مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوكشذور

المجمل من دلائل نبوة المصطفى صلى الله عليه وسلم

قال الشيخ العلامة المحقق أبو عبد الله محمد بن قاسم جسوس في شرحه على توحيد المرشد المعين للعلامة عبد الواحد ابن عاشر:

وقد استدل أرباب البصائر على نبوءته صلى الله عليه وسلم بأمرين:

 أحدهما؛ كماله في نفسه؛ فإنه عليه السلام مع كونه أميا لم يتعلم ولم يخالط أحدا معروفا بالعلم، تفجر [منه] من العلوم الوهبية والأسرار الربانية والأذواق العرفانية وعلوم الأعمال والأخلاق والسياسة وتدبير أمر الخلق بما أعجزَ الأولين والآخرين، ولا يمكن العقلاء الوصول إليه في الحين من السنين، وتحلى بالكمالات الباطنة كملازمة الصدق من أول عمره إلى آخره، والإعراض عن الدنيا وزخارفها على الدوام، والترفع مع أهلها، وغاية التواضع مع الفقراء والمساكين، والإقدام حيث يُحجم الأبطال، والوثوق بعصمة الله في جميع الأحوال، وعدم التزلزل والتخاذل بما يلقاه ويتحمله في دعوى الرسالة من المشاق والمتاعب والأهوال، وغاية الجود والإيثار بنفائس العلوم والأموال، وبالكمالات الظاهرة والمحاسن الباهرة التي لم توجد إلا فيه على الكمال، ولا شك أن العقل يجزم بامتناع أن يجمع الله تعالى هذه الكمالات  فيمن يعلم أنه مُفترٍ عليه ثم يهمله ثلاثا وعشرين سنة، ثم يُظهر دينه على سائر الأديان، وينصره على أعدائه، ويُحيي أثره بعد موته إلى يوم القيامة.

الأمر الثاني؛ تكميله لغيره بالفضائل العلمية والعملية، فإنه عليه السلام هو الذي نوَّر العالم بالعلوم كلها نقليها وعقليها، وما من عالِمٍ ضُربت له أكباد الإبل في أشتات العلوم ممن تقدم أو تأخر إلا وكلامه قدوة له، وإشارته حجة له، وهو المُنَوِّر له بالإيمان والعمل الصالح حتى ظهر على سائر الأديان، وظهر في أصحابه وصلحاء أمته من كمال الزهد والمحبة والرضى والشكر وغيرها من مقامات اليقين ما هو مشاهد بالعيان، فهو صلى الله عليه وسلم القدوة العظمى لجميع الخلق في كل علم وحكم وحكمة وخلق حسن وكل كمال على الإطلاق، ولا معنى للنبوءة والرسالة إلا التعليم للشرائع وتكميل الناس بها. (…).

واعلم أن آياته صلى الله عليه وسلم ومعجزاتِه الدالةَ على نبوءته لا تكاد تنحصر، وقد ألف الناس فيها نظما ونثرا.

فمنها نوره الذي ظهر في غرة آدم عليه السلام وفي سائر آبائه الكرام صلى الله عليه وسلم، وقد كانوا خمسين على أشبه ما ذكر في النسب، فالأمهات كذلك، فكان الظهور في الغرر على عدد ذلك، وأن ظهور معدوم للوجود مرة واحدة عجيب كبير، فكيف ظهوره ما ينيف على مائة مرة، وكان الآباء والأمهات الكرام يُحسون باختصاص الله تعالى لهم بأمر عظيم [هُم] من أجله محافظون على الطهارة، ولله در القائل:

لو أبصر الشيطان طلعة نوره     في وجه آدم كان أول من سجد

أو لو رأى النمرود نور جماله     عبد الجليل مع الخليل وما عند

ومنها ذكره صلى الله عليه وسلم في الكتب المنزلة والأمم الخالية والتبشير به.

ومنها ما ظهر حين علقت به أمه وحين وضعته وما رأته وسمعته من العجائب.

ومنها ما كان في مدة رضاعه وعند فطامه وأوان نطقه بالكلام، وفي شبابه وترعرعه في كبره حتى بلغ، ثم ما كان بعد ذلك، وما كان حين بلغ أشده من آيات بدئ الوحي ومقدمات البعث وتباشير النبوءة والرسالة، ثم ما كان بعد ذلك من تفضيله بإنزال الكتاب على قلبه، ثم بالإسراء والمعراج، والكلام والرؤية، وانشقاق القمر، وما ظهر في ذاته المشرفة من الآيات مما أدركه من العجائب ببصره وسمعه، ومن فصاحة لسانه وبلاغة قوله، وقوة أعضائه، ونورانية شخصه، وكمال هيئته، وما كان ينفصل عن ذاته من الفضلات الطيبة الطاهرة، وطيب عرقه، وذكاء رائحته، وبركاته على ما لمسه من المراكب، وبركة ريقه، وإبرائه الأمراض والعاهات ببركةِ فِيهِ ومباشرته، واكتساب من مسته يده من الأطفال والرجال الحسن والجمال، وما كان يقلب من الأعيان كانقلاب الماء لبنا والعود سيفا صارما، وكنبع الماء من بين أصابعه، وما ظهر من البركة فيما وهب لسلمان وما غرسه له، وما نطق له من الجمادات والعجماوات من الحيوان، وفَهْم الأشجار والأحجار خطابَه وائتمارها لأمره.

 ومنها ما ظهر من تكثير اليسير من ذهب وفضة وطعام كالثمر والخبز والثريد واللحم واللبن في الضرع وغيره والسمن والعسل.

ومنها كلام الصبيان، وإحياء الموتى، وإجابة الدعاء لأمته أن لا يعمهم قحط عامٌّ في جميع أقطار الأرض، ولأنس رضى الله [عنه] بالمال والولد، ولغيره بالمقامات وتفريج الكروب، وفي الاستشفاء والاستصحاء، وعلى من [ناوئه] من أعدائه.

ومنها عصمته ممن أراد خدعته، ونصره بريح الصبا، والرعب في قلب من حاد عن دينه.

 ومنها إخباره بمُغيَّبات وبما يظهر في أمته من الفتن وبما يظهر بعد الخوف من الأمان، وما يكون لأمته من الملك والسلطان، وما ظهر من صدق إنذاره بوفاته، وما ظهر من الآيات عند احتضاره وبعد وفاته صلى الله عليه وسلم.

وقد قال بعض العلماء أن في القرآن ستة آلاف آية وستمائة وستة وستين آية، وكل ثلاث آية منها معجزة، ألف أمر، وألف نهي، وألف وعد، وألف وعيد، وألف عبر وأمثال، وألف قصص وأخبار، وخمسمائة حلال وحرام، ومائة دعاء وتسبيح، وستة وستون ناسخ ومنسوخ، بل قيل في القرآن ستون ألف معجزة، ويضاف إلى ذلك كله ما ظهر ويظهر على يد خواص أمته من الكرامات التي هي في الحقيقة له معجزات.

وقد تعرض أهل السير وغيرهم لبسط هذه الآيات التي ذكرنا، وقد ذكر الإمام البخاري في الجامع الصحيح جملة وافرة من آياته صلى الله عليه وسلم التي كانت بعد بعثته صلى الله عليه وسلم في باب علامات النبوءة بعد الإسلام، فانظرها هناك. وقد نص العلماء على أن معجزة حنين الجذع وانشقاق القمر ونبع الماء من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم متواترة.

ولما توفي صلى الله عليه وسلم أخذ عمر بن الخطاب رضي الله عنه في البكاء والنحيب وهو يقول: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، قد كان لك جذع يابس تخطب عليه، فلما اتخذ لك المنبر لتُسمع الناس من أعلاه حن الجزع لفراقك، ولم يسكن حتى وضعت يدك عليه، ونحن والله أحق وأولى بالبكاء لفراقك صلى الله عليك بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لقد بلغ من فضيلتك عند الله أن جعل طاعته في طاعتك فقال تعالى: ﴿من يطع الرسول فقد أطاع الله﴾[1]، بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لقد بلغ من فضيلتك عند الله أن جعلك أول الأنبياء ذكرا وآخرهم بعثا فقال تعالى: ﴿وإذ اخذنا من النبيئين ميثاقهم ومنك ومن نوح﴾[2] الآية، بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لقد بلغ من فضيلتك عند الله أن يود الذين كفروا أن يكونوا أطاعوك فيقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا، بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لئن تفجر الماء لموسى من حجر فما ذاك بأعجب من نبع الماء من بين أصابعك، صلى الله عليك بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لئن سخر الله الريح لسليمان غدوها شهر ورواحها شهر فما ذاك بأعجب من البراق الذي اخترق بك السبع الطباق ورجع والليل باق، بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لئن كان عيسى بن مريم يحيي الموتى بإذن الله فما ذاك بأعجب من كلام الشاة المسمومة وهي مشوية، بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لقد دعا نوح على قومه فهلكوا، وأنت قد وطئ ظهرك وكسرت رباعيتك وأدمي وجهك وأنت تقول: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون، بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لقد آمن بك في قَصِير سنينك ما لم يتبع نوحا في طول عمره، فآمن بك الكثير ولم يومن به إلا القليل، بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لقد واسيت الفقراء وواكلت الضعفاء ولبست الصوف وركبت الحمار وأردفت الصبيان وأكلت طعامك على الأرض، كل ذلك تواضعا منك لله تعالى، صلى الله عليك.

واعلم أن جماعة من أئمة الدين والعلماء المعتمدين صرحوا بأن كل نبي مَظهرٌ من مظاهر نبوءته صلى الله عليه [وسلم]، ومُلتمِس من عين رحمته، وداعٍ إلى الله بشريعته، وأن جميعهم يدعون الخلق إلى الحق عن تباعيته صلى الله عليه وسلم، وأنهم كانوا خلفاءه ونوابه في الدعوة، وقد قال البصيري رحمه الله ورضي عنه:

وكلهم من رســـــول الله ملتمس  *  غرفا من البــــــحر أو رشفا من الديم

وواقفـــــــــــــــــون  لديه عند حدهم  *   من نقطة العلم أو من شكلة الحكم

فإنه شمس فضل هم كواكبها  *   يُظهرن أنــــــــــــــوارها للناس في الظلم

فهو على هذا كالشمس المحسوسة، وغيرُه من الأنبياء كغيرها من الكواكب إنما ظهرت وأضاءت لظهور نور الشمس فيها ومقابلتها إياها بالحقيقة، أو الشمس هي المضيئة نهارا وليلا، وكالبحر المحسوس المنبسط على وجه الأرض، فامتدت منه جداولَ وأنهارا، فهي عنه باعتبار ذاته، وغيره باعتبار تعينه والله أعلم.

“شرح عقيدة المرشد المعين على الضروري من علوم الدين”، لأبي عبد الله محمد بن قاسم جسوس (1182هـ/1767م)، مطبوع حجري، رقم: 576. خزانة القرويين. ص: 265 وما يليها.

الهوامش:


[1]– سورة النساء، الآية: 80.

[2]– سورة الأحزاب، الآية: 7.

د. إدريس غازي

• خريج دار الحديث الحسنية ـ الرباط.
• دكتوراه في الدراسات الإسلامية، جامعة سيدي محمد بن عبد الله ـ فاس، في موضوع: "أصل ما جرى به العمل ونماذجه من فقه الأموال عند علماء المغرب".
• دبلوم الدراسات العليا من دار الحديث الحسنية، الرباط، في موضوع: "المنهجية الأصولية والاستدلال الحجاجي في المذهب المالكي".
من أعماله:
ـ الشاطبي بين الوعي بضيق البرهان واستشراف آفاق الحجاج.
ـ في الحاجة إلى تجديد المعرفة الأصولية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق