مركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصةدراسات عامة

بصائر هادية في اعتبار الأوجه القرآنية المتصلة بالحضرة الأفصحية عليه الصلاة والسلام

الحمد لله رب العالمين وبه نستعين، وصلوات ربنا وسلامه على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه والتابعين

وبعد؛

فمن سابغ المنّة الربانية وعُظْم المنحة الإلهية، أن أَودع ربُّنا سبحانه سِرَّ الكون وهذا الوجود والغايةَ من الخلق وشاكلة إمداده في هذا المتلو المجيد المنزل، المؤدّى على أتم طبقات الأداء وأسنى أنماط الإبلاغ والبيان وما إليه، ثم منَّ عز وجل فابتعث نبي الحكمة والبيّنة وأنفذ رسول التبصـرة والتذكرة ليبيّن للخلق ما نزل إليهم لعلهم يهتدون، وبيان ذلك وتصويره أن الله سبحانه ألهم دواعي البشر ممن اغرورق قلبه بالتصديق والإيمان وامتلأ باطنه بالعزم والإيقان والانقياذ لأحكام الله وما جاءت به الأنبياء والرسل، فتلقّوا الشرائع والأحكام التلقي الأمثل الأحسن بشرطه ووفق ما ينبغي لقدْره ومقامه فترجموا كل ذلك في العناية الفائقة بالكتاب العزيز (حفظا وتدبرا وتنزيلا …)، فلأجل ذلك تعددت صور عناية المسلمين – عبر القرون – بالقرآن الكريم وتحرير نصه، وتواترت ملامح الرعاية التامّة لأحوال نقلته ومسنديه، ورعْي منازلهم ونقد سيرهم …، منذ تنزلاته القديمة في امتداد أُفق إلى زمننا الآن، ثم هذه الرعاية الوافية قد شَمَل نسْج نظامها متقلِّب أَفْنان هذا القرآن الأدائية (رواية ودراية)، وكَنَفَتْ أثوابها مُتشعِّب أنحائه القرائية تأكيدا لصادق الوعد الإلهي المنجز: (إِنّا نَحْنُ نَزَّلْنا الذِّكْرَ وَإِنّا لَهُ لَحَفِظُونَ) [الحجر/09]، إذ تجرَّد لحفْظ نصِّه وجمْع  حروفه وإظهار شديد الحفاوة بسائر رسومه ولحونه أئمةٌ نقاد خُلَّص من أماجد الصَّحْب والتابعين، على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن تلاهم من الحفاظ القُراء الجُدارء، ممَّن رجَّعت نعوتَهم وشمائلَهم دواوين الطبقات والتراجم وتاريخ القرآن وفنونه، على تعاقب الأزمنة وتنائي الأعصـر والأمكنة، وذلك احتفاءً بسببيّته ومرجعيَّته ورعْياً لقدره ومنزلته (كلام الله عزو جل) وما إليه، فلم تَغْشَ هؤلاء الأئمةَ النقاد  سُدَفُ الغلط أو حُجُب الغفلة أو طوارق الريبة في كَتْبه أو ضبطه أو أدائه أو أَرَقّ من ذلك من ذرائع التَّبيُّن والتَّحرّي والضمان وما شابه، حتى نقلوه إلينا صريحاً رَيِّقاً غَضّاً، كما لم تُصبْهم غَباوةٌ أو ذهولٌ عَن الذي يحقق وثاقة نصِّه أو يُفضـي لاقتناص المُراد من وحيه وتنزيله وتأويله؛ إلا أثاروا مكامنه وقيّدوا مُهمله واستدْعَوا شارده ولملموا فارده، بل حَمَلوا الناس على اقتفاءِ حرْفه ومحاذاةِ قُذَّةَ أَثره، مع ترْك مُشاققة إجماعه أومخالفة ائتلافاته وما إليه …

وعليه؛ فترجيع الحديث بعون الله إلى الأنماط الأدائية الحتمية، والظواهرِ اللهجية الفطرية المودعةِ في أسانيد أئمة القراء، المحكمةِ صورُها بإجماع الأمة وبما ثبت ووافق المصاحف العثمانية، من قَبيل تحقيق الهمز أو تغييره، وإتمام الحركات أو رَوْمها وإشمامها، وتسكين بنية الكلم أو تحريكها وتكسيرها وما إلى كل ذلك، مما تتميّز به حقيقة القرآن كلام الله جل وعلا عن هذا النمط الأدائي الصحيح المنقول المنبعث من مشكاة الأحرف السبعة، ثم لْنطو الكلام ولْنختصره فنقول بأنه مهما قيل في اعتبار القرآن والقراءات وما بينهما من التوافق أوالتغاير (مأخذا وتعددا)؛ فإنَّ كلام الله تعالى واحد بالذات لا يتعدد، وإنما شرَّف الله القرآن على سائر الكتب المنزلة بكثرة الأحكام واتساع اللغات، [الجعبري 1/60]، ففي الاختلاف توسعة ويسـر ورحمة على الخلق، وعليه؛ فإن مَكْمَن هذه الصِّلة مستقر في كون القرآن وَحْياً منزّلا على النبي صلى الله عليه وسلم على جهة التواتر المفيد للعلم المزيل للعذر القاطع له، والقراءات الصحيحة المعتبرة المتلقاة بالقبول جزءٌ غير منفكّ عن هذا القرآن العظيم، المبلَّغ بالأداء النبوي الأفصحي الأمين صلى الله عليه وسلم، فلا غباوة بعد هذا من استواء القرآن المتلو حروفا وهيئات متبادلات – في غير تضاد أو تعارض – وانتصابها أوضاعا وأحوالاً متساويات، هي أجزاء نظمه وصور معانيه المفهومة المستفادة عن طرائق ألفاظه المسموعة المعتبرة، إذْ كلّها (شاف) لصدور المؤمنين لاتفاقها في المعنى، وكونها من عند الله وتنزيله ووَحْيه، (كاف) في الحجة على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم لإعجاز نظمه وعجز الخلائق عن الإتيان بمثله، كما حكاه البغوي (ت‍ 516 ه‍) وغيره … ، وذلك لمّا كان القصد منها (طرائق اللفظ)؛ الدلالة على الكلام الذي أنزل الله عز وجل للإعجاز بسورة منه، وخيّر الله الأمة أن يقرؤوا بما شاءوا من تلك الطرق والأوضاع، إذْ كلها متساو في الدلالة على الكلام المعجز على جهة التظاهر والتناصر (أصلا ووصفا)، فنقلها الصحابة عن الرسول صلى الله عليه وسلم مشافهة ومعارضة، كل واحد منهم نقل عنه ما لقِنه منها، ولم يلقّنها الرسول صلى الله عليه وسلم بجملتها لكل واحد من الصحابة، والواقع المعلوم يدل على صحة ما ذكر، لأن الله تعالى جعلها طرائق متعددة ولحونا متوفّرة، توسعة على الأمة من الله سبحانه ورحمة منه لهم، فحفظ كل واحد من الصحابة الوجه الذي لقنه الرسول عليه الصلاة والسلام، فصار ينسب إليه بلفظ الحرف، فيقال حرف ابنِ مسعود وحرف أُبيّ وحرف زيدِ بن ثابت … ولم يُشْعِر النبيُّ صلى الله عليه وسلم أصحابه بهذه التوسعة التي تنزَّلت من عند الله، أو حَمَلهم على استيعاب أوجه التلاوة أو ما شابه، لولا وقوع الاختلاف والاِنْبراء لحسْم مادّته، فترافع المختلفون من الصحب الكرام إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقام بينهم بما يلزم وأَوْحى لكل منهم أن يتلوَ بما سمع وعلى الوجه الذي لَقِن فقال: (اقرأْ؛ فقرأَ، فقال له: أصبْت) [مسائل القيجاطي (مسألة … الفرق بين القرآن والقراءات)]

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبع

Science

د.مولاي مصطفى بوهلال

    • باحث بمركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق