مركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة العطرةدراسات عامة

السماع والقراءة بين المساواة والأفضلية عند المحدثين

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على سيدنا  محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين

إن طرق أخذ الحديث، وأصول الرواية والتحمل عن الشيخ بالسند إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على أنواع كثيرة، ويجمعها ثمانية ضروب، وكل ضرب منها له فروع وأقسام، ومنها ما يتفق عليه في الرواية والعمل، ومنها ما يختلف فيها جميعا، أو في أحدها: فأولها: السماع، وثانيها: القراءة، وثالثها: المناولة، ورابعها: المكاتبة، وخامسها: الإجازة، وسادسها: الإعلام، وسابعها: الوصية، وثامنها: الوجادة.

سأتناول في هذا المقال الضربين الأولين، ألا وهما: السماع والقراءة، من خلال: حدهما، وأقسامهما، وصيغهما، والمساواة، والمفاضلة بينهما عند المحدثين.

أولا: حدُّ السماع والقراءة، وأقسامهما، وصيغ أدائهما:

أ)حدُّ السماع، وأقسامه، وصيغ أدائه:

1- حدُّه: هو: إملاء، أو تحديث الشيخ من حفظه، أو القراءة من كتابه، والتلاميذ يسمعون، وقد حدد أهل الصنعة في سماع التلميذ أن لا يقل سنه عن خمس سنين[1].

2- أقسامه: وهو على ضربين: أولهما: الإملاء، وثانيهما: التحديث.

أ) فأما الضرب الأول: الإملاء: فهو: أن يلقي المحـدث حـديـثـاً على أصحابه، فيتكلم فيه مبلغ علمه إسنادا ومتنا، وبعد أن يفرغ من إملائه يقابل ما أملاه، لإصلاح ما يمكن أن يقع فيه من الخطأ[2].

ب) وأما الضرب الثاني: التحديث: فهو: سرد الحديث متتابعا، ويمكن أن يكون من حفظ الشيخ، أو من كتابه، وهو غير الإملاء، وهذا الأخير أعلى من التحديث[3].

3- صيغ الأداء: هو: أن يقول السامع من الشيخ: “حدثنا”، أو “أخبرنا”، أو “أنبأنا”، أو “سمعت فلانا يقول”، أو “قال لنا فلان”، أو “ذكر لنا فلان”[4].

ب) حدُّ القراءة، وأقسماها، وصيغ أدائها:

1- حدُّها: هي أن يقرأ القارئ أو غيره، وهو يسمع، أو يقرأ في كتاب، أو من حفظ، أو كان الشيخ يحفظ ما يقرأ عليه، أو يمسك أصله، ولا خلاف أنها رواية صحيحة[5].

2- أقسامها: القراءة على ثلاثة أضرب: أولها: قراءة الطالب على العالم، وثانيها: قراءة العالم على الطالب، وثالثها: أن يدفع العالم إلى الطالب كتابا قد عرفه فيقول: “اروه عني”، وأكثر المحدثين يسمونه عرضا؛ لأن القارئ يعرض ما يقرؤه على الشيخ، كما يعرض القرآن على إمامه[6]، إلا أن هناك من العلماء من غاير بين القراءة والعرض بالعطف، لما بينهما من العموم والخصوص؛ لأن الطالب إذا قرأ كان أعم من العرض وغيره، ولا يقع العرض إلا بالقراءة؛ لأن العرض عبارة عما يعارض به الطالب أصل شيخه معه، أو مع غيره بحضرته، فهو أخص من القراءة، وتوسع فيه بعضهم فأطلقه على ما إذا أحضر الأصل لشيخه، فنظر فيه، وعرف صحته، وأذن له أن يرويه عنه من غير أن يحدثه به، أو يقرأه الطالب عليه، والحق أن هذا يسمى: عرض المناولة بالتقييد لا الإطلاق، وقد كان بعض السلف لا يعتدون إلا بما سمعوه من ألفاظ المشايخ دون ما يقرأ عليهم[7].

3- صيغ الأداء: القراءة: عند من قال: إنها كالسماع، فيجوز فيها النقل بصيغ أداء السماع كما تقدم، ومن قال بخلاف ذلك، فهو أن يقول القارئ: “قرأتُ على فلان”، أو “قُرئ على فلان، وأنا أسمع”[8]، أو تقييد عبارات السماع بالقراءة لا مطلقة كأن يقول: “حدثنا بقراءتي”، أو قراءة عليه، وأنا أسمع”، أو “أخبرنا بقراءتي”[9].

