مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةدراسات عامة

باب من الاختصاص يجري مجرى النداء

هذا ضرب من الكلام يُقصد به الاختصاصُ، ولكنه يَرِدُ على هيئة النداء من غير أن يُراد به التنبيهُ أو الإخبار الذي من شأن النداء. قال سيبويه  في الكتاب  2/231-232: 

«هذا باب ما جرى على حرف النداء وصفاً له وليس بمنادى ينبّهه غيره، ولكنه اختُصّ كما أن المنادى مختصّ من بين أمته، لأمرك ونهيك أو خبرك. […] وذلك قولُك: أما أنا فأفعل كذا وكذا أيها الرجلُ، ونفعل نحن كذا وكذا أيها القومُ، وعلى المُضارب الوضيعةُ أيها البائعُ، واللهم اغفِر لنا أيتُها العصابةُ، وأردت أن تختصّ ولا تُبهم حين قلت: أيتها العصابةُ وأيها الرجل، أراد أن يؤكد لأنه قد اختَصّ حين قال أنا، ولكنه أكد كما تقول للذي هو مقبلٌ عليك بوجهه مستمعٌ منصِتٌ لك: كذا كان الأمرُ يا أبا فلان، توكيداً. ولا تُدخل يا ها هنا لأنك لست تنبّه غيرك. يعني: اللهمّ اغفر لنا أيتها العصابةُ» اهـ.

قلت: إنما يعنون بذلك أنفسَهم، فالرجل والقوم والبائع والعصابة، كل أولئك يعني ويختص به المتكلمُ نفسَه دون سائر الناس، كأنه قال: أنا ونحن. وهذا موضع تكلم في الزمخشري أيضا في المُفَصَّل، قال في الصفحة 45: «وفي كلامهم ما هو على طريقة النداء ويُقصد به الاختصاصُ لا النداءُ، وذلك قولُهم: أما أنا فأفعل كذا أيها الرجلُ، ونحن نفعل كذا أيها القومُ، واللهم اغفر لنا أيتها العصابةُ. جعلوا أيًّا مع صفته دليلاً على الاختصاص والتوضيح، ولم يعنوا بالرجل والقوم والعصابة إلا أنفسهم وما كنوا عنه بأنا ونحن والضمير في لنا. كأنه قيل: أما أنا فأفعل كذا متخصصاً بذلك من بين الرجال، ونحن نفعل متخصصين من بين الأقوام، واغفر لنا مخصوصين من العصائب» اهـ.

وقد مثّلوا له بأمثلة من كلا م العرب لا يُعرف لها قائل، وإنما هي مما جرى على ألسنتهم فحفظته عنهم الرواة. وقد ورد مثل ذلك في كلام الصحابة الكرام، وهم أهل الفصاحة المقدَّمون في ذلك، ومنه قول كعب بن مالك الأنصاري شاعرِ رسول الله ﷺ في قصة توبته لمّا تخلّف عن غزوة تبوك، والحديث أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب المغازي برقم 4418، وفيه: «ونهى رسولُ الله ﷺ المسلمين عن كلامِنا أيها الثلاثةُ من بين مَن تخلّف عنه».

والشاهدُ فيه قولُه: أيها الثلاثةُ، على أنه يعني مَن تخلف عن الغزوة، وهم ثلاثة: كعبُ بن مالك ومُرارة بنُ الربيع وهلالُ بنُ أميةَ الواقفي. فدل قوله على أنه يعني بالثلاثة أنفسَهم، وأنه اختَص ولم يُنادِ.

أما إعرابُ الكلام، فالوجه فيه ما قاله بدر الدين العيني في عمدة القاري 18/53 وابنُ حجر في فتح الباري 8/120 عند شرحهما لحديث كعب: «قوله: أيها الثلاثةُ، بالرفع، وهو في موضع نصب على الاختصاص، أي متخصصين بذلك دون بقية الناس».

قلت: أما الرفع، فلأنه على هيئة النداء، وأما النصب، فلأنه أُريدَ به الاختصاصُ لا النداءُ. كذا تخريجُ الإعراب فيه.

وتحت هذا مسألة، وهي أن الاختصاص ههنا ورد في آخر الكلام لا في أوله كما هو الشأن فيما هو قريب منه، وذلك بابٌ من الاختصاص يجري على ما جرى عليه النداء، وهو باب عقده سيبويه في كتابه بعد الباب الذي تقدم معك لقرب ما بينهما، قال: «وذلك قولك: إنا معشرَ العرب نفعل كذا وكذا، كأنه قال: أعني، ولكنه فعلٌ لا يظهر ولا يُستعمل كما لم يكن ذلك في النداء؛ لأنهم اكتفوا بعلم المخاطَب، وأنهم لا يريدون أن يحملوا الكلام على أوله، ولكنّ ما بعده محمول على أوله. وذلك نحو قوله، وهو عمرو بن الأهتَم:

إنّا بَنِي مِنقَرٍ قَوْمٌ ذَوُو حَسَبٍ … فِينَا سَرَاةُ بَنِي سَعْدٍ وَنَادِيهَا» اهـ. 

فأنت ترى أن الاختصاص هنا ورد في آخر الكلام، وهو كثيرُ الاستعمال على ألسنة الناس اليوم، فلا تكاد تجد مَن يستعمل الأول منهما، ولو أنه استُعمل لأشكل وأوهم النداء، وإنما ألحقوا باب الاختصاص بباب النداء لأن العامل فيهما معا واحدٌ، وهو فعل واجب الحذف، تقديره عند الاختصاص “أخُصّ”، وعند النداء “أُنادي”.

والله أعلم، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق