الفقيه المنوني والاحتفال بالمولد النبوي الشريف في المغرب المريني
الدكتور أمين لغويلي
أفرد الأستاذ الفقيه محمد المنوني رحمه الله فصلا كاملا عن الاحتفال بالمولد النبوي الشريف في المغرب المريني، وذلك في عمله القيِّم: "ورقات عن حضارة المرينيين". وقد تناول الموضوع من خلال مدخلٍ وخمسة مباحث.
تناول في المدخل - باقتضاب - تاريخ الاحتفال بالمولد النبوي الشريف في بعض بلدان العالم الإسلامي عموما وفي المغرب خاصة. فأما عن العالم الإسلامي فقد نبَّه على أن هذا الاحتفال وُجد بمصر منذ عهد الفاطميين كما نَقل ذلك المقريزي في خططه، وابن جبير الأندلسي في رحلته أن مقام مولد النبي عليه السلام بمكة المكرمة عام 579هـ كان يُفتح في شهر ربيع الأول وفي يوم الإثنين منه بالخصوص فيدخله الناس كافة. كما نُقل عن غيره أن يوم المولد النبوي كان يُتّخذ عطلة عامة بمكة تُفتح فيه الكعبة المشرفة ويؤمُّها الزوار، كما أشار إلى أن أمير إربل الملك المعظم: مظفر الدين كوكبري صهر صلاح الدين الأيوبي كان مولعا بعمل المولد النبوي عظيمَ الاحتفال به، وقد توفي عام [630هـ/1232م].
أما بالمغرب فقد بيَّن أن أول من ندب إلى الاحتفال به هو قاضي سبتة أبو العباس أحمد بن القاضي محمد اللخمي العزفي السبتي [633هـ]، وتابعه على ذلك ابنه أبو القاسم محمد العزفي الذي عُين أميرا على سبتة عام 648هـ/1250م، وبقي على ذلك إلى حين وفاته سنة 677هـ/1279م. وقد كان لهذا الأمير وأبنائه فضل تنبيه باقي جهات المغرب للاحتفاء بهذه الذكرى، فقد كاتب الخليفة الموحدي عمر المرتضى في هذا الشأن، فصار بدوره يحتفي بهذا اليوم ويُفيض فيه الخير والإنعام، حيث كتب نُتَفاً شعرية في هذه المناسبة. كما حرك اهتمامه بالمولد قريحة بعض علماء حضرته للتأليف في السيرة عموما وفي المولد خصوصا، وبرز منهم بخاصة أبو علي الحسن بن القطان من خلال مؤلفات وأشعار رُفِع بعضها للخليفة المرتضى يوم المولد النبوي من سنة 661هـ/1263م.
وخصَّص الأستاذ المنوني المبحث الأول للاحتفالات المرينية بهذه الذكرى، مُنبِّها إلى أن مؤسس الدولة المرينية يعقوب بن عبد الحق هو أول من احتفل بهذه المناسبة من بني مرين بفاس، ثم أحدث ابنه يوسف تعميم هذا الاحتفال بسائر جهات المغرب المريني سنة 691هـ/1292م. وقد كان ذلك بإشارة من أحد العزفيين، وأكد الأستاذ المنوني أنه بلا شك أبو طالب عبد الله بن أبي القاسم العزفي، إذ هو الذي كان أمير سبتة في ذلك التاريخ.
وقد أناب الخليفة يوسف المريني عنه في الإشراف على هذا الاحتفال بفاس خطيب القرويين أبو يحيى محمد بن أبي الصبر أيوب بن يكنول الجاناتي. وبهذا صار يوم الثاني عشر من ربيع الأول منذ ذلك التاريخ عيدا مولديا عاما بالمغرب.
واتخذت هذه الاحتفالات منذ عهد أبي الحسن وأبي عنان المرينيين طابعا خاصا، وتحمّلت الدولة نفقات هذه الاحتفالات في سائر جهات المملكة. وقد فصّل الأستاذ المنوني رحمه الله في بعض طقوسها نقلا عن مصادر مخطوطة ومطبوعة.
وكانت الاحتفالات الشعبية الخاصة بالمولد النبوي الشريف محور المبحث الثاني خصوصا ببعض المدن العريقة كفاس، وبخاصة من خلال تقاليد الكتاتيب القرآنية، وبعض الطرق الصوفية، ليَخُصَّ بالذكر بعض تلامذة أبي محمد صالح الماجري مثل أبي مروان عبد الملك الريفي الذي كان يقيم هذا الاحتفال بمنزله بسبتة ويستعمل فيه السماع. كما يذكر ابن قنفذ القسطنطيني أن شهر ربيع الأول كان هو الموعد الذي صادفه لعقد مؤتمر صوفية المغرب الأقصى لعام 769هـ/1367م، وكان ذلك بدكالة على ساحل المحيط. كما أشار الأستاذ إلى إبداعات شعراء الملحون بهذا الصدد، والذين كانوا يجتمعون بفاس بالعطارين ليتناشدوا أشعارهم وقصائدهم بمكان مخصوص هناك كما نقله الحسن الوزان الفاسي أيام الحكم الوطاسي.
ورصد الأستاذ المنوني في المبحث الثالث أصداء الحفلات المولدية في أدب الفترة المرينية، والتي تمثلت في قصائد التهاني المولدية، التي تتناول الحنين إلى البقاع المقدسة، ومدح الجناب النبوي، وذكر شمائله ومعجزاته، لتتخلص إلى مدح السلطان المريني وتهنئته بهذه الذكرى وعلى ما أقامه من احتفال بها، مع التطرق لبعض إنجازاته القريبة العهد. وقد امتد إنشاد هذه القصائد سنويا في العصر المريني نحو قرنين من الزمن، استقصى منها الأستاذ المنوني أربع عشرة قصيدة لثلاث عشرة شاعرا فقط.
كما اهتم هذا المبحث بالمؤلفات المولدية ما بين منظوم ومنثور غير قصائد التهاني السالفة الذكر، ذكر الأستاذ المنوني منها سبعة، أحدها اهتم بنظم كتاب "الدر المنظم في مولد النبي المعظم"، لناظمه أبي إسحاق إبراهيم بن أبي بكر التلمساني الوقشي الأصل نزيل سبتة والمتوفى بها عام [697هـ/1298م]، في قصيدة عينية من البحر البسيط في 185 بيتا، لكن ذكر الأستاذ أن المعروف منها حسبما وقف عليه سبعة عشر بيتا فقط من أوائلها.
وقد آثر الأستاذ أن يُفرد الحديث عن بعض الفنون الشعرية الخاصة التي اعتنت بهذه الذكرى الكريمة كقصيدة البردة للإمام البوصيري، في شكل شروح وتسميطات وتخميس... مثّل لها الأستاذ باثني عشر نموذجا.
أما المبحث الرابع فقد أُفرده للحديث عن تجاوب جهات من الغرب الإسلامي مع الحفلات المولدية المرينية، خصوصا بالأندلس والإمارة الحفصية بتونس، كما سجل ذلك ابن خلدون في العبر، وابن بطوطة في تحفة النظار...
ليختم الأستاذ المنوني رحمه الله هذا الفصل بالحديث في المبحث الخامس عن موقف علماء المغرب من عمل المولد النبوي. وقد ذكر أن كلمة علماء المغرب اتفقت حول الاحتفال بالمولد النبوي الشريف، مع وجود بعض الاستثناءات ممن يعارضه، غير أنه أغفل ذكر أسماء من عارض هذه الاحتفالات منهم، ونص على أن الذين أجازوا الاحتفال أوصوا بالاحتراس من تسرُّب البدع إلى حفلاته، مثل ابن مرزوق، مشيرا إلى أن السيوطي أورد في رسالته: "حسن المقصد في عمل المولد" أسماء ثلاثة أعلام مغاربة استحسنوا عمل المولد وهم: أبو الخطاب بن دحية الكلبي [633هـ] الذي ألّف فيه كتابه "التنوير في مولد السراج المنير"، وأبو الطيب محمد بن إبراهيم السبتي نزيل قوص والمتوفى بها عام [695هـ/1296م]، ومحمد بن الحاج العبدري [737هـ] في المدخل، والذي أوصى بتجنُّب البدع في هذا الاحتفال.
كما ذكر المنوني فتوى ابن عباد الرندي سواء في المعيار أو في رسائله الكبرى، حيث اعتبر هذه الذكرى عيدا من أعياد المسلمين التي ينبغي الاحتفاء بها.