ثانيا: السماع والقراءة بين المساواة والمفاضلة:

اختلف العلماء في مساواة القراءة للسماع من لفظ الشيخ، ورجحانه عليها، ورجحانها عليه، فحكي الأول: عن مالك، وأصحابه، وأشياخه، ومعظم علماء الحجاز، والكوفة، والبخاري، وغيرهم، والثاني: عن جمهور أهل المشرق، والثالث: عن أبي حنيفة، وابن أبي ذئب، وغيرهما ورواية عن مالك[10]، وبسط الكلام في الموضوع ابن الملقن في: المقنع[11]، ومحل الخلاف ما إذا قرأ الشيخ في كتابه؛ لأنه قد يسهو، فلا فرق بينه وبين القراءة عليه، أما إذا قرأ الشيخ من حفظه فهو أعلى بالاتفاق[12].

1-المساواة بين السماع والقراءة:

قال الإمام مالك (المتوفى سنة: 179هـ) “القراءة والسماع سواء”[13]، وقال: ” قراءتك على العالم، وقراءة العالم عليك: واحد -أو قال: سواء-“[14].

وقال الحافظ الترمذي (المتوفى سنة: 279هـ): “القراءة على العالم إذا كان يحفظ ما يقرأ عليه، أو يمسك أصله فيما يقرأ عليه إذا لم يحفظ، هو صحيح عند أهل الحديث، مثل السماع”[15].

وعقد الخطيب البغدادي (المتوفى عام: 463هـ) بابا: ذكر فيه الروايات عمن قال: إن القراءة على المحدث بمنزلة السماع منه[16].

وقال العلامة ابن الملقن (المتوفى سنة: 804هـ): “رُوي عن مالك وغيره أنهما سواء، وقيل: إنه مذهب معظم علماء الحجاز والكوفة، ومذهب مالك وأشياخه من علماء المدينة، ومذهب البخاري وغيرهم، قلت: وحكاه الصيرفي في: دلائله عن الشافعي”[17].

2- أفضلية السماع على القراءة:

قال الحافظ الرامهرمزي (المتوفى سنة: 360هـ) فيما نقله بسنده عن أبي عاصم قال: “سمعت سفيان، وأبا حنيفة، ومالكا، وابن جريج، كل هؤلاء سمعتهم يقولون: لا بأس بها يعني: القراءة، وأنا لا أراه، وما حدثت بحديث عن أحد من الفقهاء قراءة”[18].

وقد عقد الخطيب البغدادي بابا: ذكر فيه الرواية عمن كان يختار السماع من لفظ المحدث على القراءة عليه[19].

وقال الحافظ ابن الصلاح (المتوفى سنة: 643هـ): “الصحيح: ترجيح السماع من لفظ الشيخ والحكم بأن القراءة عليه مرتبة ثانية، وقد قيل : إن هذا مذهب جمهور أهل المشرق والله أعلم”[20].

وقال الحافظ ابن حجر (المتوفى سنة: 852هـ): “المشهور الذي عليه الجمهور: أن السماع من لفظ الشيخ أرفع رتبة من القراءة عليه، ما لم يعرض عارض يصير القراءة عليه أولى، ومن ثم كان السماع من لفظه في الإملاء أرفع الدرجات، لما يلزم منه من تحرز الشيخ والطالب”[21].

3- أفضلية القراءة على السماع:

وقد عقد الخطيب البغدادي بابا: ذكر فيه الرواية عمن كان يختار القراءة على المحدث على السماع من لفظه[22].

وقال العلامة ابن الملقن: “عن أبي حنيفة، وابن أبي ذئب وغيرها، ورواية عن مالك: ترجيح القراءة على الشيخ على السماع من لفظه”[23].

صفوة القول: إن القراءة والسماع سواء، كما ذهب إليه إمامنا مالك، ومن جاء بعده ممن قال بذلك، شريطة الضبط والحفظ أثناء القراءة على العالم، إذا كان يحفظ ما يقرأ عليه، أو يمسك أصله فيما يقرأ عليه إذا لم يحفظ.

********************

هوامش المقال:

[1] ) الإلماع إلى معرفة أصول الرواية وتقييد السماع لعياض ص: 62.

[2] ) معجم المصطلحات الحديثية ص: 164.

[3] ) معجم المصطلحات الحديثية ص: 402.

[4] ) الإلماع إلى معرفة أصول الرواية وتقييد السماع ص: 69.

[5] ) الإلماع إلى معرفة أصول الرواية وتقييد السماع ص: 69.

[6] ) الإلماع إلى معرفة أصول الرواية وتقييد السماع ص: 71-74.

[7] ) فتح الباري بشرح صحيح البخاري لابن حجر 1/137.

[8] ) مقدمة ابن الصلاح ص: 138.

[9] ) تدريب الراوي للسيوطي  1 /429.

[10] ) التقريب والتيسير لمعرفة سنن البشير النذير للنووي ص: 55.

[11] ) المقنع في علوم الحديث 1 /292_313.

[12] ) تدريب الراوي للسيوطي 1 /428-429 نقلا عن صاحب البديع.

[13] ) الموطأ رواية: يحيى الليثي 1 /63.

[14] ) حديث الزهري ص: 225.

[15] ) العلل (ضمن السنن) 5/ 751.

[16] ) الكفاية في علم الرواية 2 /170_189.

[17] ) المقنع في علوم الحديث 1 /298.

[18] ) المحدث الفاصل بين الراوي والواعي ص: 420.

[19] ) الكفاية في علم الرواية 2 /190_194.

[20] ) معرفة أنواع علوم الحديث ص: 138.

[21] ) فتح الباري بشرح صحيح البخاري لابن حجر 1/ 138.

[22] ) الكفاية في علم الرواية 2/ 195_207.

[23] ) المقنع في علوم الحديث 1 /298.

****************************

جريدة المراجع

الإلماع إلى معرفة أصول الرواية وتقييد السماع لعياض بن موسى بن عياض اليحصبي السبتي، تحقيق: السيد أحمد صقر، دار التراث، القاهرة- مصر، المكتبة العتيقة، تونس، 1389 /1970.

تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي لعبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي، تحقيق: نظر محمد الفاريابي، دار طيبة، الرياض- السعودية، الطبعة الثامنة: 1427.

التقريب والتيسير لمعرفة سنن البشير النذير ليحيى بن شرف النووي، تحقيق: محمد عثمان الخشت، دار الكتاب العربي، بيروت، الطبعة الأولى: 1405/ 1985.

حديث عبيد الله بن عبد الرحمن بن محمد الزهري، تحقيق: حسن بن محمد بن علي شبالة البلوط، أضواء السلف، الرياض- السعودية، الطبعة الأولى: 1418 /1998.

العلل (ضمن الجامع الصحيح= السنن) لمحمد بن عيسى بن سَوْرة الترمذي، تحقيق ج5: إبراهيم عطوه عوض، مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده، مصر، الطبعة الثانية: 1395/ 1975.

فتح الباري بشرح صحيح البخاري لأحمد بن علي ابن حجر العسقلاني، المطبعة الكبرى الأميرية، بولاق- مصر، الطبعة الأولى: 1300.

الكفاية في علم الرواية لأحمد بن علي بن ثابت أبو بكر الخطيب البغدادي، تحقيق: إبراهيم بن مصطفى آل بحج الدمياطي، دار الهدى، مصر، الطبعة الأولى: 1423/ 2003.

المحدث الفاصل بين الراوي والواعي للحسن بن عبد الرحمن بن خلاد الرامهرمزي، تحقيق: محمد عجاج الخطيب، دار الفكر، بيروت- لبنان، الطبعة الثالثة: 1404.

معجم المصطلحات الحديثية لسيد عبد الماجد الغوري، دار ابن كثير، دمشق- سوريا، بيروت- لبنان، الطبعة الأولى: 1428 /2007.

معرفة أنواع علوم الحديث لعثمان بن عبد الرحمن ابن الصلاح، تحقيق: نور الدين عتر، دار الفكر، دمشق- سوريا، بيروت- لبنان، 1406/ 1986.

المقنع في علوم الحديث لعمر بن علي بن أحمد ابن الملقن المصري، تحقيق: عبد الله بن يوسف الجديع، دار فواز- السعودية، الطبعة الأولى: 1413.

الموطأ لمالك بن أنس بن مالك بن عامر الأصبحي المدني، تحقيق: محمد مصطفى الأعظمي، منشورات مؤسسة زايد بن سلطان آل نهيان للأعمال الخيرية والإنسانية، أبو ظبي- الإمارات، الطبعة الأولى: 1425 /2004.

*راجع المقال الباحث: محمد إليولو

Science

يوسف أزهار

  • باحث بمركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسير ة النبوية العطرة بالعرائش، التابع للرابطة المحمدية للعلماء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق