مركز عقبة بن نافع للدراسات والأبحاث حول الصحابة والتابعينغير مصنف

أسامة بن زيد، رضي الله عنهما، الحِبُّ بن الحب، والقائد الشاب

 

 

 

إعداد وتقديم: ذ/ نافع الخياطي

كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في السنة السابعة قبل الهجرة في مَكَّةَ يُكَابِدُ مِنْ أَذَى قريش له ولأصحابه ما يُكَابِدُ([1])، وَيَحْمِلُ مِنْ هُمُومِ الدَّعْوَةِ وَأَعْبَائِهَا مَا أَحَالَ حَيَاتَهُ إلى سِلْسِلَةٍ مُتَوَاصِلَةٍ مِنَ الأَحْزَانِ وَالنَّوَائِبِ([2]).

وفيما هو كذلك أَشْرَقَتْ في حَيَاتِهِ بَارِقَةُ سُرُورٍ؛ فلقد جاءه البشير يُبَشِّرُه أنَّ >أُمَّ أَيْمَن< وَضَعَتْ غُلاَماً، فَأَضَاءَتْ أَسَارِيرُهُ([3]) عليه الصلاةُ والسلام بِالفَرْحَةِ، وَأَشْرَقَ وَجْهُهُ الكريمُ بِالبَهْجَةِ.

فَمَنْ يكون هذا الغلام السَّعيد الذي أَدْخَلَ على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، كُلَّ هذا السُّرُورِ؟!.

إنه أسامة بن زيد.

وَلَمْ يَسْتَغْرِبْ أَحَدٌ مِنْ صحابة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بَهْجَتَهُ بِالْمَوْلُودِ الجَدِيدِ، وذلك لِمَوْضِعِ أَبَوَيْهِ مِنْهُ([4])، وَمَنْزِلَتِهِمَا عنده.

فأُمُّ الغلام هي: >بَرَكَةُ الحَبَشِيَّة< المُكَنَّاةُ بِأُمِّ أَيْمَنَ. وقد كانت مَمْلُوكَةً لآمِنَةَ بِنْتِ وَهْبٍ أُمِّ الرسول عليه الصَّلاة والسلام، فَرَبَّتْهُ في حياتها، وَحَضَنَتْهُ بعد وفاتها، فَفَتَحَ عَيْنَيْهِ عَلَى الدُّنيا؛ وَهُو لاَ يَعْرِفُ لِنَفْسِهِ أُمّاً غَيْرَهَا…فَأَحَبَّهَا أَعْمَقَ الحُبِّ وَأَصْدَقَهُ، وكثيراً ما كان يقولُ: هِيَ أُمِّي بَعْدَ أُمِّي، وَبَقِيَّةُ أَهْلِ بَيْتِي.

هذه أُمُّ الغُلاَمِ المحظوظ، أمَّا أبوه فهو >حِبُّ< رسول الله، صلى الله عليه وسلم، زيد بن حارثة، وابنه بالتَّبنِّي قَبْلَ الإسلام، وصاحبُه وَمَوْضِعُ سِرِّه، وأحدُ أَهْلِهِ، وأحبُّ الناس إليه بَعْدَ الإسلام.

وَقَدْ فَرِحَ المسلمون بِمَوْلِدِ أسامة بن زيد كما لَمْ يَفْرَحُوا بِمَوْلُودٍ سِوَاهُ؛ ذلك لِأَنَّ كُلَّ مَا يُفْرِحُ النبيَّ، صلى الله عليه وسلم، يُفْرِحُهُمْ، وَكُلَّ مَا يُدْخِلُ السُّرُورَ على قَلْبِهِ يَسُرُّهُم.

فَأَطْلَقُوا على الغُلَامِ المحظوظ لَقَبَ: >الحِبُّ وابنُ الحِبِّ<.

ولم يكن المسلمون مُبَالِغِينَ حين أَطْلَقُوا هذا اللَّقَبَ على الصَّبِيِّ الصَّغِيرِ أُسامة؛ فقد أَحَبَّهُ الرَّسول صلوات الله وسلامه عليه حُبّاً تَغْبِطُهُ عليه الدُّنيا كُلُّها؛ فقد كان أسامة مُقارِباً في السِّنِّ لِسِبْطِه([5]) الحَسَنِ بنِ فاطمة الزَّهْراء.

وكان الحَسَنُ أبيضَ، أَزْهَرَ، رائع الحُسْنِ، شديد الشَّبَهِ بِجَدِّهِ رسولِ الله، صلى الله عليه وسلم.

وكان أُسامةُ أَسْوَدَ البَشَرَةِ أَفْطَسَ الأَنْفِ شديد الشَّبَهِ بأُمِّهِ الحَبَشِيَّة.

لكن الرسول صلوات الله عليه، ما كان يُفَرِّقُ بينهما في الحُبِّ، فكان يأخذُ أُسامة فيَضَعُهُ على إحدى فخذيه، ويأخذ الحَسَن فيضعهُ على فخذه الأخرى، ثمَّ يَضُمُّهُمَا معاً إلى صدره ويقول: >اللهمَّ إنِّي أُحِبُّهُما فَأَحِبَّهُمَا<([6]).

وقد بلغ من حُبِّ الرسول، صلى الله عليه وسلم، لأُسامة أنَّه عَثَرَ ذات مرَّةٍ بِعَتَبَةِ الباب فَشُجَّتْ جَبْهَتُهُ، وسال الدَّمُ من جُرْحِهِ؛ فأشار النبيُّ، صلى الله عليه وسلم، لعائشة رضوان الله عليها أَنْ تُزِيلَ الدَّمَ عن جُرحِهِ، فَلَمْ تَطِبْ نفسُها لذلك.

فقام إليه النبي صلوات الله وسلامه عليه، وجعل يَمُصُّ شَجَّتَهُ، ويَمُجُّ الدَّم وهو يُطَيِّبُ خَاطِرَهُ بكلماتٍ تَفِيضُ عُذُوبةً وحناناً.

وكما أحبًّ الرسول صلوات الله عليه أُسامةَ في صِغَرِهِ؛ فقد أحبَّهُ في شبابه، فلقد أَهْدَى حَكِيمُ بنُ حِزَامٍ أَحَدُ سَرَاةِ([7]) قريش لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، حُلَّةً ثَمِينَةً شَرَاهَا من >اليَمَن< بخمسين ديناراً ذَهَباً كانت >لِذِي يَزَنٍ< أَحَدِ مُلُوكِهِمْ. فَأَبَى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أَنْ يَقْبَلَ هَدِيَّتَهُ؛ لأنَّهُ كان يومئذٍ مُشْرِكاً، وَأَخَذَهَا مِنْهُ بالثَّمَن…

وقد لَبِسَهَا النبيُّ الكريم، صلى الله عليه وسلم، مَرَّةً واحدةً في يوم جُمُعَةٍ، ثُمَّ خَلَعَهَا على أُسامة بن زيد، فكان يَرُوحُ بها ويَغْدُو بين أترابه من شُبَّانِ المهاجرين والأنصار.

وَلَمَّا بَلَغَ أُسَامَةُ بنُ زَيْدٍ أَشُدَّهُ([8])، بَدَا عليه مِنْ كَرِيمِ الشَّمَائِلِ وَجَلِيلِ الخَصَائِلِ ما يجعله جَدِيراً بِحُبِّ رسول الله، صلى الله عليه وسلم.

فقد كان ذكيّاً حادَّ الذَّكاء، شُجاعاً خارق الشَّجاعة، حكيماً يَضَعُ الأمور في مواضعها، عفيفاً يأْنَفُ الدَّنَايَا، آلفاً مألُوفاً يُحِبُّهُ النَّاس، تقيّاً وَرِعاً يُحِبُّهُ الله.

ففي يوم >أُحُدٍ< جاء أسامة بن زيد مع نفر من صِبْيَانِ الصَّحابة يُريدُون الجهاد في سبيل الله، فأخذ الرَّسُول، صلى الله عليه وسلم، منهم مَنْ أَخَذَ، وردَّ منهم مَنْ رَدَّ لِصِغَرِ أعمارهم، فكان في جُملة المَرْدُودِينَ أسامةُ بن زيد، فَتَوَلَّى([9]) وَعَيْنَاهُ الصَّغِيرَتَانِ تَفِيضَانِ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً ألاَّ يُجاهد تَحْتَ رَايَةِ رسول الله، صلى الله عليه وسلم.

وفي غزوة >الخَنْدَقِ<، جاء أسامة بن زيد أيضاً ومعه نفرٌ من فِتْيَانِ الصَّحَابَةِ، وَجَعَلَ يَشُدُّ قَامَتَهُ إلى أَعْلَى لِيُجِيزَهُ([10]) رسول الله، فَرَقَّ له النبيُّ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلام وَأَجَازَهُ، فَحَمَلَ السَّيْفَ جِهَاداً في سبيل الله وهو ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً.

وفي يوم >حُنَيْنٍ< حين انْهَزَمَ المُسلمون، ثَبَتَ أُسَامَةُ بن زيد مع العبَّاس عَمِّ النبي، صلى الله عليه وسلم، وأبي سفيان بن الحارث؛ ابنِ عَمِّهِ، وستَّةِ نفرٍ آخرين مِنْ كِرَامِ الصَّحابة، فاستطاع الرَّسول عليه الصلاة والسلام بهذه الفئة الصغيرة المؤمنة البَاسِلَةِ، أن يُحَوِّلَ هَزِيمَةَ أصحابه إلى نَصْرٍ، وَأَنْ يَحْمِيَ المُسلمين الفَارِّينَ مِنْ أَنْ يَفْتِكَ بِهِمُ المشركون.

وفي يوم >مُؤْتَةَ< جاهد أُسامة تَحْتَ لِوَاءِ أبيه زيد بن حارثة، وَسِنُّهُ دُونَ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ، فَرَأَى بِعَيْنَيْهِ مَصْرَعَ أبيه، فَلَمْ يَهِنْ([11]) ولم يَتَضَعْضَعْ، وإنما ظلَّ يُقاتل تَحْتَ لِوَاءِ جعفر بن أبي طالب حتى صُرع على مرأًى منه ومَشْهَدٍ، ثُمَّ تَحْتَ لِوَاءِ عَبْدِ الله بْنِ رَوَاحَةَ حَتَّى لَحِقَ بصاحِبَيْه، ثُمَّ تَحْتَ لِوَاءِ خَالِدٍ بْنِ الوَلِيدِ حَتَّى اسْتَنْقَذَ الجَيْشَ الصَّغيرَ مِنْ بَرَاثِنِ([12]) الرُّومِ.

ثُمَّ عاد أُسامة إلى المدينة مُحْتسباً أباه عند الله، تاركاً جَسَدَهُ الطَّاهر على تُخُومِ الشَّامِ، وَرَاكِباً جَوَادَهُ الذي اسْتُشْهِدَ عَلَيْهِ.

وفي السنة الحادية عَشْرَةَ لِلْهِجْرَةِ، أَمَرَ الرَّسُولُ الكريم، صلى الله عليه وسلم، بِتَجْهيز جَيْشٍ لِغَزْوِ الرُّومِ، وَجَعَلَ فِيهِ أبا بكر، وعُمر، وسعْد بنَ أبي وَقَّاصٍ، وأبا عُبَيْدَةَ بْنَ الجَرَّاحِ، وَغَيْرَهُمْ مِنْ جِلَّةِ الصَّحَابَةِ([13])، وَأَمَّرَ على الجَيْشِ أسامة بن زيد، وهو لم يُجَاوِزِ العِشْرِينَ بَعْدُ…وَأَمَرَهُ أَنْ يُوطِئَ الخَيْلَ تُخُومَ >البَلْقَاءِ<([14]) وَ>قَلْعَةَ الدَّارُومِ<([15])، القَرِيبَةِ مِنْ >غَزَّةَ< مِنْ بِلاَدِ الرُّومِ.

وفيما كان الجيش يَتَجَهَّزُ، مَرِضَ رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ولمَّا اشْتَدَّ عَلَيْهِ المَرَضُ، تَوَقَّفَ عَنِ المَسِيرِ انْتِظَاراً لِمَا تُسْفِرُ عَنْهُ حالُ رسول الله، صلى الله عليه وسلم.

قال أسامة: >ولمَّا ثَقُلَ عَلَى نبيِّ الله المَرَضُ، أَقْبَلْتُ عليه، وأقبل النَّاسُ معي، فَدَخَلْتُ عليه، فَوَجَدْتُهُ قَدْ صَمَتَ فَمَا يَتَكَلَّمُ مِنْ وَطْأَةِ الدَّاءِ([16])، فَجَعَلَ يَرْفَعُ يَدَهُ إلى السَّماء ثُمَّ يَضَعُهَا عَلَيَّ؛ فَعَرَفْتُ أَنَّهُ يَدْعُو لِي<.

ثُمَّ مَا لَبِثَ أَنْ فَارَقَ الرسول، صلى الله عليه وسلم، الحياةَ، وتمَّتِ البَيْعَةُ لأبي بكر، فَأَمَرَ بإِنْفَاذِ بَعْثِ أسامة.

لَكِنَّ فِئَةً مِنَ الأنصار رَأَتْ أنْ يُؤَخَّرَ البَعْثُ، وَطَلَبَتْ مِنْ عُمَرَ بنِ الخطَّاب أن يُكلِّمَ في ذلك أبا بَكْرٍ، وقالت له:

فَإِنْ أَبَى إلاَّ المُضِيَّ، فَأَبْلِغْهُ عنَّا أنْ يُوَلِّيَ أَمْرَنَا رجُلاً أَقْدَمَ سِنّاً من أُسامة.

وَمَا إِنْ سَمِعَ الصِّدِّيقُ مِنْ عُمَر رِسَالَةَ الأَنْصَارِ، حتَّى وَثَبَ لها- وكان جالساً- وَأَخَذَ بِلِحْيَةِ الفاروق، وقال مُغْضَباً:

ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ وعَدِمَتْكَ يابن الخطَّاب…اسْتَعْمَلَهُ([17]) رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وَتَأْمُرُنِي أَنْ أَنْزِعَهُ؟! والله لا يَكُونُ ذلك.

ولمَّا رجع عُمر إلى الناس، سألوه عمَّا صَنَعَ، فقال: امْضُوا ثَكِلَتْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ([18])، فَقَدْ لَقِيتُ ما لَقِيتُ في سَبِيلِكُمْ مِنْ خَلِيفَةِ رسول الله.

ولمَّا انْطَلَقَ الجيش بِقِيَادَةِ قائده الشَّاب، شَيَّعَهُ خليفة رسول الله ماشياً، وأسامةُ راكبٌ، فقال أسامة: يا خليفة رسول الله: والله لَتَرْكَبَنَّ أَوْ لَأَنْزِلَنَّ.

فقال أبو بكر: والله لاَ تَنْزِلُ، ووالله لاَ أَرْكَبُ…وَمَا عَلَيَّ أَنْ أُغَبِّرَ قَدَمَيَّ في سبيل الله ساعةً؟!…

ثُمَّ قال لأسامة: أَسْتَوْدِعُ اللهَ دِينَكَ وَأَمَانَتَكَ وَخَوَاتِيمَ عَمَلِكَ، وَأُوصِيكَ بِإِنْفَاذِ مَا أَمَرَكَ به رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ثمَّ مَالَ عليه وقال:

إِنْ رَأَيْتَ أَنْ تُعِينَنِي بِعُمَرَ فَائْذَنْ لَهُ بِالْبَقَاءِ مَعِي، فَأَذِنَ أُسَامَةُ لِعُمَرَ بِالْبَقَاءِ.

مَضَى أُسامة بنُ زيدٍ بالجيش، وأَنْفَذَ كُلَّ ما أَمَرَهُ به رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فَأَوْطَأَ خَيْلَ المُسلمين تُخُومَ >البَلْقَاءِ< وَ>قَلْعَةَ الدَّارُومِ< مِنْ أَرْضِ >فِلِسْطِينَ<، وَنَزَعَ هَيْبَةَ الرُّوم مِنْ قُلُوبِ المُسلمين، وَمَهَّدَ الطَّريق أَمَامَهُمْ لِفَتْحِ دِيار الشَّام، ومصر، والشَّمال الإِفْرِيقِيِّ كُلِّه حتى بَحْرِ الظُّلُمات…

ثمَّ عاد أسامة مُمْتَطِياً صَهْوَةَ([19]) الجَوَادِ الذي اسْتُشْهِدَ عليه أبُوه، حاملاً مِنَ الغنائم ما زاد عن تقدير المُقَدِّرِينَ، حتى قيل: >إنه مَا رُئِيَ جَيْشٌ أَسْلَمَ وأَغْنَمَ مِنْ جَيْشِ أُسامةَ بنِ زيد<.

ظلَّ أُسامة بنُ زيد- ما امْتَدَّتْ به الحياةُ- مَوْضِعَ إِجْلاَلِ المسلمين وَحُبِّهِمْ، وفاءً لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، وَإِجْلاَلاً لِشَخْصِهِ.

فقد فَرَضَ له الفاروق عَطَاءً([20]) أكثرَ مِمَّا فَرَضَهُ لابنه عبد الله بن عمر، فقال عبد الله لأبيه:

>يَا أَبَتِ، فَرَضْتَ لأسامة أَرْبَعَةَ آلافٍ وَفَرَضْتَ لِي ثَلاَثَةَ آلافٍ، وما كان لأبيه مِنَ الفَضْلِ أكْثَرُ مِمَّا كَانَ لَكَ، وليس له مِنَ الفَضْلِ أَكْثَرُ مِمَّا لِي<.

فقال الفاروق: هَيْهَاتَ([21])…إنَّ أباهُ كان أَحَبَّ إلى رسول الله مِنْ أَبيكَ، وكان هُوَ أَحَبَّ إلى رسول الله مِنْكَ…

فَرَضِيَ عبدُ الله بنُ عُمَرَ بما فُرِضَ له مِنْ عَطَاءٍ. وكان عُمَرُ بن الخطَّاب إذا لَقِيَ أسامة بن زيد قال: مَرْحَباً بِأَمِيري…فَإِذَا رَأَى أَحَداً يَعْجَبُ مِنْهُ قال: لَقَدْ أَمَّرَهُ عَلَيَّ رَسول الله، صلى الله عليه وسلم.

رَحِمَ الله هذه النُّفُوسَ الكَبِيرَةَ، فما عَرَفَ التَّاريخُ أَعْظَمَ ولا أَكْمَلَ ولا أَنْبَلَ مِنْ صَحَابةِ رسول الله، صلى الله عليه وسلم([22]).      

الدروس والعبر المستخلصة من القصة:

1- عند اشتداد الكَرْبِ يأتي الفَرج، تنفيذاً لوعْدِ الله عزَّ وجل: (فإنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْراً)([23])، وقوله: (وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ)([24]).

2- الفرحة والاستبشار بالمولود الجديد؛ ذكراً كان، أو أنثى من باب الشكر لله عزَّ وجل، على هبته الرَّبَّانية (يَهَبُ لِمَن يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَاءُ الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَن يَشَاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِير)([25]).

3- الإحسان إلى الإِمَاءِ والعبيد ممَّا جاء به الإسلام، وحثَّ على تنفيذه، والتقرب به إلى الله، وَعَدَّه من أنواع الكفارات.

4- كان التَّبَنِّي معمولا به في الجاهلية، فجاء الإسلام بتحريمه، طبقاً لقوله عزَّ وجل: (مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخَاتِمَ النَّبِيئِين)([26])، وقوله: (أُدْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ الله)([27]).

5- يكفي المسلم فخراً وحظْوة أن يكون هو وأبوه محبوبيْن عند النبي، صلى الله عليه وسلم، وهذه المَحْبُوبِيَّةُ تشمل كل من آمن به، وسار على منهجه وهديه.

6- مَحَبَّةُ الأطفال، ولاسيما الصغار من رحمة الله، وقد عاتب الرسول، صلى الله عليه وسلم، مَنْ حاد عنها بقوله: >أَوَ أَمْلِكُ لَكَ أَنْ نَزَعَ اللهُ مِنْ قَلْبِكَ الرَّحْمَة<([28]).

7- مِنْ أَحْسَنِ صِفَاتِ المؤمن أَنْ يَأْلَفَ الناس، ويُؤْلَف؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: >أَكْمَلُ المؤمنين إيماناً: أَحَاسِنُكُمْ أخلاقاً، المُوَطَّئُونَ أَكْنَافاً([29])، الذين يَأْلَفُونَ وَيُؤْلَفُون([30])، وليس مِنَّا مَنْ لا يَأْلَفُ وَلاَيُؤْلَف<([31]).

8- امتثال كبار الصحابة لتأمير أسامة بن زيد عليهم؛ هو تطبيق عملي للآية الكريمة: (وَمَا كَانَ لِمُومِنٍ وَلاَ مُومِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ تَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ اَمْرِهِمْ)([32]).

9- أُمَّةُ الإسلام قامت على السَّمْعِ والطاعة، والاحترام لأوامر الله ورسوله.

10- فَضِيلَةُ التَّرَفُّعِ عن المحسوبية بين القريب، والبعيد، والعدو، والصديق، هي روح العدالة في الإسلام.  

11- تواضع عُمر وسائر الصحابة، رضي الله عنهم، مِنْ بَرَكَاتِ الأَثَرِ القرآني، والتربية النبوية، وتزكية الرسول، صلى الله عليه وسلم: >خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ<([33])

والحمد لله رب العالمين

 


([1]) يُكَابِدُ: يعاني.

([2]) النَّوَائِب: المصائب.

([3]) أَسَارِيرُهُ: محاسن وجهه.

([4]) لِمَوْضِعِ أَبَوَيْهِ مِنْهُ: لمكانة أبويه عنده.

([5]) سِبْطُ الرَّجُل: ابن ابنته.

([6]) صحيح البخاري، كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب الحسن والحسين، رضي الله عنهما، رقم الحديث: (3747) 5/26.

([7]) السَّرَاةُ؛ بفتح السِّين: الأشْرَاف.

([8]) بَلَغَ أَشُدَّهُ: بلغ سن الرُّجولة.

([9]) فتولَّى: فرجع.

([10]) لِيُجِيزَهُ: ليأذن له.

([11]) فَلَمْ يَهِنْ: فلم يضعف.

([12]) براثن الرُّوم: مخالب الرُّوم.

([13]) جِلَّة الصَّحابة: شيوخ الصَّحابة.

([14]) البَلْقَاءُ: كورة من أعمال دمشق بين الشام ووادي القرى، قصبتها عمَّان، وفيها قرى كثيرة ومزارع واسعة، وبجودة حنطتها يضرب المثل. معجم البلدان؛ لياقوت الحموي: 1/ 489.

([15]) الدَّارُوم: قلعة بعد غزة، للقاصد إلى مصر، الواقف فيها يرى البحر، إلاَّ أن بينها وبين البحر مقدار فرسخ، خربها صلاح الدين لمَاَّ مَلَكَ السَّاحِلَ في سنة: 584هـ ، يُنْسَبُ إليها الخمر. ويقال لها: الدَّارُون أيضا، وينسب إليها على هذا اللفظ: أبو بكر الدَّارُونِي. معجم البلدان: 2/ 424.

([16]) مِنْ وَطْأَةِ الدَّاءِ: من ثقل المرض وشدته.

([17]) اسْتَعْمَلَهُ: ولاَّه.

([18]) ثَكِلَتْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ: فقدتكم أمهاتكم.

([19]) صهوة الجواد: مكان قعود الفارس على الجواد.

([20]) عَطَاءً: مرتَّباً.

([21]) هَيْهَاتَ: لقد أبْعَدْت كثيراً.

([22]) القصة من كتاب: صور من حياة الصحابة؛ للدكتور عبد الرحمن رأفت الباشا، ص: 219- 226.

([23]) سورة: الشرح، الآيتان: 5، 6.

([24]) سورة: الشورى، من آية: 28.

([25]) سورة: الشورى، الآيتان: 49، 50.

([26]) سورة: الأحزاب، من آية: 40.

([27]) سورة: الأحزاب، من آية: 5.

([28]) رواه البخاري في صحيحه، كتاب: الأدب، باب رحمة الولد وتقبيله ومعانقته، رقم: (5998) 8/ 7.

([29]) المُوَطَّئُونَ أَكْنَافاً: وهم الذين جوانبهم وطيئةٌ يتمَكَّنُ فيها مَنْ يُصَاحِبُهُم ولا يَتَأَذَّى. لسان العرب، مادة: (وطأ).

([30]) يَأْلَفُونَ وَيُؤْلَفُون: أي: يَأْنَسُونَ بِالنَّاسِ، وَيَأْنَسُ النَّاسُ بِهِم، وَيُحِبُّونَ صُحْبَتَهُم، وَيَتَقَرَّبُونَ مِنْهم.

([31]) رواه الطبراني في: المعجم الأوسط، رقم: (4422) 4/ 356. والبيهقي في: شُعَب الإيمان، رقم: (7616) 10/356. وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة وشيءٌ من فقهها وفوائدها، رقم: (751) 2/ 378.

([32]) سورة: الأحزاب، من آية: 36.

([33]) رواه البخاري في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة ، باب فضائل أصحاب النبي، صلى الله عليه وسلم، رقم: (3651) 5/ 3. ومسلم في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة، باب فضل الصحابة ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، رقم: (212) 4/ 1963.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق