مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةدراسات عامة

بداية الدعوة المحمدية ملامح أخلاقية ودعوية

     إن دراسة بداية الدعوة الإسلامية في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، لابد وأن نستحضر أولا وقبل كل شيء الآيات القرآنية الأولى المصاحبة لهذه الفترة الحساسة، فهي تتضمن زبدة الدين وروحه، ومن لم يفهم البدايات يصعب عليه الوصول للنهايات، من أجل ذلك سنركز على دراسة هذه الآيات لمعرفة أسرار الدعوة المحمدية الخاتمة.

     سبق وأن تحدثنا عن أول ما نزل من الوحي وأهميته، ففي السيرة النبوية كل شيء مرتبط مع بعضه البعض، في وحدة منسجمة ومتكاملة، وفي هذا المقال سنتحدث عن الآيات القرآنية التي نزلت تباعا على الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، وفيها أمر بالدعوة والتبليغ، وهي من الآيات الأولى في الوحي لما لها من أهمية في التوجيه والإرشاد الأخلاقي والروحي والبعد التوحيدي الذي هو أساس هذه الفترة أي الفترة المكية من دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، فهي كلها أصول وركائز أساسية، وكما يقول الصوفية إنما حرموا الوصول لتضييعهم الأصول، فعلى الراغب في العيش مع سيرة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم لابد له أن يغترف من معين اللقاء الأول مع الحضرة ففيه سر الحضور والسير في طريق الكمال المحمدي.

يقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلَا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7)) [المدثر/1-7] 

ويقول عز من قائل: (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِّصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5) ) [المزمل1-5]

     أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بالدعوة ونشر كلمة الله للناس وهدايتهم للتوحيد، ورجع ليؤكد على أهمية الذكر، أي ذكر الله تعالى وتعظيمه وتنزيهه، وقراءة القرآن قراءة ترتيل وتدبر، قال ابن عجيبة رحمه الله: “والمقصود من الترتيل: تدبر المعاني، وإجالة الفكر في أسرار القرآن”، [1]كما أمر الله تعالى بتطهير نفس وقلب الإنسان من الآثام والشرور وكل الأمراض القلبية التي هي صنم القلوب، قال ابن عباس وقتادة وسعيد بن جُبير في تفسير قوله تعالى: (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ) “معناه وقلبك فطهر من الإثم والمعاصي”، [2] وقال ابن عباس رضي الله عنهما: تأويل الآية: ونفسك فطهر، أي من الذنوب، والعرب تكني عن النفس بالثياب”، [3] ففي هذه الآيات تقديم تزكية النفس وتطهيرها حتى يكون الداعي إلى الله  متحققا بالأوصاف الحسنة والأخلاق المرضية، حتى يكون مؤهلا لدعوة الغير إلى هذه الدعوة المباركة: دعوة التوحيد والأخلاق الفاضلة، وقيل معنى: (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ) تطهير الثياب من النجاسات، قاله محمد بن سيرين وابن زيد والفقهاء، [4] حتى تؤدى العبادة على أكمل وجه، وأحسن صورة.

     وهذا الخطاب وإن كان موجها للنبي صلى الله عليه وسلم، فإنه متوجه بالأساس “لخليفته في كل زمان، وهو من وجهه الله لتذكير العباد، ليحيى به الدين في أول كل عصر”، [5] مصداقا لقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها). [6]

    ومن المعاني المستخلصة من الدعوة إلى الإسلام، أهمية فقه الأولويات وذلك من خلال أسلوب دعوته صلى الله عليه وسلم، بحيث بدأ في دعوة أقرب المقربين منه، ممن يتشوف فيه صلاحيته للاستجابة للدعوة المباركة، وعدم نشر الدعوة الإسلامية بشكل عام في المرحلة الأولى، فالداعي إلى الله لابد له من ترتيب الأولويات في الزمان والمكان وكذا الأشخاص، حتى يتمكن من الأخذ بأسباب النجاح، لذلك نجد النبي صلى الله عليه وسلم اختار الليل للاجتماع مع أصحابه للإرشاد والتعليم والتزكية والعبادة في شعاب مكة أولا، ثم لما بلغ عدد من دخلوا الإسلام الثلاثين اختار لهم دار الأرقم بن أبي الأرقم، ولا أحد يشك أن في هذا الأسلوب “تعليما للدعاة من بعده، وإرشادا لهم إلى مشروعية الأخذ بالحيطة والأسباب الظاهرة، وما يقرره التفكير والعقل السليم من الوسائل التي ينبغي أن تتخذ من أجل الوصول إلى غايات الدعوة وأهدافها. على أن لا يتغلب كل ذلك على الاعتماد والاتكال على الله وحده، وعلى أن لا يذهب الإنسان في التمسك بهذه الأسباب مذهبا يعطيها معنى التأثير والفعالية في تصوره وتفكيره، فهذا يخدش أصل الإيمان بالله تعالى، فضلا عن أنه يتنافى مع طبيعة الدعوة إلى الإسلام”. [7]

     كما نستفيد من حدث الدعوة إلى الإسلام أن تصرفات النبي صلى الله عليه وسلم متعددة، فمن المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم يتصرف بمجموعة من التصرفات أوالمهام أو الوظائف، ويقصد بالتصرفات النبوية: أن النبي صلى الله عليه وسلم يتصرف في بعض الأحكام باعتباره إماما أو حاكماً للناس ورئيساً عليهم، ويتصرف في بعض القضايا باعتباره قاضياً، يفصل بين خصوماتهم، ويتصرف باعتباره مشرعاً يبلغ أحكام دينهم، أو مفتياً يبين لهم ما يحتاجون من دينهم، أو مزكيا، يصلح قلوبهم وأحوالهم، فالنبي صلى الله عليه وسلم يجمع بين هذه التصرفات والمهام: كونه إماماً وقاضياً ومبلغاً ومفتياً ومزكيا، وينتج عن عدم معرفة التمييز بين هذه التصرفات إلى الالتباس والغلط في فهم الأحكام الشرعية ومقاصدها، من هنا نفهم “أن أسلوب دعوته عليه الصلاة والسلام، في هذه الفترة، كان من قبيل السياسة الشرعية بوصف كونه إماما، وليس من أعماله التبليغية عن الله تعالى بوصف كونه نبيا”، [8] وتكمن ثمرة هذه المسألة في حالة إذا ما كان المسلمون يعيشون في بيئة تستوجب الحيطة والحذر والخشية على النفس، فيقدم حفظ النفس على حفظ الدين، فقد تعايش النبي صلى الله عليه وسلم مع قريش بحكمة وأخلاق حسنة، على الرغم ما هم عليه من الفساد والضلال حتى اظهر الله أمر دينه، فكانت الغلبة للخير والإحسان.

     كما هو معلوم أن من الأوائل الذين دخلوا إلى الإسلام هم من المستضعفين، ممن لا حول لهم ولا قوة، وكذلك كانت الرسل من قبل، لا يدخل دعوتهم في البدايات إلا المستضعفين، وكان كبراؤهم وذوي الشأن من قومهم يعييرونهم بهذا، منهم سيدنا نوح عليه السلام، قال قومه مما حكى القرآن: (فَقَالَ ٱلْمَلَأُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِۦ مَا نَرَىٰكَ إِلَّا بَشَرًا مِّثْلَنَا وَمَا نَرَىٰكَ ٱتَّبَعَكَ إِلَّا ٱلَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِىَ ٱلرَّأْىِ وَمَا نَرَىٰ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَٰذِبِينَ) [هود/27]، وكذلك الشأن مع قوم سيدنا موسى عليه السلام، قال تعالى: (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا ۖ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَىٰ عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا) [الأعراف/137] وقال تعالى: (وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ) [القصص/5]

     ومما يؤخذ من هذه المسألة: فقه الاستضعاف، والضعف في اللغة خلاف القوة، [9] أي العجز والذل والهوان، وفقه الاستضعاف في الاصطلاح يعني: معرفة الأحكام الشرعية المتعلقة بالمكلف وقت الضعف، والضعف إما مادي أو معنوي، فالمادي حينما يكون المسلمون في حالة ضعف حضاري وثقافي وعلمي وعسكري… قد تكون هذه العناصر مجتمعة فيكون المسلمون في حالة ضعف شديد متحكم في مصيرهم، وقد يتطرق الضعف في بعض الجوانب، وفي كل حالة تعالج المسألة حسب الخصاص الذي يعاني منه المسلمون، لكن أشد أنواع الضعف هو الضعف المعنوي وهو على ضربين، الضرب الأول: ضعف روحي سلبي غير محمود بحيث يعيش المسلم في فراغ روحي، وإفلاس أخلاقي، الضرب الثاني: ضعف إيجابي، وهو حقيقة المعرفة، أي أن تعرف نفسك بالضعف والذل والهوان، وأنك لا حول لك ولا قوة، ولا يمكن أن يحصل

   الانسان هذا المقام إلا بعد معرفة حقيقة نفسه، قال الامام النووي: “من عرف نفسه بالضعف والافتقار إلى الله تعالى، والعبودية له، عرف ربه بالقوة، والقهر، والربوبية، والكمال المطلق، والصفات العليا”.[10]

1 2الصفحة التالية
Science

د.مصطفى بوزغيبة

باحث بمركز الإمام الجنيد التابع للرابطة المحمدية للعلماء

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق