مركز الدراسات القرآنيةشذور

تأملات قرآنية في قوله تعالى: ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾

يقول الحق جل جلاله في محكم تنزيله: ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ سورة التغابن الآية11.
الحمد لله الذي بقدرته تدفع الكروب، وتنقشع الخطوب، والصلاة والسلام على من كان قدوة للمهتدين، ونموذجا للصابرين. أما بعد؛
فمع آية عظيمة وفي ظلال آية متفردة وهي قوله عز وجل: ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ هي عزاء لكل مكلوم، ولكل مهموم، ولكل مريض… آية تدعو إلى ترسيخ التوحيد في النفوس، من خلال ربط العبد بخالقه، وهو وحده القادر على جلب النفع، ودفع الضر؛ وهي جزء من المعتقد، جزء من معتقد الأمة الإسلامية فهي تقرر حقيقة كونية ونظيرتها في سورة يونس: ﴿مَا أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾ (الحديد/22).
فكما هو معلوم أن من مقتضيات حكمته وقضائه وقدره أن يتقلب العباد في أطوار الابتلاء، وهذه سنة من سنن الله في العباد، والآية الكريمة تنص على أن كل مصيبة تمر بالعبد إنّما هي بإذن الله، والذي يؤمن ويصدق أن الله سبحانه لا يفعل ذلك إلا بحكمة بالغة ارتاح قلبه ورضي بقضاء الله وقدره.
يقول الشيخ أبو العباس أحمد بن محمد بن المهدي بن عجيبة الحسني الفاسي (ت 1224هـ) في تفسيره لهذه الآية الجليلة كلام مباركا: « يقول الحق جلّ جلاله: ﴿ما أصاب من مُصيبةٍ﴾ دنيوية أو أخروية ﴿إِلاّ بإذن الله﴾ أي: بتقديره وإرادته، كأنها بذاتها متوجهة إلى الإنسان، متوقفة على إذنه تعالى، ﴿ومَن يُؤمن بالله﴾ أي: يُصدِّق بأنّ المقادير كلها بيد الله ﴿يَهْدِ قلبه﴾ للرضا والتسليم، أو الاسترجاع، فيقول: إنَّا لله وإنّا إليه راجعون، أو: يَهْدِ قلبه حتى يعلم أنّ ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليُصيبه، وعن مجاهد: إن ابتلي صبر، وإن أعطي شكر، وإن ظُلم غفر. ونقل ابن عطية عن المفسرين: أنّ المراد: مَن اعترف بالقدر هانت عليه المصيبة، وسلَّم لأمر الله تعالى. ﴿واللهُ بكل شيءٍ عليمٌ﴾ فيعلم ما في القلوب من برد الرضا أو حرارة التدبير». البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (7/60).
ومما يستفاد من هذه الآية الكريمة:
• ـ أنّ هذه الآية عظيمة جدا بحيث تقرر مبدأ وتقرر حقيقة عظمى يعيش عليها الإنسان المسلم ويكتسب بها كثيرا من أسباب القوة والطمأنية، والانتصار على عوائق الحياة وعوارضها؛ ويخبر فيها الحق جل جلاله أن كل ما في هذا الكون يجري بتقدير الله ومشيئته، وكل شيء مكتوب ومقدر وهذا من الإيمان بعلم الله وبالقدر خيره وشره.
• فمهما نزل بالمؤمن الضراء والبلاء فلا مخفف له إلا من بيده الدواء والشفاء جل شأنه: ﴿وَإِنْ يَمْسَسْكَ الله بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾، ويقول النبي صلى : «لا يرد القضاء إلا الدعاء»[1]، فالله الذي قدر وهو الذي يمنع نزول القضاء بفضل الدعاء. فلو اجتمع أهل السماء والأرض على أن يضروك لن يفعلو.
• ـ أن هذه الآية صريحة في أن ما أصاب الإنسان في هذه الدنيا من خير وشر فبإذن الله، وكان التنصيص بالمصائب لأن الجبلة تأبها وتتواقها ومع ذلك وليس في مقدوره دفعها بخلاف الخير قد يدعي الإنسان أنه من اجتهاده وعلمه.
• ـ هذه الآية تقرر أن ما يقع في الكون الآن من وقائع وأحداث سارة أو أخرى محزنة كهذا الوباء إنما هو تنفيذات وتجليات لأشياء كتبت، لا يمكن أن يكون خلاف ذلك هو الواقع.
يقول ابن ناصر الدين الدمشقي (ت842هـ) [2]:

سبحان من يبتلي أناسًا    **     أحبَّهم والبلاءُ عطاءُ
فاصبرْ لبلْوى وكن راضيًا   **      فإن هذا هو الدواءُ
سلِّمْ إلى الله ما قضاه      **       ويفعل الله ما يشاء

فاللهم إنا نسألك أن تجعلنا ممن إذا ابتلي صبر، وإذا أنعمت عليه شكر، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه آمين. والحمد لله رب العالمين.

الهوامش:

[ 1] أخرجه الترمدي في أبواب القدر، باب ما جاء لا يرد القدر إلا الدعاء (4/448). سنن الترمذي، أبو عيسى الترمذي، تحقيق أحمد شاكر، ومحمد عبد الباقي، نشر: شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي – مصر (ط.2/1395هـ).
[2] انظر برد الأكباد عند فقد الأولاد، للحافظ أبي عبد الله محمد بن عبد الله بن محمد المعروف بابن ناصر الدين (ص12).

Science

د. الحسن الوزاني

باحث بمركز الدراسات القرآنية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق