مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةدراسات عامة

لغة القرآن وبلاغته من خلال كتاب: «معارج التفكر ودقائق التدبر» الشيخ عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني سورة المسد أنموذجا «الحلقة الحادية والعشرون»

الحمد لله الجليل الكريم الوهاب المنان، منزل القرآن، أتم ما أنزل من كتاب، والجامع لزبدة ما في زبر الأولين، على خاتم النبيين والمرسلين، محمد بن عبد الله الذي آتاه ربه الحكمة وفصل الخطاب، وجعله سيد الأولين والآخرين، وآتاه ما لم يؤت أحدا من العالمين، وجعل القرآن الذي اصطفاه لخاتمة رسالاته كتابا معجزا في مبانيه ومعانيه، لا تفنى عجائبه، ولا يخلق على كثرة الرد، بحرا عظيما زاخرا بالمعاني مع عذوبة تلاوة، وقوة تأثير، وحسن بيان، وتدبر وتأمل فيه [1]، وفي هذا المقام  يقول الشيخ الثعالبي مذكرا بطريقة من طرق تدبر القرآن والتفكر به: من أراد أن يعرف جوامع الكلم ويتنبه على فضل الإعجاز والاختصار ويحيط ببلاغة الإيماء ويفطن لكفاية الإيجاز فليتدبر القرآن وليتأمل علوه على سائر الكلام.[2]

وسنقف في هذه  الحلقة عند سورة المسد؛ وهي رغم قصرها ووجازتها حملت في ثناياها عبرا ومعاني بأساليب بليغة وصورا بديعة من فنون القول، فهي سورة غنية بالدلالات والرموز، بدءا باسمها الذي عبر عن مغزاها في آخر السورة، فهيا بنا نغوص في أعماقها لنقطف ثمارها ونكشف عن أغوارها الخفية.

فحوى السورة:

تتضمن السورة انتصار الله لرسوله ضد عمه أبي لهب الذي آذاه بالدعاء عليه بالخسران والهلاك والانقطاع، وضد امرأته أم جميل، التي كانت تؤذي الرسول صلى الله عليه وسلم بأنواع من الأذى، فقد ورد في أخبارها أنها كانت تحمل الحطب المملوء بالشوك فتطرحه ليلا في طريق النبي صلى الله عليه وسلم إيذاء له ولأصحابه، وأنها كانت تمشي بالنميمة لتفسد بين الناس.[3]

ويلاحظ أن كل من تعرض له القرآن بالذم من أعداء الرسول صلى الله عليه وسلم وأعداء الإسلام قد ذكره الله بالوصف الذي ينطبق عليه وعلى غيره، باستثناء أبي لهب وزوجته، ويبدو أن السبب حسب الشيخ عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني في هذا يرجع إلى أمرين:

الأمر الأول: أن أبا لهب عم الرسول صلى الله عليه وسلم، فهو من عشيرته الأقربين، فلا يتعصب في الانتصار إليه أحد من عشيرته ضد محمد صلى الله عليه وسلم، إذ هما من عشيرة واحدة.

الأمر الثاني: أن أبا لهب كان البادئ بإيذاء الرسول مواجهة بلسانه وهو ينصح عشيرته الأقربين، وكان أذاه صريحا لا مواربة فيه ولا تورية، وأن امرأته كانت تعلن في المجتمع المكي إيذاءها للرسول صلى الله عليه وسلم بأقوالها وأفعالها، فكان من الحكمة أن يتولى الرب جل جلاله بقرآنه نصرة رسوله، حتى لا يتجرأ عليه أحد من غير عشيرته استخفافا به وبعشيرته.

وقد اشتملت السورة على رد عبارة أبي لهب عليه، والحكم عليه بالخسران والانقطاع في قرآن يتلى ما دام لكتاب الله تال يتلو آياته، ولكن كانت عبارة أبي لهب دعاء غير مستجاب، أما ما نزل في القرآن ردا عليه فهو حكم مبرم من الله جل جلاله، مستتبع بالتنفيذ لا محالة، وقد تب فهلك، وهو يلقى عقابه عند ربه هو وزوجته حمالة الحطب. [4]

في رحاب سورة المسد:

تدبر ما يتعلق بأبي لهب في السورة:

لما قدم سبحانه وتعالى في سورة النصر القطع بتحقيق النصر لأهل هذا الدين بعدما كانوا فيه من الذلة، والأمر الحتم بتكثيرهم بعد الذي مر عليهم مع الذلة من القلة، وختمها بأنه التواب، وكان أبو لهب من شدة العناد لهذا الدين والأذى لإمامة النبي صلى الله عليه وسلم سيد العالمين مع قربه منه بالمحل الذي لا يجهل، وإلى أنه لم ينفعه قربه له ليكون ذلك حاملا لأهل الدين على الاجتهاد في العمل من غير ركون إلى سبب أو نسب غير ما شرعه سبحانه، فقال تعالى معبرا بالماضي دلالة على أن الأمر قد قضى وفرغ منه، فلا بد من كونه محيص[5]: «تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَب مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَب سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَب»[المسد: الآيات: 1-2-3] فافتتاح السورة بالتباب مشعر بأنها نزلت لتوبيخ ووعيد، فذلك براعة استهلال مثل ما تفتتح أشعار الهجاء بما يؤذن بالذم والشتم ومنه قوله تعالى : «وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِين» [المطففين: 1] إذ افتتحت السورة المشتملة على وعيد المطففين للفظ «الويل»[6]. ومن هذا القبيل قول عبد الرحمن بن الحكم من شعراء الحماسة:[7]

لَحَا الله قَيْساً قَيْسَ عَيْلَانَ إِنَّهَا /// أضَاعَتْ ثُغُورَ المُسْلِمِينَ ووَلَّتِ

وقول أبي تمام في طالعةِ هجاء : [8]

النارُ والعارُ والمَكْرُوهُ والعَطَبُ

والتَّبُّ: الخَسارُ، والتَّبابُ: الخُسران والهلاك، وتَبّاً لَهُ، على الدُّعاء، نُصِب لأنه مَصدر مَحْمول على فِعله، كما تقول سَقْياً لفُلان، معناه سُقِيَ فُلانٌ سَقْياً، ولَم يُجْعَل اسْما مُسْندا إلى ما قَبْلَه. وتَبّاً تَبيباً، على المُبالغة. وتَبَّ تَباباً وتَبَّبَه: قال له تَبّاً، كما يقال جَدَّعَه وعَقَّره. تقول تَبّاً لفلان، ونَصْبُه على المَصْدر بإضمار فعل، أَي ألْزَمه الله خُسْرانا وهَلاكا، وتَبَّتْ يَداه تَبّاً وتَباباً: خَسِرتَا. قال ابن دريد: وكأنّ التَّبَّ المصدر، والتَّباب الاسم، وتَبَّتْ يَداهُ: خَسِرتا، وفي التّنزيل العزيز: «تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ»[المسد: 1]؛ أي ضَلَّتا وخَسِرَتا، وقال الرّاجز:

أَخْسِرْ بِها مِنْ صَفْقةٍ لَمْ تُسْتَقَلْ، /// تَبَّتْ يَدَا صافِقِها، مَاذَا فَعَلْ

وهذا مثل قيل في مُشْتري الفَسْوِ. والتَّبَبُ والتَّبابُ والتَّتْبِيبُ: الهلاكُ. وَفِي حَدِيثِ أَبي لَهَبٍ: تَبّاً لكَ سائرَ اليَوْمِ، أَلِهذا جَمَعْتَنا[9]. وجاء في مفردات ألفاظ القرآن: التّبُّ والتَّبابُ: الاستمرار في الخسران، يقال: تَبًّا له وتَبَّ له، وتَبَّبْتُهُ: إذا قلتُ له ذلك، ولتَضَمُّن الاستمرار قيل: استَتَبَّ لفُلان كذا، أي: اسْتَمَرَّ، « وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيب» [هود/101]، أي: تخسير، « وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبَاب » [غافر/37].[10]

وفعل «تَبَّ» يدور حول معنى الخسران، وقد يدل على الهلاك، يقال تبت يد فلان، أي: خسرتا. وتب تبا وتبابا، أي: خسر، أو هلك. والتتبيب: النقص والخسارة، وتقول العرب في دعائها على إنسان بالخسران والهلاك: تبا لفلان، بالنصب على المصدرية من فعل محذوف. [11]

و«تَبَّتْ» فعل ماض، و«التاء» للتأنيث، و«يدا أبي لهب» فاعل، و«تَبَّ» عطف على «تبت»، أي: وكان ذلك وحصل، كقوله:

جَزَانِي جَزَاهُ اللهُ شَرَّ جَزَائِهِ /// جَزَاءَ الكلَابِ العَاوِيَاتِ وَقَدْ فَعَلْ

والجملة دعائية لا محل لها، روى في الصحيحين وغيرهما واللفظ لمسلم عن ابن عباس قال: لما نزلت: « وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِين»[الشعراء: 214] خرج صلى الله عليه وسلم حتى صعد الصفا، فهتف: «يا صباحاه». فقالوا: من هذا الذي يهتف؟ قالوا: محمد، فاجتمعوا إليه، فقال: «يا بني فلان! يا بني عبد مناف! يا بني عبد المطلب!» فاجتمعوا إليه، فقال: «أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا تخرج بسفح الجبل أكنتم مصدقي؟» قالوا: ما جربنا عليك كذبا، قال: « فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد» فقال أبو لهب: تبا لك! ما جمعتنا إلا لهذا، ثم قام، فنزلت السورة[12]. وما جاء في الآية حكم من الله وقضاء، لا يقتصر على خسارة يدي أبي لهب في مقابل دعاء أبي لهب على الرسول بأن تخسر يداه، فقد جاء فعل: « وتب» في آخر الآية الأولى، للحكم عليه كله بالخسران [13]. قال الأخفش «تبّت» جزم لأن تاء المؤنث اذا كانت في الفعل فهو جزم نحو: «ضَرَبَ» و«ضَرَبْتُ»[14]. وقيل فى قوله تعالى: «تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ» إِنَّها على الأَصل، لأَنَّ يَدَا لغة فى اليَد، أَوْ هي الأَصلُ وحُذِف أَلِفُه وقيل بل هى تَثْنِيَة اليَدِ[15]. وفي هذا المنحى لِم أسند التَّباب إلى اليدين؟ وأما الجواب عن هذا السؤال يحتمل أوجها ذكرها المفسرون أولاها: خَصّ اليدين بالتَّبَابِ لأنّ أكثر العمل يكون بهما، وقيل: المراد باليَدين نفسُه، وقد يُعبَّر باليد عن النّفْس، كما في قوله: «بِما قَدَّمَتْ يَداكَ»[الحج: 10] أي: نَفْسُك، والعرب تُعبِّر كثيرا ببعض الشّيء عن كُلِّه، كقولهم: أَصَابَتْهُ يَدُ الدَّهْرِ، وَأَصَابَتْهُ يَدُ الْمَنَايَا،  كقول الشاعر:[16]

لَمَّا أَكَبَّتْ يَدُ الرَّزَايَا /// عَلَيْهِ نَادَى ألا مُجير

وثانيها: أن اليد محل القوة والتكسب، فإسناد التَّب إليهما يستلزم تباب الجميع، بخلاف ما لو قيل: تب أبو لهب لاحتمل أنه تب لتوب ولده أو جاريته أو ضاع بعض ماله، وتب لأحد معنيين: إما لنفي احتمال أن يكون تب يداه فقط، وإما لتحقيق وقوع ذلك كأنه موجود في الحال.[17]

وثالثها: قيل إنَّ أبا لهَب أراد أنْ يَرمي النّبي صلّى اللَّه عليه وسلَّم بحَجر، فمَنَعه اللَّه من ذلك، وأنْزل اللَّه تعالى: «تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ» للمَنع الذي وَقَع به.[18]

واختلف في «لَهَب» [الآية: 1] الأول فابن كثير قال بإسكان الهاء ووافقه ابن محيصن، والباقون بفتحها لغتان: كالنَّهْرِ والنَّهَرِ، والفتح أكثر استعمالا وخرج بالأول الثاني المتفق على الفتح[19]، والاختيار الفتح، لموافقة رؤوس الآي[20]، وفي هذا الصدد يقول أبو علي الفارسي: يشبه أن يكون: لَهَب ولَهْب، لغتين كالسّمْع والسّمَع، والنّهْر والنّهَر، واتفاقهم في الثانية على الفتح يدلّ على أنه أوجه من الإسكان، وكذلك قوله: «وَلاَ يُغْنِي مِنَ اللَّهَب» [المرسلات: 31][21].

وجاء في الآية اختيار كنيته «أبي لهب» دون اسمه «عبد العُزَّى» لعدة دواع حكيمة ذكرها الشيخ عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني:

الداعي الأول: شهرته في قومه بأبي لهب، فقد كان يكنى بذلك في الجاهلية لأن وجهه قد كانت فيه حمرة كحمرة اللهب.

الداعي الثاني: إيثار الابتعاد عن ذكر اسمه «عَبْدِ العُزَّى» فهو في الحقيقة ليس عبدا للوثن الذي كان يسمى عند العرب العزى مؤنث «الأَعَزِّ» إذ كان على صورة امرأة، بل هو عبد من عباد الله.

الداعي الثالث: إيثار التناسب اللفظي بين كنيته الدالة عليه، والنار ذات اللهب التي هو صائر إليها لا محالة، فقد جاء في السورة بيان أنه سيصلى نارا ذات لهب، ولا يخفى ما في هذا من إبداع بياني دل عليه مقابلة ما كان يمدح به من إشراق وجه هو من خلق الله لا من كسبه، بما سينزل به من عذاب لهب النار، عقابا له على ما هو من كسبه[22]. ونجد الكناية حاضرة في هذه الآية؛ حيث نوهت الآية بعاقبة أبي لهب في جهنم من خلال الكناية في الآية واختصارها[23]. وفي قوله عزّ وجلّ: «تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ»  تمثّل المفردات صرخة عنيفة بأصواتها، وكان باستطاعة ابن الأثير أن يتلمّس مظاهر الجزالة في تعدّد الباءات، والباء حرف شفوي انفجاري، ويزيده عنفا كونه مشدّدا أو ساكنا بالتنوين والسكون، أو مشددا ساكنا مقلقلا قلقلة كبرى [24]، وقد صورت موسيقى هذه الأصوات العنف والشدة في تقرير مصير أبي لهب، وأحدثت قرعا للأسماع خصوصا عند الوقوف عليها أثناء القراءة، فحينما نستمع إلى قوله تعالى: «تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ» يقرع أسماعنا هذا المصير الشديد العاتي، فيستظهره السامع دون جهد، ويجري مجرى الأمثال في إفادة عبرتها وحجتها.[25]

ولما أوقع سبحانه الإخبار بهلاكه على هذا الوجه المؤكد لما كان لصاحب القصة وغيره من الكفار من التكذيب بلسان حاله وقاله لما له من المال والولد، وما هو فيه من القوة بالعَدد والعُدد، زاد الأمر تحققا إعلاما بأن الأحوال الدنيوية لا غناء لها فقال مخبرا، أو مستفهما منكرا «ما أغنى عنه ماله وما كسب» [26]؛ أي ما نفعه ماله الذي اعتز به، وما نفعه ما كسب من أعمال، بل باء بالخيبة والخسران. يقال لغة: أغنى الشيء فلانا إذا كفاه، ويقال: أغناه إذا نفعه وأجزأ عنه، ويقال: أغنى عنه هذا الأمر، أي: أجزأ عنه ونفعه، وما أغنى عنه شيئا، أي: لم يكفه ولم ينفعه بشيء [27]، وقوله تعالى: «ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ»، ففي «ما» قولان أحدهما أنها في موضع نصب بأغنى، والقول الآخر أنها لا موضع لها من الإعراب وأنها نافية[28]، فما يجوز فيها النفي والاستفهام، وعلى الثاني تكون منصوبة المحل بما بعدها، والتقدير: أي شيء أغنى عنه المال [29]، ولعل السر في جمال أسلوب الاستفهام هنا، والعدول إليه عن أسلوب النفي، هو أن الاستفهام في أصل وضعه يتطلب جوابا يحتاج إلى تفكير، يقع به هذا الجواب في موضعه، ولما كان المسؤول يجيب بعد تفكير وروية عن هذه الأسئلة بالنفي، كان في توجيه السؤال إليه حملا له على الإقرار بهذا النفى، وهو أفضل من النفى ابتداءً[30]. والتعبير بالماضي في قوله «ما أغنى» لتحقيق وقوع عدم الإغناء[31]، و«عنه» متعلقان بأغنى، و«ماله» فاعل، و«الواو» حرف عطف، و«ما» يجوز فيها أن تكون مصدرية، أو موصولة بمعنى: كسبه، أو مكسوبه، ويجوز أن تكون استفهامية منصوبة المحل بما بعدها، أي: أي شيء كسب؟[32].

فما كان حكما ربانيا بكلمات الله في: «تبت يدا أبي لهب وتب» صار بعد قليل من الزمن حقيقة واقعة أنبأ عنها مقدما قول الله تعالى: «ما أغنى عنه ماله وما كسب»، لقد كان خبرا معجلا سابقا لما نزل بأبي لهب ونظرائه بعد حين من هزيمة وخيبة، فلا ماله نفعه في الانتصار على الرسول وصحبه، وإيقاف انتشار الإسلام وامتداده، ولا سائر كسبه الكيدي نفعه أيما نفع، بل لاحقته وسائر المشركين من قومه الهزائم والنكبات، ونصر الله رسوله والمؤمنين معه، وأعز دينه.[33] وقد كان عاقبة أبي لهب كما قال تعالى: «سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ» وهي بيان لجملة «ما أغنى عنه ماله وما كسب»؛ أي لا يغني عنه شيء من عذاب جهنم، ونزل هذا القرآن في حياة أبي لهب وقد مات بعد ذلك كافرا، فكانت هذه الآية إعلاما بأنه لا يسلم وكانت من دلائل النبوة.[34] واستعمال السين في عبارة «سيصلى نارا»  دون حرف التسويف «سوف» قد يشعر بأنه في مدة البرزخ بين الموت والبعث تعذب نفسه بعذاب حريق بنار يجعل الله لها خصائص عذاب لهب نار جهنم يوم الدين، بدليل أن النصوص القرآنية التي جاء فيها بيان العذاب في نار جهنم يوم الدين، قد جاء فيها استعمال حرف «سوف» لا حرف «السين» ويدل استقراء النصوص القرآنية على أن سوف تستعمل للمستقبل البعيد، وأن السين تستعمل للمستقبل القريب[35]، فقوله: «سيصلى نارا» أي سيعذب بالحريق في النار، يقال لغة وصَلِيتُ النارَ أَي قاسَيْتُ حَرَّها، «اصْلَوْها»؛  أَي قاسُوا حَرَّها، وهي الصَّلا والصِّلاءُ مثل الأَيَا والإِيَاءِ للضِّياء، إذا كَسَرْتَ مَدَدْت، وَإِذَا فَتَحْت قَصَرْت[36]؛ قال امرؤ القيس: [37]

وقَاتَلَ كَلْب الحَيِّ عَنْ نَارِ أَهْلِهِ /// لِيَرْبِضَ فيهَا، والصَّلا مُتَكَنَّفُ

ويُقال: صَلَيْتُ الرَّجُل نارًا إذا أَدْخَلْتَه النارَ وجَعَلْتَه يَصْلاها، فإنْ أَلْقَيْتَه فيها إلْقاءً كأنَّك تريدُ الإحراقَ قُلت أَصْلَيْته، بالأَلف، وصَلَّيْته تَصْلِيَةً[38]، و«يصلى» فعل مضارع، وفاعله هو، أي: أبو لهب، و«نارا» مفعول به، و«ذات لهب» نعت لنارا؛ لأنها مآل كنيته [39]، ووصف النار بـــ «ذات لهب» لزيادة تقرير المناسبة بين اسمه وبين كفره إذ هو أبو لهب والنار ذات لهب، وهو ما تقدم الإيماء إليه بذكر كنيته، وفي وصف النار بذلك زيادة كشف بحقيقة النار وهو مثل التأكيد، وهذه النار لا تسكن ولا تخمد أبدا لأن ذلك مدلول الصحبة المعبر عنها بالذات[40]. ونجد بين لفظي «لهب» الأول و«لهب» الثاني الجناس التام فالأول كنية له، والثاني وصف للنار، وأَبِي لَهَبٍ كنية للتصغير والتحقير، كأبي جهل، و يَدا أَبِي لَهَبٍ مجاز مرسل، أطلق الجزء وأراد الكل، أي هلك.[41]

فبعد تأملنا في مآل أبي لهب، سنقف في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى عند مصير زوجته أم جميل والذي كان أشد فتكا وعقابا؛ لأنها كانت تُشاركه في أذى النبي صلى الله عليه وسلم وتُعينه عليه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

[1] معارج التفكر ودقائق التدبر، عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني، 1/5.

[2] الإعجاز والإيجاز، لأبي منصور الثعالبي، التزم شرحه وطبعه اسكندر آصاف،  ص: 10، الطبعة الأولى: 1897.

[3] معارج التفكر ودقائق التدبر، 1/381.

[4] نفسه، 1/382.

[5] نظم الدرر في تناسب الآيات والسور، البقاعي، 8/567-568.

[6] التحرير والتنوير، الشيخ محمد الطاهر بن عاشور، 30/600، دار سحنون للنشر والتوزيع – تونس – 1997 م.

[7]  شرح ديوان الحماسة لأبي تمام ، يحيى بن علي بن محمد الشيبانيّ التبريزي،  أبو زكريا، كتب حواشيه: غريد الشيخ، ووضع فهارسه العامة: أحمد شمس الدين، 2/893، دار الكتب العلمية: بيروت- لبنان، الطبعة الاولى: 1421هـ/ 2000م.

[8] ديوان أبي تمام بشرح الخطيب التبريزي، تحقيق: محمد عبده عزام، 4/313، باب الهجاء، الطبعة الثالثة، دار المعارف، وفي هذا البيت يهجو الشاعر عَيَّاش بن لَهيعة، وعجزه: «والقَتْلُ والصَّلْبُ والمُرَّانُ والخَشَبُ».

[9] لسان العرب، الفضل، ابن منظور، 1/226، دار صادر بيروت، الطبعة: الثالثة- 141 هـ.

[10] المفردات في غريب القرآن، الحسين بن محمد بن المفضل المعروف بالراغب الأصفهاني أبو القاسم، راجعه وقدم له: وائل أحمد عبد الرحمن، ص: 79، المكتبة التوفيقية.

[11] معارج التفكر ودقائق التدبر، 1/383.

[12] إعراب القرآن الكريم وبيانه، محيي الدين الدرويش، 8/440.

[13] معارج التفكر ودقائق التدبر، 1/383.

[14] معانى القرآن للأخفش، تحقيق: الدكتورة هدى محمود قراعة، 2/588، مكتبة الخانجي، القاهرة، الطبعة: الأولى، 1411 هـ – 1990 م.

[15] بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز، الفيروزآبادى، تحقيق: محمد علي النجار، 5/384، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية – لجنة إحياء التراث الإسلامي، القاهرة.

[16] فتح القدير، الشوكاني، 5/627، دار ابن كثير، دار الكلم الطيب – دمشق، بيروت، الطبعة: الأولى – 1414 هـ.

[17] تفسير ابن عرفة، تحقيق: جلال الدين الأسيوطي، 4/357، دار الكتب العلمية- بيروت، الطبعة الأولى، 2008م.

[18] الجامع لأحكام القرآن، تفسير القرطبي، القرطبي، تحقيق: أحمد البردوني وإبراهيم أطفيشن،  20/235، دار الكتب المصرية القاهرة، الطبعة: الثانية، 1384هـ – 1964م.

[19] إتحاف فضلاء البشر في القراءات الأربعة عشر، أحمد بن محمد بن أحمد بن عبد الغني الدمياطيّ، شهاب الدين الشهير بالبناء، تحقيق: أنس مهرة، ص: 606، دار الكتب العلمية لبنان، الطبعة: الثالثة، 2006م – 1427هـ.

[20] الحجة في القراءات السبع، الحسين بن أحمد بن خالويه، تحقيق: د. عبد العال سالم مكرم، ص: 377، دار الشروق بيروت، الطبعة: الرابعة، 1401 هـ.

[21] الحجة للقراء السبعة، أبو علي الفارسي، تحقيق: بدر الدين قهوجي – بشير جويجابي، 6/451، راجعه ودققه: عبد العزيز رباح – أحمد يوسف الدقاق، دار المأمون للتراث – دمشق/بيروت، الطبعة: الثانية، 1413 هـ – 1993م.

[22]معارج التفكر ودقائق التدبر، 1/384.

[23] إعجاز القرآن، الدكتور السيد رضا مؤدب، ص: 144، الطبعة الأولى، دار المصطفى العالمية.

[24] جماليات المفردة القرآنية، أحمد ياسوف، ص: 194، دار المكتبى دمشق.

[25] الصوت اللغوي في القرآن، الدكتور محمد حسين علي الصغير،  ص: 159، دار المؤرخ العربي، بيروت- لبنان.

[26] نظم الدرر في تناسب الآيات والسور، 8/571.

[27] معارج التفكر ودقائق التدبر، 1/386.

[28] إعراب القرآن، أبو جعفر النَّحَّاس أحمد بن محمد بن إسماعيل بن يونس المرادي النحوي، وضع حواشيه وعلق عليه: عبد المنعم خليل إبراهيم، 5/192، منشورات محمد علي بيضون، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة: الأولى، 1421 هـ.

[29] إعراب القرآن الكريم وبيانه، 8/441.

[30] من بلاغة القرآن، أحمد أحمد عبد الله البيلي البدوي، ص: 126، نهضه مصر القاهرة، عام النشر: 2005.

[31] التحرير والتنوير، 30/604.

[32] إعراب القرآن الكريم وبيانه، 8/441.

[33] معارج التفكر ودقائق التدبر، 1/387.

[34] التحرير والتنوير، 29/604.

[35] معارج التفكر ودقائق التدبر، 1/387.

[36] لسان العرب، ابن منظور، 14/468.

[37] ديوان امرئ القيس، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، ص: 465  الطبعة الرابعة، دار المعارف.

[38] لسان العرب، ابن منظور، 14/468.

[39] إعراب القرآن الكريم وبيانه، 8/441.

[40] نظم الدرر، 8/572.

 [41] التفسير المنير في العقيدة والشريعة والمنهج، د. وهبة بن مصطفى الزحيلي، 30/455، دار الفكر المعاصر دمشق، الطبعة : الثانية ، 1418 هـ.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. في الحقيقة أبدعت الباحثة في تسليط الضوء على المعاني اللغوية و تفريعاتها و ذكر أساليب البلاغة و ما إلى ذلك مزيدا من التوفيق و نحن في انتظار الحلقات القادمة .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق