وحدة الإحياءدراسات محكمة

بنية النظام المعرفي الإسلامي.. الغزالية نسقا

وصف الفيلسوف المغربي الراحل محمد عزيز الحبابي أبا حامد الغزالي وصفا علميا دقيقا بإبداعه مصطلح "الغزاليّة نسقا"[1]، وهو المصطلح أو الوصف المركب الذي اخترت الاستناد إليه في هذه الدّراسة، لكونه يعبّر على وجه الحقيقة عن هذه الحالة العلمية التاريخية التي تتواصل راهنيتها في تقديم نموذج نسقي داخل النظام المعرفي الإسلامي. ولذلك يستحق الأمر الانطلاق من هذا الوصف المفتاحي الذي قدّمه الحبابي لتحليل هذه النسقية، وفسح المجال للنصوص حتى تتحدث وتتناغم فيما بينها، ولكن قبل ذلك هنالك حاجة إلى الوقوف عند مفهوم ودلالة النسقية في عدد من الحقول المعرفية المختلفة لكونها تساعد على إيضاح المبتغى.

في تحليل عناصر مفهوم النسقية في الفكر يتضح التمازج بين المعاني اللغوية والمضمون الدّال على طبيعة الانتظام في سلك واحد متقارب، سواء في القضايا الحسية أو القضايا المفاهيمية، مع ما يفرضه ذلك من التركيب وخدمة القضايا بعضها بعضا. ففي "المصباح المنير" نجد نسَقْت الدرّ "نَسْقًا": نظمته، و"نَسَقْتُ" الكلام "نَسْقًا": عطفت بعضه على بعض، وكلام "نَسَقٌ" أي على نظام واحد استعارة من الدرّ"[2].

وفي تاج العروس عن ابن دريد: النّسْقُ: نسْقُ الشّيء بعضُه في إثر بعض. وقال الجوهري: النّسق، مُحرّكة: ما جاء من الكلام على نظام واحد. وقال اللّيث: النسَق من كل شيء: ما كان على طريقة نظام واحد، عامّ في الأشياء كلها"[3]. ومثل ذلك في المعجم الوسيط، " النسق" ما كان على نظام واحد من كلّ شيء[4].

وهنالك عدة مستويات لتحليل وبيان مفهوم النسقية بين الفلسفة وعلم الاجتماع، حيث "تعددت دلالاته بتعدد سياقات استعماله في مختلف المجالات المعرفية، كالفلسفة والعلوم الإنسانية والعلوم الطبيعية والرياضيات، إذ يدل اصطلاحه اللغوي في اللغتين العربية واللاتينية على النظام، غير أنه يدل بشكل أخص في المعجم الفلسفي على المذهب الذي تنتظم فيه مجموع نظريات فيلسوف أو مفكر ما، إذ تجيب كل نظرية عن مشكلة فلسفية معينة، بناء على عدد مترابط من الحجج"[5].

و"لما كان النسق هو النظام الفكري الذي يجمع إجابات الفيلسوف أو المفكر عن الإشكالات والقضايا المعرفية والوجودية، فإنه ينبثق بالضرورة من الرؤية الكلية التي تنسج تصوراته عن الله والإنسان والكون والحياة. والنسق الفكري هو الإناء الذي يحوي الرؤية الكلية، ومنهجية التفكير هي أدوات لتفعيل هذه الرؤية"[6].

يستمد النسق قوته من الناحية الفلسفية من حججه البرهانية، وطرائقه الإقناعية، ومنهجه المنطقي الذي يسلكه العقل الفلسفي، بخلاف المذهب الذي يستمد قوته من أفكاره الوثوقية. يخضع النسق للنقد والتأويل والقراءات المتعددة والمتباينة. وتتصف المفاهيم والمصطلحات التي يتكون منها بقابلية التأويل وإعادة إنتاجها في قراءات متباينة في مراحل زمنية مختلفة[7]. ولأن "النسق الفلسفي موقف فكري أو رؤية خاصة للعالم"[8]. فإنه يصعب في مجال العلوم الاجتماعية الفصل بين البنية والوظيفة والنسق؛ فالبنيوية تستدعي الوظيفة وهذه الأخيرة لا تدرك إلا من خلال بنية تشتغل فيها وعليها، ونفس الأمر بالنسبة للنسق أو المنظومة Système)) فهو يحتوي البنية والوظيفة.

علما أن مفاهيم البنية والوظيفة والنسق تشكل عناصر رئيسة لمنهج تحليلي واحد هو التحليل البنيوي الوظيفي في نسختيه القديمة والحديثة النسقية. فالنسق ما هو إلا تلك الوظائف والتفاعلات التي تحدث داخل بنية ما"[9]. ولذلك فإن "الفكرة المركزية في النسقية تتمثل في بناء نموذج من التفكير يتسم بالشمولية، وقادر على دراسة التفاعلات الدينامية وليس السببية، وإدراك الأنساق ليس باعتبارها مجموعات ساكنة، بل مجموعات متحوّلة"[10]. وتفسير ذلك أن الأنساق تخضع إلى علمية التطور والتغيّر والقطائع الإبستيمولوجية والثورات العلمية المفاجئة، ويعني هذا أن الثقافة، بصفة عامة، تتغيّر بتغيّر النماذج والأنساق المعرفية والعلمية"[11].

النسقية مرتكز للنظام المعرفي الإسلامي

يتشكّل النظام المعرفي الإسلامي من ثلاثة أنساق مترابطة؛ وهي النسق العقدي، والنسق المعرفي الإبستيمولوجي، والنسق القيمي. حيث يرتبط نسق التوحيد مع كل من النسق القيمي والنسق المعرفي، ولكل منها خصائصه المميزة له. وقد كان النسق الغزالي مساهما كبيرا في عملية الحفاظ على النظام المعرفي الإسلامي التوحيدي الذي يستند إلى فكرة النموذج، خاصة عندما تعرّض للتحديات الفلسفية المتعلقة بمباحث الله والكون، حيث أعاد النسق الغزالي الله إلى عمق ومحور هذا النظام، بعد كل الإشكالات التي كانت الفلسفة قد أثارتها حول طبيعة الخالق والقدرة والعلم والخلق، وغير ذلك من المباحث التي كانت ستؤول إلى استبعاد الله من محور الفعل الكوني تدريجيا..

وهو ما منح قاعدة فلسفية متينة للبناء الأشعري، خاصة ما يتعلق بالرؤية الأشعرية للفعل الإلهي وحدوده. ذلك أن الغزالي مفكر نسقي اجتمعت فيه صفات النسقية، فمن" سمات الكتابة النسقية استخدام العقل والمنطق والبرهان والاستنتاج وتفنيد الدعاوى المخالفة، وتمثّل القياس، فالكتابة النسقية كتابة منطقية حجاجية وجدالية وحوارية"[12].

وإذا أخذنا بنظرية الأنساق المتعددة التي تؤمن بوجود أنساق فرعية متباينة ومتفاعلة بأسلوب ديناميكي فيما بينها داخل نسق عام، أمكننا القول إن النسقية الغزالية نسقية عامة. فهنالك نسق التصوف الفرعي، ونسق التفلسف الفرعي، والنسق الفقهي والأصولي والكلامي الفرعي. وإذا كانت نظرية الأنساق المتعددة تهدف إلى وصف الأنساق الثقافية والأدبية والمعرفية في تطورها وصراعها بهدف تبيان الكيفية التي تشتغل بها"[13]، أمكننا تفسير وجود درجات من التنافس والتصارع بين مختلف مستويات النسقية الغزالية العامة؛ فهنالك نصوص ومقولات مركزية ومعيارية داخل النسق الغزالي، ومقولات أخرى فرعية، وكلّما اقتربنا من النصوص المعيارية استطعنا ملامسة الإبداع الغزالي واستمراريته.

ويتيح النسق باعتباره أداة للتحليل فهم طبيعة الثقافة الإسلامية في مرحلة من المراحل. كما تتيح النسقية التعامل مع التراث الإسلامي باعتباره وحدة متكاملة، بعيدا عن منطق الصراع بين القديم والجديد، وباعتباره تاريخا من الإنتاج الإنساني حول مرتكز الوحي، بكل ما رافق الإنتاج الإسلامي من تاريخ ووقائع وخبرات متتالية، بما يجعل الاجتهاد العلمي القديم والحاضر مستويان من خلال تراجع البعد الزمني كأداة وحيدة للتقييم، فالكل ينتمي إلى نسق معرفي متراكم، حتى إن غاب الانسجام الكامل بين الأفكار والعناصر.

وإذا أردنا إيجاد مقاربة لمفهوم النسقية في المجال الإسلامي فإنها ليست مرادفا للاجتهاد المطلق أو الدعوة له، لكنها مطلب لتكامل العلوم في مجال المعرفة. ذلك أن المنهج النسقي أصيل في الفكر الإسلامي إذا اعتبرنا أن النسق هو كل بناء فكري متنظم ومتكامل، أو رؤية شمولية تربط بين دوائر المعرفة المختلفة، ومن هذا المنطلق يمكن تعريف العالم النسقي بأنه الفقيه أو الأصولي أو المتكلم أو المحدّث أو المفكّر أو الفيلسوف الذي يقدم منتجا علميا تترابط عناصره ومخرجاته بما يستقي من مصدري المعرفة والتجربة.

مكونات النسق..

يتم تقديم الغزالي في كثير من المراجع والمحافل العلمية خصما للفلسفة أو صوفيا صاحب تجربة ذوقية فردية، اختلفوا في تقييم نتائجها ومدى إسهامها المعرفي، وكل ذلك بعيدا عن النظر إليه باعتباره يمثل نسقا علميا ساهم بلاشك في إعادة تموضع عدد من العلوم، وترتيب أولويات المعرفة الإسلامية. وهو مازال يمثل أكبر الفائدة المنهجية للفكر الإسلامي المعاصر، نسقية عكسها إنتاج أبي حامد في تاريخ المعرفة.

 وقد نقل الفيلسوف الراحل المحقق سليمان دنيا وصفا دقيقا للشيخ المراغي عن الغزالي، فإذا "ذكر ابن سينا والفارابي خطر بالبال فيلسوفان، وإذا ذكر ابن عربي خطر بالبال رجل صوفي له آراؤه، وإذا ذكر البخاري ومسلم وأحمد خطر بالبال رجال لهم أقدارهم في الحفظ والصدق ومعرفة الرجال، أما إذا ذكر الغزالي فقد تشعبت النواحي، ولم يخطر بالبال رجل واحد بل رجال متعدّدون لكل واحد قدره وقيمته"[14]؛

 فهو "فقيه أصولي بارع عندما تقرأ له الفقه والأصول، ومتكلم عندما تقرأ الاقتصاد في الاعتقاد وقواعد العقائد، وفيلسوف متحرر عندما تطالع له مقاصد الفلاسفة والتهافت، وصوفي كبير عالج التصوف بالقرآن والسنة في كتابه المنقذ من الضلال، وإمام مجدّد عندما تقرأ له كتابه الضخم إحياء علوم الدين"[15].

إن الحقيقة التي كان يسعى الغزالي خلفها سواءً أكانت دينية أم علمية، لم تكن لتقبل أن تكون حقيقة مهتزة أو شديدة الاحتمالية، خاصة أن الحقائق التي كانت تنشدها وتتبناها وتروّج لها فرق وطوائف ومجاميع تلك المرحلة الفكرية والعقدية كان يتم إلباسها بلبوس اليقين والمطلق، كما هو الحال مع الإسماعيلية والباطنية، التحدي الأكبر حينها للنسقية الغزالية. لقد وفّرت وأتاحت الغزالية في تلك الظروف لمذهب أهل السنة فكرا وفقها وكلاما وفلسفة، الأدوات والوسائل للتمدّد ومواجهة التحدي الكبير الذي مثله انتشار الإسماعيلية والباطنية، وخطرهما على طبيعة المعرفة الإسلامية. فقد تأقلم الغزالي مع زمنه منطلقا من المدارس النظامية التي أسسها الوزير السلجوقي نظام الملك في العراق وخراسان، وانتشرت في نيسابور وبلخ وأصبهان، وطبرستان، للحفاظ على المعرفة الإسلامية السنية التي تمثل عمق الفهم الصحيح للإسلام. فالنسقية الغزالية مثلت نقطة تحوّل هامّة في طبيعة المذهب السني ومساره ووجوده في ظل الصراع الفكري والسياسي الذي اجتاح العالم الإسلامي آنذاك.

لقد شكلت الغزالية نسقا معرفيا متكاملا انعكس في نواحي الإنتاج المعرفي لدى أبي حامد، حيث يلفي الدارس نفسه إزاء نسق غني ذو طبيعة تراكمية. ويبدو أن هذه النسقية كانت وراء تعدد منتقديه من فقهاء وأصوليين ومحدّثين وفلاسفة، وسياسيين سعوا في إحراق كتبه. وبالنسبة لبعض الباحثين في فكر الغزالي فإن" المشكل الأعوص أن جميع الاتجاهات مستمرة متساوقة في كل أطوار حياته، فلا يفيد التقسيم الزمني أو الحقبي لتحرّي تطوّر آرائه، وأنها محصورة في هذا الكتاب أو ذاك. والغزالي يتكلم في الأوقات كلّها بجميع الألسن ولكل المريدين والطالبين والمحجوبين على حدّ مصطلحاته"[16]؛ فهو "يؤلف لثلاث فئات؛ العامة، والنخب على اختلافها، ثم لنفسه ومن في طبقته"[17].

لقد جاء هذا النسق المعرفي متمحورا حول البحث عن "الحقيقة"، الحقيقة الإلهية والحقيقة العلمية التي تعكسها التجربة، وهي الحقيقة التي كانت مشكلته وينبوع قلقه المعرفي والعقلي والروحي، والتي لم يجدها في الفلسفة ووجدها في رحلته الروحية التي شكلت بالنسبة إليه حقيقة وتجربة عملية وعلمية. فقد تصدّى الغزالي لكل ما اعتبره مخالفا للحقيقة الدينية أو العلمية.

 وقد تحدث عن المنطلق الأول لرحلة بحث عن الحقيقة، حين قال "وقد كان التعطّش إلى درك حقائق الأمور دأبي وديدني من أول أمري وريعان عمري، غريزة وفطرة من الله وضعها في جبلّتي لا باختياري وحيلتي، حتى انحلت عني رابطة التقليد، وانكسرت على العقائد الموروثة على قرب عهد من الصّبا"[18].

 وقد وقف المحقق الراحل سليمان دنيا عند مراحل تطور الحقيقة لدى الغزالي، حيث "شكّ أول ما شكّ على هذا النحو السمح الخفيف، فأخذ يبحث عن الحق من بين اضطرابات الفرق، معوّلا على العقل والحواس وظواهر القرآن والسنة والقضايا المشهورة، فهذه كانت موازين الحق في ذلك العهد وكان أن يجربها الغزالي ليحسّ بتضارب الأدلة، وكان طبيعيا أن تتضارب الأدلة؛ لأن درجتها من القوة والضعف ومن الحق والباطل ليست واحدة"[19].

 وهكذا فقد فحص هذه المعايير تاليا في ضوء العلم اليقيني مصرّحا: "إنما مطلوبي العلم بحقائق الأمور، فلابد من طلب حقيقة العلم ما هي؟ فظهر لي أن العلم اليقيني هو الذي ينكشف فيه المعلوم انكشافا لا يبقى معه ريب، ولا يفارقه إمكان الغلط والوهم، ولا يتسع القلب لتقدير ذلك، بل الأمان من الخطأ ينبغي أن يكون مقارنا لليقين مقارنة لو تحدى بإظهار بطلانه من يقلب الحجر ذهبا والعصا ثعبانا، لم يورث ذلك شكا وإنكارا، فإني إذا علمت أن العشرة أكثر من الثلاثة فلو قال لي قائل لا بل الثلاثة أكثر، بدليل أني أقلب هذه العصا ثعبانا وقلبها، وشاهدت ذلك منه، لم أشكّ بسببه في معرفتي، ولم يحصل لي منه إلا التعجب من كيفية قدرته عليه، فأما الشك بسببه فيما علمته فلا. ثم علمت أن كل ما لا أعلمه على هذا الوجه ولا أتيقّنه هذا النوع من اليقين، فهو علم لا ثقة به ولا أمان معه، وكل علم لا أمان معه فليس بعلم يقيني"[20].

لقد بحث، إذن، عن العلم اليقيني من خلال مفهوم الأمان الذي بدونه كان العلم مجرّدا وناقصا، ولا يخفى أن صفة الأمان ترجع إلى قضايا اليقين النفسي مثل رجوعها إلى قضايا اليقين العلمي، كما أن نفي الغزالي اليقين عن العلم الذي لا أمان معه، وربطه بين مفهومي العلم اليقيني والأمان يمثل إشارة مهمة جدا لأهمية عنصر الأمان في استقرار المنظومات الفكرية والمجتمعية، فالمعرفة التي لا تؤدّي إلى أمان المجتمعات والأفراد معرفة مهتزة ولا ثقة بها، مهما وصفت بأنها علم نظري.

 لقد "شكّ في الحواس، وأكثر من الدوران حول العقل لأنه قوي لم ترهبه هجمته ولم تصب مقتله رميته، وإن نالت منه بعض الشيء، على العكس من الحواس التي بنبل أو نبلين أرداها ثم تركها وانصرف. ونفض يده من العقل والحواس كليهما، وبقي له الشكّ العنيف"[21]. وهذا النص من كتابه "المنقذ من الضلال" يظهر مقصوده من العلم الذي يحقق الأمان"؛ فلما خطرت لي هذه الخواطر وانقدحت في النفس، حاولت لذلك علاجا فلم يتيسر، إذ لم يكن دفعها إلا بالدليل، ولم يمكن نصب دليل إلا من تركيب العلوم الأولية. فإذا لم تكن مسلمة لم يمكن تركيب الدليل، فأعضل الداء ودام قريبا من شهرين، أنا فيهما على مذهب السفسطة بحكم الحال، لا بحكم النطق والمقال، حتى شفى الله تعالى من ذلك المرض، وعادت النفس إلى الصحة والاعتدال"[22].

إن التشكك المعرفي حالة إسلامية، وعنصر الشكّ محوري في نسقية الغزالي، وكذلك محوري في ترتيب حياته وعطائه المعرفي، وحاجة الفكر الإسلامي إلى نمط ونموذج الشكّ الغزالي قائمة لا تنقطع، ذلك الشك العلمي الذي لا ينقض الأسس والمرجعيات، ويدفع إلى تتبّع الحقائق العلمية دونما توقف، وهذا النص من المنقذ يفصح عن هذا التوجه: "فلم أزل في عنفوان شبابي منذ راهقت البلوغ قبل بلوغ العشرين إلى الآن، وقد أناف السن على الخمسين، أقتحم لجّة هذا البحر العميق، وأخوض غمرته خوض الجسور لا خوض الجبان الحذور، وأتوغل في كل مظلمة وأتهجّم على كل مشكلة وأتقحم كل ورطة، وأتفحص عن عقيدة كل فرقة وأستكشف أسرار مذهب كل طائفة، لأميز بين محقّ ومبطل ومتسنّن ومبتدع، لا أغادر باطنيا إلا وأحب أن أطلع على باطنيته، ولا ظاهريا إلا وأريد أن أعلم حاصل ظاهريته، ولا فلسفيا إلا وأقصد الوقوف على كنه فلسفته، ولا متكلّما إلا وأجتهد في الإطلاع على غاية كلامه ومجادلته، ولا صوفيا إلا وأحرص على العثور على سرّ صفوته، ولا متعبدا إلا وأترصّد ما يرجع إليه حاصل عبادته، ولا زنديقا معطلا إلا وأتحسّس ورائه للتنبّه لأسباب جرأته في تعطيله وزندقته"[23].

لقد طالت الفترة التي شك فيها والتي بدأت منذ سن الصبا وصولا إلى مرحلة التصوف. حيث درّس وألّف طيلة مرحلة الشك تواليف انتقد فيها الفلاسفة والمتكلمين والفرق. ومما" يثير الدهشة أن شاكّا في الحقيقة يصدر تآليف إيجابية حول الحقيقة، ويدرّس حول الحقيقة تدريسا إيجابيا، وحتى في نقده للفلسفة لم يكن مستجيبا لداعي شكّه، لأن قارئ كتاب التهافت يلاحظ أن صاحبه لا يزاول عملية الهدم فحسب"[24]. ومن داخل المنهج النسقي وضع الغزالي " كل الآراء التي وصل إليها علمه ولم ير واحدا أحق منها بالأخذ دون غيره ما لم يكن أهلا لهذا التفضيل، فشكّ في وسائل الحقيقة، حتى أتى عليه وقت كان فيه سفسطائيا، إنه لم يحتكم إلى العقل بل رآه أضعف من أن يفصل في مسائل ما وراء الطبيعة، لكن ليس العقل هو كل أداة الفيلسوف، إذ البصيرة وصفاؤها والإلهام وفيوضاته وسيلة أخرى من وسائل التفلسف"[25].

وينضاف إلى قيمة الشك في النسق الغزالي، قيمة أخرى موازية من الناحية البنائية، وهي المنهج النقدي الذي رسّخه في عمق المعرفة الإسلامية. وبات هذا المنهج أساسا هاما في نسقية الفكر الإسلامي، فقد أنضج هذا المنهج الذي تطور في سياق الاضطرابات السياسية والفوضى الفكرية وحرب المعتقدات، والحاجة إلى مواجهة كل ذلك. ويلخص هذا النص من المنقذ من الضلال المنحى المنهجي للنقد لدى الغزالي، حيث اعتبر أنه لا "يقف على فساد نوع من العلوم، من لا يقف على منتهى ذلك العلم، حتى يساوي أعلمهم في أصل ذلك العلم ثم يزيد عليه، ويجاوز درجته فيطلع على ما لم يطلع عليه صاحب العلم من غوره وغائله، وإذ ذاك يمكن أن يكون ما يدّعيه من فساده حقا"[26].

 والغزالي الذي انتقد مصادر المعرفة الحسية والعقلية قد عاب على كثير من العلماء تركهم المنهج النقدي. "ولم أر أحدا من علماء الإسلام صرف عنايته وهمّته إلى ذلك، ولم يكن في كتب المتكلمين من كلامهم، حيث اشتغلوا بالردّ عليهم، إلا كلمات معقدة مبددة ظاهرة التناقض والفساد، لا يظن الاغترار بها بعاقل عامي، فضلا عمن يدعي دقائق العلم، فعلمت أن رد المذهب قبل فهمه والإطلاع على كنهه رمي في عماية "[27].

ويمثّل عنصر الاستجابة للتحديات الفكرية أحد مكونات نسقية الغزالي، ودعوة للفكر الإسلامي المعاصر إلى تمثل الاستجابة الدائمة لتحديات التطور المعرفي. ذلك أن الغزالي لم يكن مفكرا نخبويا منعزلا عن حركية المجتمع. فقد انخرط باكرا في سلك رجال الدولة رفقة الوزير المشهور نظام الملك الذي كان يمتلك رؤية فكرية وسياسية دقيقة لزمنه. وأهم ما كتب أبو حامد جاء في سياق كان فيه قريبا من دوائر الحكم، وحينها استجاب لضرورة مواجهة الإسماعيلية وإبطال آرائهم الدينية والفلسفية والسياسية.

ولذلك كان "تهافت الفلاسفة" و"فضائح الباطنية" يكمّلان بعضهما بعضا؛ حيث اعتمد عملية تفكيكية مستندا إلى أمرين: توظيف المنطق في مواجهة النظرية التعليمية الإسماعيلية وتفكيكها، ثم "تجريد التصوف الباطني من طابعه السياسي الذي طبعته به الشيعة الإمامية والإسماعيلية، وتوظيفه سنّيا، والمحصلة إعادة تأسيس عقيدة الدولة السلجوقية العباسية"[28]. وذلك وفقا للحاجة والتحديات العقدية والفكرية والسياسية التي واجهت العالم السنّي.

إن العلاقة بالخلافة العباسية وعمقهما السلجوقي جعلت بنسالم حميش يعتبر أن "دفاع الغزالي عنها يائس مهزوز، بما أنه يرى شروط الإمامة وشرائطها مجتمعة في الخليفة المستظهر الورع حسب تصويره، والذي كان في واقع الأمر كغيره من الخلفاء العباسيين المتأخرين صورة بدون معنى وخليفة بلا سلطة"[29]. وكان تقييم حميش سيكون صحيحا فقط في حال تم النظر إلى موقف الغزالي من الخلافة منفردا وبعيدا عن سياق الاضطرابات السياسية والفكرية في العالم لإسلامي، وخاصة المجال السنّي منه. وهي الاضطرابات والتحولات التي جعلت بلا شك عالما ومفكرا نسقيا مثل الغزالي يستحضر في مواقفه وتنظيراته مستقبل الخلافة وأهمية الحفاظ عليها وتجديدها، وهو العالم بالقوى السياسية والفكرية الصاعدة والمتصارعة التي كانت تعمل حينها على إنهاء ذلك الوجود السياسي الجامع بطابعه السنّي.

وهو الموقف الذي فرضته طبيعة التفكير الغزالي النسقي الذي تترابط بداخله المكونات وتتداخل المؤثرات. وربما هذا ما جعل حميش يرجع ويعيد الاعتراف، بعد ذلك، بأن الغزالي "لم يكن بمثابة الأداة المسخرة الطيّعة بين أيدي حكام العصر، بل كان بفضل فكره القلق والميال إلى النسق والقطيعات، يستقل عند الحاجة ويعصم نفسه بالخلوة والتصوف عن الدنيا والطلبات السياسية المباشرة الملحة"[30].

استبعاد التناقضات وفهم سياقها

إن نسقية الغزالي جعلت مهمة استيعابه وفهمه فكرا ومواقف بحاجة إل تحليل نسقي كذلك، وكان الفيلسوف المغربي الراحل محمد عزيز الحبابي يرى أن "الغزاليّة، تمتاز من بين ما تمتاز به اضطرابات وتناقضات ومفارقات وإشكاليات، حيث تظهر كل تلك الجموع كأنها سلبيات مع أن منها تتكون عملاقية الغزالي، إنها مميزات دائمة الحضور في جميع ما يتعلق بالغزاليّة كنسق وكسلوك وكتجربة، من حيث التأثر والتأثير في ميدان الفلسفة، وفي ميدان التصوف وفي كل الميادين"[31].

إن هذه التناقضات التي ظهرت لحميش والحبابي وجدت توجيها مختلفا في رأي الفيلسوف الراحل محمد عابد الجابري، الذي اعتبر أن "الأطراف الثلاثة: الدعوة إلى التصوف، ومهاجمة الفلاسفة، والدعوة إلى اصطناع المنطق، تجسّم فعلا تناقضا واضحا، ولكن فقط على صعيد الفكر المجرّد. أما على صعيد السياسة والأيديولوجيا السياسية فقد كانت في وقتها أسلحة ثلاثة متكاملة موجهة نحو خصم واحد"[32].

ولذلك اعتبر الجابري أن "الحضور المستمر للغزالي في الفكر العربي الإسلامي دليل على أنه لم يكن مجرد واحد من أعلامه البارزين، بل هو برهان على أنه كان وما يزال أحد مكوناته، وإحدى سلطاته المرجعية التي لم تشخ بعد"[33]. ذلك أن" فكر الغزالي ليس مجرد استمرار لما قبله، على الرغم من كل الروابط العضوية التي تشدّه إلى شخصيات ومذاهب سابقة، وإذن فهنالك مكونات أخرى لفكر صاحبنا غير تلك التي يمكن الرجوع بها إلى ما قبله. ونكتشفها بوضوح إذا نظرنا إلى الغزالي لا بوصفه يمثل نقطة نهاية، بل بوصفه يجسّم نقطة بداية، ولا نستطيع أن نضع في مقابل نقطة البداية هذه نهاية محدّدة، فلقد بقي الغزالي حاضرا في ثقافتنا العربية الإسلامية"[34].

ولاستكشاف عناصر ومكونات النسقية الغزالية طرح الجابري سؤالا معاكسا، كيف سيكون الفكر العربي الإسلامي لو لم يوجد الغزالي؟ وماذا كانت الثقافة الإسلامية ستفقده لو لم يكتب الغزالي شيئا؟ ويجيب بأن مرتكزات فكر الغزالي ثلاثة كتب، لولاها كان وضع المعرفة الإسلامية سيكون مغايرا، وهي "إحياء علوم الدين"، و"تهافت الفلاسفة" و"معيار العلم"، واستثنى "المستصفى" باعتبار مادته ممكنة الوجود في مؤلفات أصولية سابقة. وهو الاستثناء الذي يعتبر غير صحيح، وربما كان تكوين الجابري الفلسفي بعيدا عن علم أصول الفقه وراء هذا التقييم. ذلك أن قيمة المستصفى لا تتحدّد بتشابه مادته الأصولية مع ما سبق تأليفه في أصول الفقه، بل في بلوغه من خلاله قمة تجديد علم أصول الفقه باعتباره ركنا من أركان تجديد أداة الاستدلال الأولى للعقل الإسلامي، ولولا إدراك ابن رشد خصم الغزالي فلسفيا قيمة المستصفى ما جعله مصدرا يشتغل عليه تلخيصا.

كما أن المستصفى حلقة هامة من حلقات ربط علم المنطق بالعلوم الإسلامية، أدخلت علم أصول الفقه مرحلة جديدة مثل ما يظهر في المقدمة لمنطقية التي ركّبها الغزالي وجعلها ضرورية للعلوم. إن منهجية الغزالي ساهمت في استفادة أصول الفقه عمود الاستدلال في الخطاب الإسلامي، من تجدد المنهجية الاستدلالية بدخول علم المنطق. وهو القائل "وليست هذه المقدّمة من جملة علم الأصول ولا من مقدماته الخاصة به، بل هي مقدمة العلوم كلّها، ومن لا يحيط بها فلا ثقة له بعلومه أصلا"[35]. وكذلك فإن "المنطقيات أكثرها على منهج الصواب والخطأ نادر فيها، إذ غرضها تهذيب طرق الاستدلال، وذلك مما يشترك فيه النظّار[36].

ولم يكن الغزالي أول من ربط المنطق بعلم أصول الفقه من حيث أصل العلاقة، فقد كانت عناصر علم المنطق مبثوثة كما في علم الكلام من قبل، وهو قد بيّن أن المقدمة المنطقية ليست مقدمة لعلم أصول الفقه، بل مقدمة لكل العلوم، وأراد بذلك أن يكون المنطق جزءا من النسق المعرفي العام، وليست "هذه المقدمة من جملة علم الأصول ولا من مقدماته الخاصّة به، بل هي مقدمة العلوم كلها، ومن لا يحيط بها فلا ثقة له بعلومه أصلا، فمن شاء أن لا يكتب هذه المقدمة فليبدأ بالكتاب من القطب الأول، فإن ذلك هو أول أصول الفقه"[37].

 وقد تمثلت إحدى الإضافات الهامة للغزالي في الاشتراط التأهيلي في تكوين الفقيه والمجتهد عبر الدعوة الصريحة لاعتماد المنطق كآلة منهجية في البحث الشرعي، ونزع الثقة عمن لا يمتلك الإدراك اللازم لهذا المنهج، ولاشك أن هذا الاشتراط التأهيلي الذي طالب به الغزالي له قيمة اعتبارية في صناعة مفهوم جديد للمجتهد والمتفقه في الوسط الشرعي"[38].

بحث الغزالي عن الحقيقة الأصولية في ميدان أصول الفقه، و"مجّد القياس المنطقي وهاجم الاستقراء متّهما إياه بأنه مختل يصلح للظنيات دون القطعيات وبالقصور عن اليقين، لأن المقدمة الكبرى فيه غالبا ما تكون ظنية، لا تتصفح الجزئيات تصفّحا يشذّ عنه شيء"[39] ولسالم يفوت توجيه يربط بين انفتاح الغزالي على المنطق الأرسطي والحاجة التي استشعرها المتأخرون وعلى رأسهم هو، لتطعيم الأساليب الجدالية المتّبعة في علم الكلام والمتأثرة بالأساليب الفقهية واللغوية. لقد كان الاتجاه إلى القياس المنطقي بدافع سجالي جدالي في إطار التصدي لأعداء العقل والمعقول ممثلين في الباطنية الإسماعيلية أو التعليمية، المتحصنين بقلعة الموت، والذين صاروا يشكلون خطرا سياسيا يتهدد الدولة العباسية في عقر دارها. فقد ألف إلى جانب كتاب "فضائح الباطنية" كتابا يهاجم فيه نظريتهم للمعرفة أسماه "القسطاس المستقيم"[40].

لم يقف المنطق، وهو الأداة العقلية بالنسبة إلى الغزالي، عند حدود الحاجة العلمية المحضة، بل تعدى ذلك إلى الارتباط بالدوائر الخاصة والكشف عن حاجة المكاشفة والإلهام في ميدان التصوف إلى المنطق؛ "فما دام الكشف بحاجة إلى شرح العقل له حين يراد عرضه على الغير في صورة مقبولة، وما دام العقل لا يؤمن عليه العثار والزلل، إلا إذا اعتصم بالمنطق واهتدى بهديه، يصبح المنطق ضروريا للكشف والإلهام"[41].

إن الغزالي قد جعل بين التصديق المنطقي والتصوف نسقا، وربط الذوق الصوفي بالبرهان المنطقي، وذكر في إحياء علوم الدين أنه "أثناء المجاهدة قد يفسد المزاج ويختلط العقل ويمرض البدن، وإذا لم تتقدم رياضة النفس وتهذيبها بحقائق العلوم نشبت بالقلب خيالات فاسدة تطمئن النفس إليها مدة طويلة، إلى أن يزول وينقضي العمر قبل النجاح فيها. فكم من صوفي سلك هذا الطريق ثم بقي في خيال واحد عشرين سنة، ولو كان قد أتقن العلم من قبل لانفتح له وجه التباس ذلك الخيال في الحال، فالاشتغال بطريق التعلم أوثق وأقرب إلى الغرض"[42].

إن كتاب "معيار العلم" الكتاب الثالث الذي اختاره الجابري "قد مكّن علم الكلام الأشعري من التحرّر من منهج المعتزلة المفضّل، الاستدلال بالشاهد على الغائب، وأيضا من المقدمات العقلية التي وضعوها لنصرة مذهبهم، وأخذها الأشاعرة ووظّفوها في بناء مذهب أهل السنة بناء عقليا، والنتيجة أن الغزالي قد فتح الباب أمام المتكلمين الأشاعرة لتوظيف المفاهيم الفلسفية في صياغة قضايا مذهبهم"[43]. ومن بينهم لسبيل التمثيل المتكلم الأشعري المغربي أبو الحجاج يوسف المكلاتي (حوالي عام 550ﻫ، وتوفي عام 626ﻫ) وعاصر دولة الموحدين، وألف كتاب" لباب العقول في الرد على الفلاسفة في علم الأصول"وقد صرّح المكلاتي بسبب تأليفه قائلا" فشننّا على رؤوس الفلاسفة الغارة، وكلمناهم على موجب اصطلاحهم وأغراضهم"[44]. ويقصد بهم اليونانيين والفلاسفة المسلمين كابن سينا والفارابي. حيث يعتبر الرد على الفلاسفة في علم الكلام أحد الأصناف المتأخرة لتطور علم الكلام عند الأشاعرة عقب انفتاح المسلمين على المقالات الفلسفية وذيوعها في الساحة الإسلامية.

لقد أصاب الراحل الجابري في تقييمه لدور إحياء علوم الدين القادم من داخل النسقية الغزالية، لأنه" لولا كتاب الإحياء لما كان للتصوف في الثقافة العربية الإسلامية ذلك الشأن الخطير الذي كان له بعد الغزالي.إن قيمة الكتاب ليست في مادته وحدها، بل طريقة عرض تلك المادة وتوظيفها وكيفية استثمارها. حيث صنّف التصوف إلى علم المعاملة وعلم المكاشفة، وأدخل الغزالي التصوف إلى قلب الإسلام من بابه الرسمي الواسع، باب الفقه"[45]. وباختصار، حسب الجابري، فقد جعل الغزالي من التصوف فقها آخر. أما تقييم الجابري لكتاب "تهافت الفلاسفة" كأحد مكونات فكر الغزالي فباعتبار الأثر الذي أحدثه، فتأثيره" في صدّ الفكر العربي الإسلامي عن الفلسفة لا يوازنه إلا تأثير كتابه الإحياء في توجيه نفس هذا الفكر نحو التصوف"[46].

 لكن تقييم الجابري لدور كتاب التهافت يبقى كذلك في حاجة إلى تقييم، ذلك أن منتجات الغزالي في التصوف لم تكن هي الموجه الوحيد للفكر العربي الإسلامي في هذا الميدان، بل إن القرنين السادس والسابع بعد أبي حامد حملا تأثيرا هائلا في عالم التصوف. كما أن الغزالي لم يواجه كل الفلسفة، بل ما تعلق بجانب الإلهيات الذي اعتبره مخالفا للرؤية الإسلامية. ولذلك يبدو وجيها الاعتراض الذي قدّمه الراحل عبد الرحمن بدوي حين اعتبر أنه " من السذاجة أن يقال إن كتابا من الكتب أو هجوما لمؤلف مهما كبر قدره، قد قضى على علم راسخ كالفلسفة، فكم من كتب وردود ومناقضات قد ألفت ضد الفلاسفة فلم تزعزع مكانتها. فالحارث المحاسبي الصوفي الكبير، وأبو علي الجبائي أحد كبار رجال المعتزلة، وأبو الحسن الأشعري مؤسس مذهب الأشعرية، وأبو بكر الباقلاني، كل أولئك قد تصدّوا للرد على الفلاسفة بعامة، ونحو هؤلاء كثيرون عاشوا وكتبوا قبل الفارابي وابن سينا، فلم يمنعوا من ظهور هذين العلمين الكبيرين في الفلسفة"[47].

ويعضد بدوي رأيه بأن علماء كبارا بعد الغزالي لم يأتوا على ذكر كتابه تهافت الفلاسفة، من ضمن المشتغلين بالفلسفة في الشرق، أمثال الفخر الرازي والشهرستاني والتفتازاني والإيجي وأبو البركات البغدادي وملاّ صدرا الشيرازي، وربما كان أثره عند المتكلمين أكبر[48].

ومما يشوّش على رأي الجابري من حيث انتشار الفلسفة بعد الغزالي أن سبب تأليف أبي الحجاج المكلاتي قريب العهد بالغزالي ومعاصر ابن رشد كتاب لباب العقول في الرد على الفلاسفة في علم الأصول "هو طلب أحد معاصريه ممن شاعت الفلسفة في قطره، أن يضع كتابا يدحض فيه آراء الفلاسفة، وأغلب الظن أن هذا كان في الأندلس حيث الغلبة للمدارس الفلسفية، خاصة أن المكلاتي قد توجه إلى الأندلس مرتين بصحبة يعقوب المنصور الموحدي"[49].

إن النسقية الغزالية توفّر للفكر الإسلامي المعاصر الاستفادة من ثلاث خصائص: أولا الديناميكية والوظيفية، باعتبار أن النسقية ليست مجالا مغلقا، وثانيا المثاقفة والتلاقح الفكري مع البنيات الثقافية المغايرة، وثالثا الانفتاح على التحولات المعرفية المحيطة، لذلك لا يمكن التعامل مع النسق الصوفي الغزالي على أنه بنية مغلقة بل بنية مفتحة على محيطها، في حاجة إلى تجديد في الأدوات والمفاهيم، وكذلك الحال مع النسق الفلسفي والأصولي، فليسا أبنية منغلقة. حيث تستمر هذه النسقية في إمداد العقل الإسلامي بأدوات ومناهج لتطوير المعرفة والربط بين العلم ومنظومة القيم، فلا تبقى المعرفة مفتقرة إلى أبعادها القيمية الأخروية.

الهوامش

[1]. إلى أي مدى أثر الغزالي في الفكر الأوروبي؟ محمد عزيز الحبابي، أبوحامد الغزالي، دراسات في فكره وعصره وتأثيره، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة محمد الخامس 1988 ص217.

[2]. الفيومي، المصباح المنير، دراسة وتحقيق: يوسف الشيخ محمد، المكتبة العصرية،  ص311.

[3]. مرتضى الزّبيدي، تاج العروس من جواهر القاموس،  تحقيق مجموعة من المحققين، دار الهداية، 26/419.

[4]. إبراهيم مصطفى، أحمد الزيات، حامد عبد القادر، محمد النجار، المعجم الوسيط، ،  دار الدعوة، 2/919.

[5]. إسماعيل الفاروقي وإسهاماته في الإصلاح الفكري الإسلامي المعاصر، تحرير: فتحي ملكاوي، رائد عكاشة، عبد الرحمن أبو صعيليك، المعهد العالمي للفكر الإسلامي 2014، ص270.

[6]. المصدر نفسه.

[7]. سليمان الضاهر، مفهوم النسق في الفلسفة: النسق: الإشكالات والخصائص، مجلة جامعة دمشق، العدد 3 و4، 2014، ص372.

http://www.damascusuniversity.edu.sy/mag/human/images/stories/3-2014/ar/367-400.pdf

[8]. المصدر نفسه، ص374.

[9]. إبراهيم أبراش، المنهج العلمي وتطبيقاته في العلوم الاجتماعية، دار الشروق 2008، ص114.

[10]. المصدر نفسه، ص126.

[11]. جميل حمداوي، نحو نظرية أدبية ونقدية جديدة، نظرية الأنساق المتعددة، مكتبة المثقف، ط1، 2006، ص10.

[12]. المصدر نفسه، ص13.

[13]. المصدر نفسه، ص20.

[14]. سليمان دنيا، الحقيقة في نظر الغزالي، دار المعارف، مصر، 1965، ص9.

[15]. محمد ابراهيم الفيومي، الإمام الغزالي وعلاقة اليقين بالعقل، دار الفكر العربي، ص10.

[16]. حسام الألوسي، أبو حامد الغزالي وأثره على الفكر الإنساني، أعمال ندوة علمية، بيت الحكمة العراق، 2011، ص8.

https://drive.google.com/file/d/0BygaEqlpVAEdczh6bFphWm81MWM/view

[17]. المصدر نفسه، ص11.

[18]. أبوحامد الغزالي، المنقذ من الضلال، ط2، دمشق، 1992، ص31.

[19]. الحقيقة في نظر الغزالي، م، س، ص26.

[20]. أبوحامد الغزالي، المنقذ من الضلال، تحقيق: محمد محمد جابر، بيروت: المكتبة الثقافية/لبنان ص7.

[21]. الحقيقة في نظر الغزالي، م، س، ص28.

[22]. المنقذ من الضلال، م، س، ص10.

[23]. المصدر نفسه، ص5.

[24]. الحقيقة عند الغزالي، م، س، ص57.

[25]. المصدر نفسه، ص404.

[26]. المنقذ من الضلال، الغزالي، م، س، ص17.

[27]. المصدر نفسه.

[28]. محمد عابد الجابري، التراث والحداثة: دراسات ومناقشات، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، ط1، 1991، ص174.

[29]. أبوحامد الغزالي، دراسات في فكره وعصره وتأثيره. بنسالم حميش، الغزالي بين فكر القطعيات وسياسة الإقطاع، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة محمد الخامس 1988، ص49.

[30]. المصدر نفسه، ص51.

[31]. إلى أي مدى أثر الغزالي في الفكر الأوروبي؟ محمد عزيز الحبابي، أبوحامد الغزالي، دراسات في فكره وعصره وتأثيره، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة محمد الخامس 1988، ص217.

[32]. أبوحامد الغزالي، دراسات في فكره وعصره وتأثيره، مكونات فكر الغزالي محمد عابد الجابري، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة محمد الخامس 1988، ص68.

[33]. المصدر نفسه، ص: 59.

[34]. محمد عابد الجابري، التراث والحداثة: دراسات ومناقشات، ص165.

[35]. أبوحامد الغزالي، المستصفى، تحقيق: محمد عبد السلام عبد الشافي، بيروت: دار الكتب العلمية، 1413ﻫ، ص10.

[36]. الغزالي، مقاصد الفلاسفة، تحقيق سليمان دنيا، ص32.

[37]. أبوحامد الغزالي، المستصفى، م، س.

[38]. وائل الحارثي، علاقة علم أصول الفقه بعلم المنطق: مقاربة جدلية التاريخ والتأثير، بيروت: مركز نماء للبحوث والدراسات، ط1، 2012، ص362.

[39]. سالم يفوت، أبوحامد الغزالي، دراسات في فكره وعصره وتأثيره، بين ابن حزم والغزالي: المنطق الأرسطي، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة محمد الخامس 1988، ص77.

[40]. المصدر نفسه، ص82.

[41]. الحقيقة عند الغزالي، م، س، ص68.

[42]. الغزالي، إحياء علوم الدين، بيروت: دار المعرفة، 3/20.

[43]. التراث والحداثة: دراسات ومناقشات، م، س، ص171.

[44]. أبو الحجاج المكلاتي، لباب العقول في الرد على الفلاسفة في علم الأصول،  من قسم التحقيق، تقديم وتحقيق: فوقية حسين، القاهرة: دار الأنصار، ط1، 1977، ص72.

[45]. التراث والحداثة: دراسات ومناقشات، م، س، ص169.

[46]. المصدر نفسه، ص171.

[47]. عبد الرحمن بدوي؛ أبوحامد الغزالي.. دراسات في فكره وعصره وتأثيره، أوهام حول الغزالي، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة محمد الخامس 1988، ص243.

[48]. المصدر نفسه، ص242.

[49]. لباب العقول في الرد على الفلاسفة في علم الأصول، م، س، ص74.

الوسوم

د. كمال القصير

باحث في الفكر الإسلامي (المغرب)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق