الفقهية، ويمكن أن يكون كلامه أدق في هذا الميدان، لأن تغير الحالات، والتطور في الأفكار القانونية، كانت ولابد تتطلب قواعد جديدة، ثم يضيف معقبا على شاخت بقوله: لكن المرء يتعجب أليست مناقشته جارفة[10].

هذا ومما يلاحظ في هذا المجال أنه كان لسوء اختيار المستشرقين مصادر ونصوص دراسة الأسانيد، أكبر الأثر في وقوعهم في أخطاء جسيمة: نتجت عن سوء ذلك الاختيار في المواد المدروسة، يؤكد ذلك قول “هوروتس” بأنه هناك ثلاثة مصادر لمعرفة أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله، هي: الحديث، والسيرة النبوية، وتفسير القرآن، والجوهري في هذه المصادر هو وجود كلام مصحوب بسلسلة من الشهود، بينما ذهب “لامانس” بأن الحديث والسيرة ليسا مصدرين متميزين كما أكد ذلك “روبسون”، مما يجعل هذا الأخير يميل إلى الأخذ برأي لامانس، بينما يختلف عنهما “هوروفتش” الذي يرسم خطأ فاصلا بين السيرة والحديث، وهو مصيب وحق فيما ذهب إليه، خاصة وأن هناك اختلافا في طبيعة كل من طبيعة الحديث والسيرة، إذ في كتابة الحديث يمكن كتابة حديثين في محل واحد لا صلة بينهما من ناحية الموضوع، ولا يشعر الباحث بارتباك، كما نلاحظ ذلك في مسانيد ابن حنبل والحميدي، وغيرهما، لكن الأمر يختلف في السيرة حيث يتطلب استمرار الحوادث والقصص، لذلك يضطر واضعوها إلى جمع الروايات المتعددة، ومزج بعضها لإخراج حادثة متكاملة، لأن هناك فرقا جوهريا بين طبيعة السيرة والحديث، خاصة وأن كتب السيرة ليست مجالا طبيعيا لدراسة موضوع الإسناد[11].

والملاحظ، أن المستشرقين تعمدوا دراسة الأسانيد في كتب السيرة مما جعلهم يصلون إلى نتائج خاطئة، لاختيارهم مواد غير مناسبة للبحث والتنقيب عما يريدون، ناهيك وأن “شاخت” اعتمد في دراسة الأسانيد على ثلاثة كتب هي أقرب إلى الفقه منها إلى كتب الحديث، وهي الموطأ للإمام مالك، والموطأ للإمام محمد الشيباني، وكتاب الأم للإمام الشافعي.

وإن أكبر خطأ وقع فيه “شاخت” هو تعميمه للنتائج التي خرج بها من دراسته لتلك الكتب وطبقها على كتب الحديث[12] غافلا على أن هناك فرقا بين كتب الفقه وكتب الحديث، خاصة في الكتب الفقهية التي تعود إلى النصف الثاني من القرن الهجري الثاني، وكيفية استعمال أصحابها للأحاديث النبوية وأسانيدها، وتعاملهم معها، بحذف جزء من الإسناد والاكتفاء بأقل قدر من المتن حسب الاستدلال، وتجنبا للتطويل، أو بحذف الإسناد بأكمله تارة أخرى وينقلون من المصدر الأصلي، أو يقطعونه أحيانا كما كان يفعل أبو يوسف إذ يستعمل كلمة السنة ومشتقاتها للدلالة على أفعال النبي صلى الله عليه وسلم بدون ذكر حديث أو إسناد، لأن الحديث كان مشهورا في الأوساط العلمية آنذاك،، مما يتأكد معه أن كلا من كتب السيرة والفقه ليست مصدرا مناسبا لدراسة الأسانيد ونشأتها وتطورها[13].

ذلك أن الحديث النبوي موضوع قائم بذاته، مما يجعل من الخطأ الكبير دراسة الإسناد من الكتب الفقهية وكتب السيرة النبوية حتى لا تكون نتائج البحث عكسية، خاطئة، ومخالفة للواقع كما حدث للمستشرقين في هذا الباب.

ومن هذا المنطلق الخاطئ، وعن هذه النتيجة العكسية صدر “شاخت” في دراسته للأسانيد سواء في بدايتها أو قيمتها العلمية، بأن الأحاديث  بدأت بشكل بدائي، ووصلت إلى كمالها في النصف الثاني من القرن الثالث الهجري، وأن المدلول الدقيق للإسناد هو أن الجزء السفلي منه صحيح، بينما الجزء العلوي الموصل إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، خيالي وزائف، كما يتفق معه في ذلك “روبسون”[14] خلافا لكل ما تعارف عليه الباحثون من المسلمين، مما يدل على عدم اطلاع “شاخت” وقلة خبرته في هذا المجال – وربما غرضه المبيت الظاهر –أنه عمد إلى بعض الأحاديث التي حكم عليها المحدثون بالخطإ والوهم، وجعلها موضوع بحثه ودراسته ليتخلص إلى ما يريد التخلص إليه، والوصول إلى نظريته، واعتمادا على تلك الأحاديث المعلولة ليطعن من خلالها في السنة، وليطبق نتائج بحثه الخاطئ على الأحاديث الصحيحة، مما أبان الزيف والتحامل في رأيه ودراسته.

المستشرقون ونقدهم لمتن الحديث

بعد أن نقد المستشرقون أسانيد الأحاديث النبوية، وطعنوا في أصحابها، وشككوا في مبدأ ظهورها، وتاريخ تطورها، مما أسموه “بالنقد الخارجي”تصدوا للطعن في متون الحديث النبوي بمختلف الأقاويل والأكاذيب وشتى الوسائل، وهو ما أسموه “النقد الداخلي” واصفين منهج المحدثين في الجرح والتعليل بالضعف، واضعين لأنفسهم منهجا جديدا في النقد، لا يتفق مع الحقائق الثابتة، ولا مع ما أجمع المسلمون عليه، تحقيقا لأغراضهم المبيتة، وشكوكهم المفتعلة للطعن في السنة النبوية، ومحاولة القضاء عليها، ولكن هيهات هيهات! وكان أشهر من تولى كبر ذلك البهتان ثلاثة مستشرقين هم: غولدزيهر، وفنسنك، وجوزيف شاخت، وقد بنوا نظريتهم حول متون الحديث على نفس الأسباب التي ذكروها في نقد الأسانيد، بسبب ظهور الفرق، والانتصار لمختلف الدول من أمويين وعباسيين وغيرهم مما شجع على الوضع في الحديث، متناسين ومتغافلين عن قواعد المصطلح التي أبدعها أئمة الحديث للوقوف، في وجه الوضع والدس والكذب، وللتمييز بين الصحيح وغيره مما هو معروف في هذا الباب، وما يضيق المجال عن تفصيله الآن، مكتفين بإيجاز انتقاداتهم على متون الحديث فيما يلي:

1. ومنطلق نقدهم في هذا الباب، أن علماء الحديث قسموه بحسب النقد الخارجي إلى صحيح، وحسن، وضعيف، وشاذ… في حين أن الحقيقة التي نعرفها أن تقسيم الحديث كان حسب النقد الداخلي والخارجي، لا بحسب النقد الخارجي فقط، ويظهر ذلك من شروط الحديث الصحيح المفصلة، ومن تقريرهم بأن العلة كما تكون في السند تكون في المتن، فالعيب في نظرية المستشرقين، وفي نواياهم، وفي عدم إحاطتهم بمنهج المحدثين، وفي اختيارهم لأحاديث معلولة لاستخلاص ما أرادوا من نتائج كانت فاسدة وخاطئة[15].

2. لقد بنى “غولدزيهر” رأيه في نقد متن الحديث على أساس قوله: “إن العوامل الشكلية هي العوامل الحاسمة للحكم على استقامة وأصالة الحديث، وتعتبر الأحاديث حسب شكلها الخارجي فقط، بالإضافة على أن الحكم الذي يمس قيمة مضمونها يتعلق بالقرار الذي يعطونه حول تصحيح سلسلة الرواة”[16].

بينما نلاحظ أن المحدثين احتاطوا من النظرة الشكلية عندما قرروا بأنه لا تلازم بين صحة السند وصحة المتن، كما أنه لا تلازم بين ضعف السند وضعف المتن، مما هو معروف ومشهور في كتب الحديث[17].

3. وبالنسبة للوضع الذي أفرد له المحدثون الكتب، وفصلوا فيه القول دفاعا عن السنة واحتياطا لها، وقرروا بأنه يعرف من النظر في المروي، وأن نقد المتن يؤدي إلى الحكم على الحديث بأشد الأحكام وهو الوضع، خاصة وأن نقد المتن أو ما أسموه النقد الداخلي، كان أول علوم وجودا حين كان الناس على العدالة في عصر الصحابة، خاصة وقد ذكروا وجوها في رد المتن بناء على معناه مع صحة السند.

4. إن نقد الأسانيد الذي عابه المستشرقون وسموه شكليا، واستخفوا باشتراط المحدثين إثبات ثقة الرواة، وكونهم جدرين بالثقة، ليس عملا شكليا كما زعموا، لأن السند مرتبط، بالمتن ارتباطا قويا، ولأن توثيق الراوي لا يثبت بمجرد عدالته وصدقه، بل لابد من اختيار مروياته، بعرضها على الرواة الثقات، فإن وجدنا رواياته موافقة من حيث المعنى لروايتهم أو موافقة لها في الأغلب، والمخالفة نادرة، عرفنا حينئذ كونه ضابطا ثبتا[18] ولنا في دراسات وكتب أئمة الحديث غنى بالأمثلة العديدة لرواية المناكير والأباطيل، وخاصة كتاب “المغني في الضعفاء” للإمام الذهبي.

5. كما أن ظهور الفرق والمذاهب وتبعا لها ظهور الوضع والوضاعين في الحديث، حمل علماء الحديث على تحري أحوال الرواة ودراستها من سائر الوجوه، وخاصة بيئة الراوي ومذهبه، مما حمل نقاد الحديث على أن لا يقبلوا رواية من يدعو لبدعة ولو كان الحديث الذي يرويه لا يتعلق ببدعته، وهو ما يعرف “بخبر المبتدع” حتى ذهب أبو حاتم بن حيان البستي إلى “أن الداعية إلى البدع لا يجوز الاحتجاج  به عند أئمتنا قاطبة لا أعلم بينهم فيه خلافا”[19] كل ذلك وغيره مثل من أخذ على  الحديث أجرا حتى قال جعفر البرمكي: “ما رأينا في القراء مثل عيسى بن يونس عرضت عليه مئة ألف فقال: لا، والله لا يتحدث أهل العلم أني أكلت للسنة ثمنا”[20] لقد كان ذلك منهم تحريا واحتياطا وتثبتا.

وهذا ما دعا علماءنا ومحدثينا إلى أن يتفرغوا إلى حصر الموضوعات في الحديث وفضح الوضاعين، ويؤلفوا فيها المؤلفات، كما فعل الإمام السيوطي في كتابه “اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة” والحافظ الحسن بن عراق في كتابه “تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأحاديث الشنيعة الموضوعة” وغيرها من عشرات  الكتب في الموضوعات، ومصطلح الحديث، وكتب الرجال[21].

6. ونتيجة للمنهج المتهافت للمستشرقين في نقد متون الحديث، والذي يقوم على التسرع في الحكم والمجازفة، بعيدا عن التحقيق والروية، عمدوا إلى انتقاد أحاديث حكم المحدثون عليها بالوضع، وأبانوا مظاهر العلة فيها، وفي روايتها.

وحاولوا دراستها وتطبيق منهجهم عليها، ليتوصلوا إلى غرضهم المبيت بالتشكيك في الحديث سندا ومتنا، وقد عدد هذه الأمثلة التي انتقاها المستشرقون الدكتور مصطفى الأعظمي في كتابه القيم “دراسات في الحديث النبوي” وأوردها، ورد على منتقديها، وبين الخطأ فيما ذهبوا إليه بإنكارهم للأحاديث الصحيحة، مثل حديث “لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد” الذي أنكر صحته “غولد زيهر” معتمدا على أخطاء وأوهام لا يقبلها عقل صحيح، ولا تفكير سليم[22] ومثل حديث (العقيدة والشهادة) (وبني الإسلام على خمس) والطعن المتهافت فيهما من طرف ونسنك[23] وانتقادات “شاخت” على الأحاديث الواردة في كتاب “المنتخب من مغازي موسى بن عقبة”[24].

وقد أظهر الأستاذ فؤاد سزكين الخطل والوهم، وتبديل الحقائق وقصور الفهم، فيما ذهب إليه المستشرقون في انتقاداتهم لمتون الأحاديث النبوية، وخاصة “غولدزيهر” الذي قال في حقه: ونرى لزاما علينا أن ننبه إلى أن غولدزيهر لم يدرس أصول علم الحديث دراسة شاملة،  برغم أنه عرف قسما منها كان مازال مخطوطا في ذلك الوقت، وفق هذا يبدو لنا أنه لم ينظر رغم كثرة مصادره – إلى بعض المعلومات في سياقها وفي ضوء ظروفها، ويبدو لنا كذلك أنه لم يصب في فهم المواضع التي قد تعطي لأول وهلة دلالة تختلف عن معناها الحقيقي اختلافا أساسيا. إن غولدزيهر على تضلعه في اللغة العربية قد أساء فهم بعض المعلومات الواردة في كتب الحديث، وضرب بهذا منذ البداية في اتجاه خاطئ[25] إن أكبر رد على المستشرقين في هذا الباب هي وجود علماء الحديث المسلمين ومنهجهم، الصحيح الدقيق في علم الحديث، وما وضعوه من كتب في أنواع الحديث لمنهجهم، حتى قال عبد الله بن المبارك عندما سئل عن الأحاديث الموضوعة “تعيش لها الجهابذة” “إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون”، وهو ما حمل العالم الأمريكي المعاصر “ب بريقول ” على القول الصادق: “ليفتخر المسلمون بعلم حديثهم”[26]

خاتمة

لا يستطيع باحث منصف أن يزعم أن المستشرقين جميعا، متحاملون على الإسلام، قاموا كلهم بالكيد له ولرسوله الأكرم، وأن جميع أعمالهم كانت ضدا على الإسلام وتراثه، وتاريخه وحضارته، فمن خلال دراسة أعمالهم وبحوثهم وكتبهم يتبين جليا أنهم ينقسمون إلى فئتين:

ـ فئة رصدت نفسها وجهودها لهدم الإسلام والعربية، والتشكيك في قيمه ومبادئه وتشويه حضارته، ومن هذه الفئة غلاة متشددون، متحاملون على الإسلام وأهله، كان في مقدمتهم: غولدزيهر، وشاخت، ومارغليوت وزويمر، ورينان، ومنهم قسم تراوحت أعمالهم وكتاباتهم بين الغلو والتحامل، وبين الاعتدال والبعد عن التطرف أحيانا، كما يظهر من كتابات المستشرقين كراتشكوفسي، وفنسك، ونولدكه، وروسون وسواهم.

ـ وفئة رصدت جهودها وبحوثها لدراسة اللغة العربية وآدابها، والحضارة الإسلامية، وتاريخ المسلمين، وكانوا معتدلين ومنصفين نزهاء فيما كتبوا حول الإسلام ورسوله، والتاريخ الإسلامي وحضارته، وعلوم الإسلام وفنونه، كتوماس كارليل، وكاود إتيان سفاري، وبلاشير، وكولسون، وغوايتاني، وديرمنجم، وتوماس أرنولد[27]. بل إننا نجد من هؤلاء المستشرقين من قام بأعمال علمية جليلة، كالمستشرقين الألمانيين “برحاشترا سروبريستل” اللذين كتبا “مجموعة علوم القرآن” ودونا فيها كل آية في لوح خاص، يحوي متنوع الرسم في مختلف المصاحف، مع بيان قراءتها وتفاسيرها، ثم نشرا وحققا مجموعة من كتب الأمهات لأشهر علماء الإسلام، مع ترجمة أجزاء منها إلى الألمانية.

ـ وأنشأ “برحشتراسر” متحفا للقرآن في “جامعة ميونخ” أتمه من بعده يريستل، يضم:

الصور الشمسية لسائر مخطوطاته في أرجاء العالم.

آلاف من المخطوطات باليد من جميع الصور.

المطبوعات الحاملة لتفسبره وعلومه من عصر الصحابة إلى اليوم[28].

ومن الأعمال الجليلة للمستشرقين، ما قام به المستشرق الهولندي “ونسنك”[29] الذي عني عناية فائقة بالحديث النبوي، وكان من أعماله في هذا المجال:

فهرس ذيل الحديث (1918-1916)

قيمة الحديث في الدراسات الإسلامية (1921)

مفتاح كنوز السنة (1927)

– المعجم الفهرس لألفاظ الحديث، عن الكتب الستة، ومسند الدرامي، وموطأ مالك، ومسند (ابن حنبل)[30] ويعتبر هذا المعجم الفريد وحده مفخرة للدراسات الحديثية الذي لا غنى عنه للباحثين والدارسين في مجال السنة النبوية.

بالإضافة إلى عدد لا يستهان به من المستشرقين الذين تعمقوا في دراسة الإسلام، وأسلموا وكتبوا عن ديننا الإسلامي، منهم محمد أسد “ليوبولدفاس”، وعبد الرشيد الأنصاري، ولزلي وناصر الدين “دينييه”.

ومريم جميلة “مارجريت ماركوس”وغيرهم من المستشرقين الذين تميزت أعمالهم وجهودهم بالصدق والأمانة، ولم يجنحوا إلى التعامي والتجاهل عن الحقائق، وكانوا على درجة عالية من التخصص الدقيق.

ونحمد الله على أن الاستشراق سواء بمفهومه العلمي الجاد، أو بأبعاده ومراميه، لم يعد له في وقتنا الوزن الثقيل والعناية الكبرى التي كان يقابل بها، لزوال أسبابه سواء منها السياسية أو الفكرية، وذلك لتخلص البلاد العربية والإسلامية من الاستعمار الذي كان يحتضن الاستشراق ويؤيده ويغذيه، ولظهور طبقة من العلماء والمفكرين العرب والمسلمين، أغرت شبابنا وجامعاتنا بما يقدمونه من بحوث ودراسات أثرت مجالنا الثقافي والفكري، وحولت اهتمام وأنظار شبابنا عن جهود المستشرقين وبحوثهم الملغومة، مما دفع جريدة “لوموند” في أحد أعدادها لسنة 1973 للقول الصريح: “لقد مات الاستشراق”[31] لفقده تأثيره وفاعليته بسبب انحسار الجهود العلمية الاستشراقية في دوائر محدودة لم يعد لها تأثير على الإطلاق نتيجة لمواقف علمائنا ومفكرينا إزاء المستشرقين وآرائهم، بالتصدي لها، وتفنيدها والرد عليها، وتصويبها، أمثال الأستاذ عباس محمود العقاد، والدكتور محمد البهى، والدكتور مصطفى السباعي ومصطفى الأعظمي وغيرهم.

اقتراحات وتوصيات

إذا كان الدور الخطير والفاعل للاستشراق قد انحسر تماما عن بلادنا بزوال الاستعمار وذهابه، وانتشار الوعي الإسلامي لدى شبابنا الذي يسعى لاسترجاع هويته الثقافية والفكرية والروحية، فإن رواسبه ما زالت باقية في المؤسسات التبشيرية المختلفة، من جامعات ومؤسسات، ومعاهد، تتخذ لها أسماء مستعارة، وتختفي وراء مسمياتها لتمارس أنشطتها، محاولة التسلل من جديد إلى عقول وأفكار شبابنا والتأثير عليهم، بأساليب متعددة غدت معروفة لدى الجميع، مما يحتم على المجتمع المدني بعلمائه، ومفكريه، وقادته، وموجهيه، الحذر من أنشطة هذه المؤسسات وتقليص أدوارها، وإيجاد البديل لها من مجتمعاتنا، حتى نتخلص من هذا الغزو الفكري والثقافي الذي يهدد قيمنا وعقيدتنا وتراثنا جمعاء.

وإنني لأدعو من هذا المنبر الكريم إلى أنه آن الأوان أن نتوقف عن إضاعة أوقاتنا وجهودنا، سواء في مؤتمراتنا أو جامعاتنا وكتبنا، في الرد على المستشرقين وتفنيد مفترياتهم وأكاذيبهم عن الإسلام، ورسول الإسلام، وتراث الإسلام وتاريخه وحضارته، فإننا بهذه الوسيلة نساهم في إشاعة أباطيلهم وترسيخها في العقول خاصة بالنسبة لخريجي الجامعات الأجنبية ممن لم تتح لهم ظروفهم معرفة لغتهم ودينهم وتراثهم، وتشبعوا بما درسوا وما قرأوه خارج أوطانهم، مما لا يتصل بالإسلام وتاريخه وعقيدته، وخير لنا أن نكل أمر تفنيد آراء المستشرقين وأباطيلهم لمنظماتنا الإسلامية، فهي أفضل من يقوم بهذه المسؤولية.

وخير لنا أن نأتي البيوت من أبوابها فنهتم بالتعليم الإسلامي، ونجعل من التربية الدينية مادة أساسية في كل مراحل التعليم، يستوي في ذلك الكليات النظرية والعلمية، فهذا هو الأساس الصحيح لكل إصلاح للتعليم في بلادنا.

إعادة الاعتبار لمؤسساتنا الدينية الكبرى، وإيلاؤها ما تستحقه من العناية والتقدير، لتعود إليها مكانتها الأساسية في قيادة المجتمع كما هو تاريخها، كجامعة القرويين، والزيتونة ورابطة العالم الإسلامي، ومنظمة العالم الإسلامي وغيرها، مثل روابط العلماء ومؤسساتهم، وجمعياتهم، لتسد الفراغ الروحي والفكري الذي أحدثه انحسار دور هذه المؤسسات بفعل الاستعمار والتخلف والتسلط.

إنشاء أكاديمية الدعوة الإسلامية العالمية، لتخريج الدعاة الأكفاء، والخطباء المقتدرين، لتوجيه الحياة الروحية والفكرية التي فقدت هاته النماذج الضرورية، لاستقرار مجتمعنا، وانتظامها، واستقامة سلوكها وسيرتها، وللقيام بدورها الضروري إزاء الجاليات الإسلامية في مختلف بلاد العالم إنقاذا لهويتها وثقافتها وتربيتها.

أسلمة مناهج التعليم، وإصلاح مناهجه، حتى نتيح لطلباتنا وأبنائنا دراسة مناهج الإسلام الصحيحة في مختلف العلوم، عوض مناهج المستشرقين المدسوسة، وإضاعة الوقت في تقويمها والرد عليها، والتي استطاعت إنشاء جيل مدجن يعتبر بوقا وصدى لما تلقاه من تحريف وتضليل.

دعم الأكاديميات العلمية في بلادنا بالمال والأطر المتخصصة، لكونها الكفيلة بتعقيب ما يكتب عن حضارتنا وتراثنا وثقافتنا، والرد عليها وتصويبها، وخاصة ما يكتبه المستشرقون عن الإسلام ورواده وعلومه، وبالأخص ترجمات القرآن الصادرة بمختلف اللغات عن المستشرقين، وإصدار موسوعات متخصصة تسد الفراغ، وتكون مراجع ومصادر للباحثين والدارسين في شتى المجالات.

الهوامش


1. مختصر تفسير الطبري، 1/228.

2. الفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي، 1/77.

والمستدرك للحاكم، 1/109.

3. المسند 4/323-326-331.

4. المصدر السابق 4/212

5. المصدر السابق 4/323-226، تاريخ الطبري: 1/1529-1534-1549.

6. دراسات في الحديث النبوي 2/393.

7. انظر المرجع السابق نفسه 2/394.

8. أصول الشريعة المحمدية “شاخت” 37-36.

9. دراسات في الحديث النبوي الشريف للدكتور مصطفى الأعظمي 2/394.

10. روبسون 20OPQIT نقلا عن المصدر السابق 2/394.

11. ابن إسحاق واستعماله للإسناد – روبس، ص451، نقلا عن دراسات في الحديث النبوي 2/397-398.

12. دراسات في الحديث النبوي 2/405.

13. المصدر السابق 2/404.

14. أصول الشريعة المحمدية “شاخت” 4/163.

دراسات في الحديث النبوي، 2/416.

15. منهج النقد في علوم الحديث، للدكتور نور الدين عتر، ص467-468.

16. دراسات في الحديث النبوي

17. انظر علوم الحديث، ص35-92.

18. مقدمة صحيح مسلم، ص5 علوم الحديث ص95.

19. علوم الحديث، ص103-104.

19. فتح المغيث، ص149-153.

20. انظر على سبيل المثال الكتاب القيم “مشكل الحديث وبيانه” للإمام أبي بكر بن فوركلت 406ﮪ

21. دراسات في الحديث النبوي، 2/456-460.

22. المرجع السابق، 2/460-461.

23. المرجع السابق، 2/461-464.

24. تاريخ التراث العربي 1/226.

25. إبداع الإنسانية، بريقول.

* منهج الإمام البخاري في علم الحديث، للدكتور يوسف الكتاني، ص20.

26. المستشرقون، نجيب العقيقي، 3/542-551.

27. المصدر السابق، 3/535.

28. آثار التبشير والاستشراق على الشباب المسلم، دكتور جابر قميحة، ص18.

29. المصدر السابق، ص18-19.

30. الفكر العربي في معركة النهضة، للدكتور أنور عبد الملك، ص120.

Science

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق