مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةدراسات محكمة

“المصادر الأولى في النقد والبلاغة “الدرس التاسع

قال الجاحظ: «ثم دفع إليهم صحيفة من تحبيره وتنميقه…».

 ما معنى التحبير هنا ؟

 يدور أصل كلمة التحبير عند الجاهليين حول معنى الوشي والزخرف، وذلك كما في قول المُتَنَخِّلِ الهُذَلِيِّ:

عَرَفْتُ بِأَجْدُثٍ فَنِعَافِ عِرْقٍ /// عَلاماتٍ كَتَحبيرِ النِّماطِ

يقصد بتحبير النِّمَاط زُخْرُفَهُ وَوَشْيَهُ. والنَّمَطُ ضرب من البُسُط، والجمع أَنماط مثل سبَب وأَسْباب، أو هو ضَرْبٌ من الثِّيَابِ المُصَبَّغَةِ، ولا يَكَادُونَ يَقُولُونَ نَمَطٌ إلاَّ لِمَا كانَ ذَا لَوْنٍ من حُمْرَةٍ أَوْ خُضْرَةٍ أَوْ صُفْرَةٍ، فَأَمَّا البَيَاضُ فَلا يُقَالُ لَهُ نَمَطٌ.

فهذا هو أصل كلمة التحبير. ثم انتقل معناها بعد ذلك من الزخرفة التي تكون في الثوب أو في البُسُطِ ونحوِها، إلى وصف الكلام، ووصف الخط، ووصف الصوت أيضا. ومن ذلك قول أمية بن أبي عائذ الهذلي في شعر له يمدح فيه عبد العزيز بن مروان:

تَسِيرُ بِمَدْحِيَ عَبْدَ العَزِي‍ـ /// ـزِ رُكْبَانُ مَكَّةَ وَالمُنْجِدُونَا

مُحَبَّرَةٌ مِنْ صَرِيحِ الكَلَا /// مِ، لاَ كَما لَفَّقَ المُحْدَثُونَا

فوصف قصيده بالتحبير.

 وتجد مثل ذلك أيضا في حديث أبي موسى المشهور عندما قرأ القرآن، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يسمعه، وهو لا يعلم بذلك، فلما أعلمه النبي صلى الله عليه وسلم بـأنه كان يسمعه، وبأنه أوتي مزمارا من مزامير داود قال أبو موسى: لو علمتُ أنك تسمع لقراءتي لَحَبَّرْتُهَا لك تحبيرا. يريد تحسين الصوت.

 ومن ذلك أنهم كانوا قد أطلقوا، في الجاهلية، على طفيل الغنوي الشاعر لقب المُحَبِّر لتحسينه الشعر.

ومما هو من هذا القَرِيِّ بيتُ الشَّمَّاخِ الذي يقول فيه:

إِذَا سَقَطَ الأَنْدَاءُ صِينَتْ وَأُشْعِرَتْ /// حَبِيراً وَلَم تُدْرَجْ عَلَيْهَا المَعَاوِزُ

وهذا من قصيدته في القوس، وقد شرح هذه القصيدة الشيخ محمود شاكر، رحمه الله تعالى، وأدار عليها ديوانه المشهور الذي سماه: القوس العذراء.

وهو، هنا، يصف حرصه على القوس إذا سقط الندى حيث يلفها بالحَبِير، وهو ثوب موشى من الحرير الناعم.

 فمعنى البيت هو: إذا سقط الأنداء (جمع الندى، وهو بَلَلُ الصباح)، صينت: أي القوس، وأُشْعِرَتْ أي: أُلْبِسَتْ حبيرا، (وهو الثوب المُوَشَّى من الحرير الناعم)، ولم تُدْرَجْ عليها المَعَاوِزُ: لم تُطْوَ عليها، بل تُصان بالحرير، والمَعاوز: الثياب الخُلْقَانُ والخِرَقُ التي تدل على إعواز صاحبها وعلى فقره وحاجته. ومنه أُخِذَ لفظُ المَعَاوز.

والحَبِيرُ من التحبير وهو التزيين.

 ومن الألفاظ القريبة من ذلك الحِبَرة، وهو بُرْدٌ يمانٍ، مأخوذ من التحبير والتزيين. وقد ورد هذا في حديث وفاة النبي، صلى الله عليه وسلم، عندما دخل عليه أبو بكر الصديق، رضي الله عنه. قالوا: وَكَشَفَ عن وجه النبي، صلى الله عليه وسلم، بُرْدَ حِبَرَةٍ كان مُسَجًّى به. وكان مما كُفِّنَ به النبي، صلى الله عليه وسلم.

 وفي حديث حسان بن ثابت مع ابنه عبد الرحمن أنه جاءه وقال: لَسَعَنِي زُنْبُورٌ كأنه بُرْدُ حِبَرَةٍ. فضمه إليه حسان وقال: قلتَ والله الشعر.

فهذا فيما يخص أصل كلمة التحبير عند الجاهليين وكيف انتقل معناها من وصف الثياب والبُسُطِ إلى وصف الكلام، والخط، والشعر، والصوت.

فكل ما حَسُنَ من خط، أو كلام، أو شعر، أو غير ذلك، فقد حُبِرَ حَبْرا وحُبِّرَ. والكلام المُحَبَّرُ مُفَعَّلٌ من التحبير، من قولهم: ثوب مُحَبَّرٌ: حَسَنُ الصَّنْعَةِ. وقد وصف ابن دريد في “الاشتقاق” الكلامَ المُحَبَّرَ بأنه الحسن التأليف.

وإذ قد أدركنا هذا فإنا نعود إلى قوله: “ثم دفع إليهم صحيفة من تحبيره وتنميقه…”.

 فنقول: تحتمل هذه العبارة أنه كتب هذه الصحيفة بخطه وأحسن الخط، وتحتمل أنه أحسن التأليف، وتحتمل أنه أعاد فيها النظر، فَحَسَّنَهَا وَزَيَّنَهَا، من تحبير الخط، والشعر، والكلام، يعني تحسين ذلك كله. فكل هذا يدخل في معنى التحبير الوارد في نص الجاحظ. وإن كان السياق يدفع أن يكون أراد الخط.

 ثم ما هو قريب من هذا كلامُهم في الحَبْر. والمُحَدِّثُون كلهم يقولون: الحَبر بفتح الحاء، ومعهم جماعة من اللغويين، كأبي عبيد، وأبي الهيثم. وكان ثعلب وابن الأعرابي يقولان بالوجهين، وكذلك الجوهري، إلا أنه جعل الحِبر، بالكسر، أفصح.

وهذا لا نطيل فيه كثيرا، إلا أننا نذكر أن الفراء عندما قال بالكسر، وزعم أنه أفصح، ذكر أنه يُجْمَعُ على أفعال دون فَعْلٍ، ومن ذلك قالوا: كعب الحِبر، وكعب الأحبار.

 وهذه المسألة، أيضا، يطول فيها الكلام. وهي مسألة الحِبر والحَبر. فالحِبر لأنه عالم بتحبير الكلام والعلم وتحسينه. فهو يعود إلى ما ذكرناه، أولا، في معنى التحبير. والحَبر لأنه واحد أحبار اليهود، أو هو العالم من علماء الديانة مسلما كان أو كتابيا. وهو قول الخليل الفراهيدي. ومنهم من أغرب فقال: أرادوا مِدَادَ حِبْرٍ، كما تقول، مثلا: « وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ ». تريد: أهل القرية. وهذا وَهَّاهُ الأصمعي.

وقد ذكرنا أن ابن الأعرابي يقول بالوجهين. فهو يقول: حِبر وحَبر، مثل: بِزر وبَزر،  وسِجف وسَجف. ومع ذلك فإن بيت الشماخ الذي يقول فيه:

كما خطَّ عِبْرانِيةً بِيَمِينِهِ /// بِتَيْمَاءَ حَبْرٌ، ثُمَّ عَرَّضَ أَسْطُرا

رواه الرواة بالفتح لا غير.

 ولكي لا نستشهد بما لا يُفْهَم، نقول: معنى تعريض الخط، في هذا البيت، تعميته، وترك تبيين حروفه، وعدم تقويمه.

 ولمن أراد أن يتوسع في هذه المسألة فله أن يعود إلى كتاب “مصادر الشعر الجاهلي وقيمتها التاريخية” للدكتور ناصر الدين الأسد في حديثه عن الخط عند الجاهليين. فقد وقف عند  هذا البيت وذكر فوائد جمة لمن أراد أن يرجع إليها هناك.

وأهل التفسير يسمون سورة المائدة سورة الأحبار أيضا، لأن الله عز وجل يقول فيها «يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ »[المائدة:44] وهم العلماء.

وقد ذكر جرير هذا في بعض شعره فقال:

إِنَّ البَعِيثَ وعَبْدَ آلِ مُقَاعِسٍ /// لَا يَقْرآنِ بِسُورَةِ الأَحْبَارِ

يقصد سورة المائدة. أي أنهما لا يفيان بالعهود، لأن الله سبحانه وتعالى يقول فيها:« يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ »[المائدة:1].

ومن الذين وُصفوا بالحَبر ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ كان يقال له: الحَبر، والبحر، لعلمه.

 ومما أنشده الفراء من شعر أبي حَيَّةَ النُّمَيْرِيِّ:

كَتَحْبِيرِ الكِتَابِ بِخَطِّ، يَوْماً /// يَهُودِيٍّ يُقَارِبُ أَوْ يُزِيلُ

وهذا من مشهور الشواهد في كتب الضرائر، لأنه فصل بين المضاف والمضاف إليه بالظرف.

وليست هذه هي الروايةَ المشهورة، وإنما المشهورة هي قوله:

كما خُطَّ الكتابُ بكفِّ، يوماً /// يهوديٍّ يُقارب أو يُزيلُ

 ومعنى يقارب: يجعل بعض الكتابةِ قريبا من بعض. ومعنى يزيل: يفارق ويباعد بينهما. وجملتا: يقارب ويزيل، صفتان ليهودي.

وقد سُمِّيَ الحِبرُ الذي يُكتب به: حِبراً، لتحسينه الخطَّ وتبيينه إياه. وهذا يعود بنا إلى الأصل. لأن أصل الكلمة يدور حول التحسين والتزيين. وهذا رأي خالفه من قال: سُمِّيَ حِبرا لتأثيره في الموضع الذي يكون به، من الحَبَار، وهو الأثر. وفي بعض طبعات “البحر المحيط” تجد: الحَبَّار، وهو خطأ. فهو من الحَبَار، وهو الأثر.

الدكتور محمد الحافظ الروسي

  • رئيس مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق