مركز الدراسات القرآنيةشذور

تأملات قرآنية (3)

يقول الله تعالى: ﴿ وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ (سورة الأنعام/17).

الحمد لله الذي بقدرته تدفع الكروب، وتنقشع الخطوب، والصلاة والسلام على من كان قدوة للمهتدين، ونموذجا للصابرين. أما بعد؛

فلنا وقفة تأملية جديدة مع آية عظيمة، هي عزاء لكل مكلوم، ولكل مهموم، ولكل مريض. آية تدعو إلى ترسيخ التوحيد في النفوس، من خلال ربط العبد بخالقه، وهو وحده القادر على جلب النفع، ودفع الضر؛ ونظيرتها في سورة يونس: ﴿ وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ ﴾(يونس/107).

فكما هو معلوم أن من مقتضيات حكمته وقضائه وقدره أن يتقلب العباد في أطوار الابتلاء، وهذه سنة من سنن الله في العباد، قال الله تعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ﴾(الملك/2) فحتى ولو كان هذا الابتلاء بفعل فاعل، فمقادير الله كائنة نافذة لا محالة، فكل شيء يجري بتقديره ومشيئته جل جلاله، فما شاء الله كان، وما لم يشئ لم يكن، وكل هذا مسجل في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى: ﴿ مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ﴾(الحديد/22) ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: « إن أول ما خلق الله القلم، ثم قال: اكتب فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة»([1]).

قال القاضي أبو محمد بن عطية (ت542هـ): «يَمْسَسْكَ معناه يصبك وينلك، وحقيقة المس هي بتلافي جسمين فكأن الإنسان والضر يتماسان، و «الضّر» بضم الضاد سوء الحال في الجسم وغيره، «والضّر» بفتح الضاد ضد النفع، وناب الضر في هذه الآية مناب الشر وإن كان الشر أعم منه فقابل الخير، وهذا من الفصاحة عدول عن قانون التكلف والصنعة فإن باب التكلف وترصيع الكلام أن يكون الشيء مقترنا بالذي يختص به بنوع من أنواع الاختصاص موافقة أو مضادة، فمن ذلك قوله تعالى: ﴿إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى﴾ [طه/ 118] فجعل الجوع مع العري وبابه أن يكون مع الظمأ… ومعنى الآية الإخبار عن أن الأشياء كلها بيد الله إن ضر فلا كاشف لضره غيره وإن أصاب بخير فكذلك أيضا لا راد له ولا مانع منه، هذا تقرير الكلام، ولكن وضع بدل هذا المقدر لفظا أعم منه يستوعبه وغيره، وهو قوله: ﴿عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ ودل ظاهر الكلام على المقدر فيه»([2]).

الدروس المستفادة من هذه الآية العظيمة

 في الآية معاني كثيرة وفوائد تربوية فلا يتسع المقام لعرضها كلها([3]):

ـ يستفاد من هذه الآية الكريمة أنه على الإنسان أن يعلق رجاءه بالله عز وجل.

ـ وكذلك الآية برهان على كمال وحدانية الله تعالى، لانفراده سبحانه بالضر والخير.

ـ مقصد هذه الآية أن الحول والقوة لله، ويبين ذلك للناس بما يحسونه من أنفسهم، و «الضر» لفظ جامع لكل ما يكرهه الإنسان، يقع على ثلاثة أحوال: إما ضر في النفس، وإما ضرّ في البدن، وإما ضرّ في الحال منها لمرض والعلل والأوباء، وضر في الحال، كلها ابتلاءات.

ـ الضر نكرة في سياق الشرط تفيد العموم أي شر كان لا يمكن أن يرده أحد أو يكشفه إلا الله، من ذلك ما جاء في حديث ابن عباس: «واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف»([4]).

ـ والخير اسم للقدر المشترك بين دفع الضر وبين حصول النفع.

ـ كما تفرّد بإبداع الضرّ واختراعه فلا شريك يعضّده… كذلك توحّد بكشف الضرّ وصرفه فلا نصير ينجده.

ـ فمهما نزل بالمؤمن الضراء والبلاء فلا مخفف له إلا من بيده الدواء والشفاء جل شأنه: ﴿ وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾، ويقول النبي صلى : «لا يرد القضاء إلا الدعاء»([5])، فالله الذي قدر وهو الذي يمنع نزول القضاء بفضل الدعاء. فلو اجتمع أهل السماء والأرض على أن يضروك لن يفعلو.

ـ فمهما اشتدت الأزمة، وعظم البلاء، وزاد الألم فيقين المؤمن جازم أن الله سيكشفه، كيف لا وهو كاشف الكروب وقاضي الحاجات، ومفرج البليات سبحانك سبحانك ما أعظمك، وقال جل جلاله: ﴿أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ﴾(النمل/26)، فلو طال الأمد وامتد الوثاق فإن الفرج قادم، فكم من شدة تعذر زوالها فيأتي الفرج من الله ﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾(الشرح/5-6). كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: «واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسراً»([6]). ولن يغلب عسرٌ يسرين، كما قال العلماء.

فسبحانك ربنا عليك توكلنا اللهم ارفع البلاء عن كل الناس، ياربنا اكشف البلاء، وارحم عباد لك تقرحت أكبادهم واشدت آلامهم، وضجت بالنحيب أصواتهم، ينادونك يسألونك يرجونك، يا رحمان يا رحيم يا كريم اكشف الكرب، واشفي الصدور، واجبر المكسور، وارحم المسستضعف، يا سميع يا ودود يا غفور، يا من تحل به عقد المكاره، ويفل حد الشدائد، ويا من يلتمس به المخرج، ويطْلب منه روح الفرج، أنت المدعُو في المهمّات، والمفزع في الملمات، لا يندفع منها إلا ما دفعت، ولا ينكشف منها إلا ما كشفت، قد نزل بنا ما قد علمت.

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

أخرجه الإمام أحمد في المسند (37/378). مسند الإمام أحمد بن حنبل، أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل، تحقيق، أحمد محمد شاكر

نشر: دار الحديث – القاهرة(ط.1/1416هـ).

([2]) المحرر الوجيز (2/374). المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، أبو محمد عبد الحق بن عطية الأندلسي، تحقيق : عبد السلام عبد الشافي محمد، نشر دار الكتب العلمية – بيروت(ط.1/1422هـ).

([3]) لخصتها وجمعتها من أقوال المفسرين، واستننباطات العلماء.

([4]) أخرجه الإمام أحمد في المسند (4/410).

([5]) أخرجه الترمدي في أبواب القدر، باب ما جاء لا يرد القدر إلا الدعاء (4/448). سنن الترمذي، أبوعيسى الترمذي، تحقيق أحمد شاكر، ومحمد عبد الباقي، نشر: شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي – مصر (ط.2/1395هـ).

([6]) أخرجه الإمام أحمد في المسند (5/19).

د. الحسن الوزاني

باحث بمركز الدراسات القرآنية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق