مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةشذور

تاريخ الاحتفال بالمولد النبوي الشريف في المغرب

مصطفى بوزغيبة                                                                                                                               مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصة

 درج أسلافنا رحمهم الله على الاحتفال بمولد بدْرة الأكوان ومصباح الأنام سيّد الورى وشفيع الأنام سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة والسلام، الذي بطلعته تبددت سحب الظلمات وأشرقت الأرض بنوره وامتلأت الدنيا عدلا ومحبة بقدومه، واستبشر العالم بعهد جديد لم يسبق مثله ولن يأتي شبهه، فكان المغاربة بِحَقٍّ خير مَنْ عَبّرَ عن متين محبتهم وشوقهم للجناب المحمدي والنور السني الأحمدي، وذلك باتخاذ يوم مولده صلى الله عليه وسلم عيدا رسميا في مختلف أنحاء البلاد، فأصبح جزءا لا يتجزأ من هويتهم الدينية وإرثا حضاريا وثقافيا توارثته الأجيال على مر العصور، وسنحاول الكشف عن تاريخ الاحتفال بالمولد النبوي في المغرب إلى حدود عصرنا الحالي باختصار، وقبله سنتحدث عن أول من سنه في المشرق.

فنقول: أول من سنّ إقامة الاحتفال بالمولد الشريف هو: صاحب إربل الملك المظفر أبو سعيد كوكبوري بن زين الدين علي بكتكين أحد الملوك الأمجاد والكبراء الأجواد، وكان له آثار حسنة، وهو الذي عمّر الجامع المظفري بسفح قاسيون” (أنظر: حسن المقصد في عمل المولد، 1/182).

وكان الملك المظفر عالما عادلا بطلا عاقلا كما صرح به غير واحد، وقال فيه الذهبي: “وكان متواضعا، خيّرا سنيا يحب الفقراء والمحدثين” (سير أعلام النبلاء جـ22 ص 335- 336). وقال عنه: “وكان محبا للصدقة، له كل يوم قناطير خبز يُفرّقها، ويكسو في العام خلقا ويعطيهم دينارا ودينارين، وبنى أربع خوانك للزّمنى والأضراء… وبنى دارا للنساء، ودارا للأيتام، ودارا للقطاء، ورتّب بها المراضع… وبنى مدرسة للشافعية والحنفية وكان يمد بها السماط… وكان يمنع دخول منكر بلده، وبنى للصوفية رباطين… إلى أن قال: وأما احتفاله بالمولد فيقصر التعبير عنه؛ كان الخلق يقصدونه من العراق والجزيرة وتُنصب قِباب خشب له ولأمرائه وتُزين… ويُخرج من البقر والإبل والغنم شيئا كثيرا فَتُنحر وتُطبخ الألوان، ويعمل عدّة خِلع للصوفية، ويتكلم الوعاظ في الميدان فينفق أموالا جزيلة. وقد جمع له ابن دحية “كتاب المولد” فأعطاه ألف دينار. “وابن دحية هذا هو أحد علماء المغرب الأماجد والحفاظ الأفاضل، قال عنه ابن خلكان: “كان من أعيان العلماء ومشاهير الفضلاء. قدم من المغرب فدخل الشام والعراق واجتاز بإربل سنة أربع وستمائة فوجد ملكها المعظم مظفر الدين يعتني بالمولد النبوي فعمل له كتاب *التنوير في مولد البشير النذير* وقرأه عليه بنفسه فأجازه بألف دينار”.

وفي ((جواهر البحار)) للعلامة النبهاني (ج3 ص338): أن الحافظ الإمام أبا شامة شيخ النووي أكثر الثناء على الملك المظفر بما كان يفعله من الخيرات ليلة المولد الشريف.

ويرجع تاريخ الاحتفال بالمولد النبوي الشريف في المغرب إلى منتصف القرن السابع للهجرة مع أسرة العزفيين في مدينة سبتة، حيث سنّ الشيخ أبو العباس أحمد بن محمد العزفي المتوفى سنة 639هـ الاحتفال بالمولد النبوي، وألف في ذلك كتابا سماه: “الدر المنظم في مولد النبي المعظم” وأكمله ابنه أبو القاسم المتوفى سنة 677هـ.

وأول ملك مغربي احتفل بالمولد النبوي هو السلطان الموحدي عمر المرتضى بن السيد أبي إبراهيم بن يوسف بن عبد المومن المتوفى عام 665 هـ، والذي تأثر في عمله بأمير سبتة أبي القاسم العزفي (أنظر تحقيق ديوان ابن الصباغ الجذامي، لنور الهدى الكتاني، ص: 53)، وقد كان لهذا السلطان اهتمام زائد وحرص شديد على إقامة الاحتفال بالمولد النبوي الشريف، وفي أحد احتفالاته أنشد له الشاعر والأديب أحمد بن الصباغ الجذامي إحدى روائع قصائده جاء في مطلعها:

                تنعم بذكر الهاشــــــمــــي محمـــــــد     ففي ذكره العيش المهنأ والأنـــسُ
                أيا شاديا يشدو بأمــــداح أحمـــــــد      سماعك طيب ليس يعقبُه نكـْــــــس
                فكررْ رعـــاك الله ذكـــرَ محمــــــــد      فقد لذت الأرواح وارتاحت النفــس
                وطاب نعيم العيش واتصل المنــــى      وأقبلت الأفـراح وارتفــع اللبـــــس
                له جمـع الله المعانــي بأســــرهــــا      فظاهره نــور وبـــاطنه قـــــــــدس
               فكل لـــه عـرس بذكـــــر حبيبـــــــه      ونحن بذكر الهاشميِّ لنا عــــــرس

وما يزال أحد أبيات هذه القصيدة حتى يومنا هذا بمثابة لازمة ينشدها المادحون والمُسمِّعون في حلقاتهم، وهو قوله:

               وقوفا على الأقــــدام في حق سيــــد     تعظمه الأمــلاك والجن والإنــــس

وقد استحسن علماء المغرب إقامة الاحتفال بمولده صلى الله عليه وسلم والانتصار له ودفع كل شبهة ولبس عمن ينكره:

        يقول صاحب مرآة المحاسن (ص 280): “وما جرى الرسم به في الآفاق من الاحتفال له منذ مئين من السنين، وإلحاقه بأعياد المسلمين؛ مما تولى العلماء رضي الله عنهم  تمهيد سبيله، وتأييد دليله، بما يشفي صدور قوم مؤمنين، وتطمئن له قلوب المحبين الموقنين”.

ويقول العارف بالله ابن عباد الرندي: “والذي يظهر لي أنه عيد من أعياد المسلمين، وموسم من مواسمهم، وكل ما يقتضيه الفرح والسرور بذلك المولد المبارك، من إيقاد الشمع وإمتاع البصر، وتنزه السمع والنظر، والتزين بما حسن من الثياب … أمر مباح لا يُنكر، قياسا على غيره من أوقات الفرح”. (المعيار11/278)

وذكر ابن عباد رحمه الله ونفع به أنه خرج في يوم ميلاده عليه السلام إلى خارج البلاد، فوجد الولي الصالح الحاج ابن عاشر رحمه الله مع جماعة من أصحابه، فاستدعوه لأكل الطعام، قال فاعتذرت بأني صائم فنظر إليَّ الشيخُ نظرة منكرة، وقال لي: إن هذا اليوم يوم فرح وسرور، فلا يستقيم فيه الصيام لأنه يوم عيد.

قال رحمه الله: فتأملت كلامه فوجدته حقا، وكأني كنت نائما فأيقظني” (المعيار 11/279.)

وقال ابن مرزوق في كتابه (جنا الجنتين في شرف الليلتين): “سمعت شيخنا الإمام أبا موسى بن الإمام رحمة الله عليه وغيره من مشيخة المغرب، يُحدِّثون فيما أُحدث في ليالي المولد في المغرب، وما وضعه العزفي في ذلك، واختاره وتبعه في ذلك ولده الفقيه أبو القاسم وهما عن الأئمة، فاستصوبوه واستحسنوا ما قصده فيها والقيام بها” (المعيار11/279-280).

وفي عهد المرينين اكتسى الاحتفال بالمولد النبوي طابعا رسميا حيث أصدر السلطان أبو يعقوب عبد الحق المريني ظهيرا يجعل من ذكرى المولد عيدا رسميا للبلاد وذلك سنة 681هـ، وتم توقيف العمل فيه، لكي يشارك الناس في التظاهرات الدينية والثقافية والعلمية المقامة في هذا العيد، وليعبروا عن مدى حبهم وتفانيهم في النبي صلى الله عليه وسلم، وإلى ذلك أشار مالك بن المرحل بقوله:

                    فحق لنــا أن نعتنـي بــولاده           ونجعل ذلك اليوم خير المواسم

                    وأن نصل الأرحام فيه تقربا           ونغدو له من مفطرين وصائـم

                   ونترك الشغل إلا بطـــــاعة           وما ليس فيـه من مــلام ولائــم
                                                         (نثير الجمان لابن الأحمر، ص:236-238).

وفي عهد السعديين بلغ الاحتفال بالمولد النبوي الشريف أَوْجَه من التعظيم والاهتمام البالغ خاصة في عهد أحمد المنصور الذهبي في قصره البديع. قال الفشتالي في كتابه: (مناهل الصفا في أخبار الملوك الشرفا، ص: 236-238): “والرسم الذي جرى به العمل… أنه إذا طلعت طلائع ربيع الأول… توجهت العناية الشريفة إلى الاحتفال له بما يربي على الوصف… فيصيّر الرقاع إلى الفقراء أرباب الذكر على رسم الصوفية من المؤذنين النعارين في السحر بالأذان.. حتى إذا كانت ليلة الميلاد الكريم.. تلاحقت الوفود من مشايخ الذكر والإنشاد… وحضرت الآلة الملوكية… فارتفعت أصوات الآلة وقرعت الطبول، وضج الناس بالتهليل والتكبير والصلاة على النبي الكريم… وتقدم أهل الذكر والإنشاد يقدمهم مشايخهم… واندفع القوم لترجيع الأصوات بمنظومات على أساليب مخصوصة في مدائح النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، يخصها اصطلاح العزف بالمولديات نسبة إلى المولد النبوي الكريم، قد لحنوها بألحان تخلب النفوس والأرواح… وتبعث في الصدور الخشوع، وتقشعر لها جلود الذين يخشون ربهم، ويتفننون في ألحانها على حسب تفننها في النظم. فإذا أخذت النفوس حظها من الاستمتاع بألحان المولديات الكريمات تقدم أهل الذكر المزمزمون بالرقيق من كلام الشيخ أبي الحسن الششتُري رضي الله عنه وكلام القوم من المتصوفة أهل الرقائق. كل ذلك تتخلله نوبات المنشدين للبيت من نفيس الشعر… هكذا كان دأبه رحمه الله في جميع الموالد، ولا يحصى ما يُوزع فيه من أنواع الإحسان على الناس”.

وكان الصوفية يجعلون من هذا الحدث العظيم مناسبة لمضاعفة أعمالهم الخيرية من مواساة المساكين والضعفاء والمحرومين والأخذ بيدهم وإعانتهم على نوائب الدهر…، فهذا الشيخ أبو المحاسن الفاسي يطعم الناس في ذلك اليوم ما لذ وطاب من الطعام “حتى يعم ذلك الناس، ويحضر خلق من المساكين لا يحصون؛ فيأكلون ويحملون ما أمكن يصنع ذلك في اليوم الثاني عشر(…) وفي سابعه أيضا؛ وهو: اليوم الثامن عشر على ما جرت به العادة في فاس”. (مرآة المحاسن، ص: 281)

وفي عهد الدولة العلوية الشريفة استمر ملوكها في إحياء ليلة المولد النبوي الشريف بأبهى حلة وأروعها، فيتم الاستعداد لهذا الحفل الديني البهيج شهورا قبل حلول شهر ربيع الأول وذلك بقراءة كتاب الشفا للقاضي عياض وصحيح الإمام البخاري، وتدارس سيرة وشمائل النبي صلى الله عليه وسلم…

واستمر الأمر على هذا الحال إلى عهد الملك المبجل أمير المؤمنين جلالة الملك محمد السادس نصره الله، والذي يترأس حفلا دينيا كبيرا كل سنة اقتداءا بأسلافه المنعمين، حيث يحضره عدد كبير من العلماء ورجالات الدولة، وعدد كبير من أعضاء السلك الدبلوماسي المعتمد في المغرب، فيتم في هذه الليلة المباركة تلاوة القرآن الكريم، وإنشاد العديد من الأمداح النبوية الشريفة والقصائد الملهبة للوجدان الروحي نحو النبي صلى الله عليه وسلم وكذلك هي مناسبة يهدف من خلالها جلالته إلى إكرام العلماء وحملة كتاب الله العزيز والتنويه بمجهوداتهم المشكورة من خلال توزيع الجوائز على الفائزين منها جائزة محمد السادس للفكر والدراسات الإسلامية، وكذلك جائزة محمد السادس للخط المغربي، وكذلك جائزة محمد السادس الدولية لحفظ القرآن الكريم مع الترتيل والتجويد والتفسير…

كما يعمل جلالته على إصدار العفو على العديد من المسجونين في ربوع مملكته السعيدة لتعم الفرحة بيوم مولده صلى الله عليه وسلم.

وبعد هذه الجولة السريعة في تاريخ الاحتفال بالمولد النبوي الشريف يتبين لنا مدى التعظيم والحب الذي يُكِنُّهُ المغاربة قاطبة ملكا وشعبا لصاحب هذه الذكرى العظيمة على طول تاريخ المغرب والذي تُترجمه احتفالاتهم البهيجة من قراءة سيرته وشمائله صلى الله عليه وسلم، وإنشاد الأمداح النبوية… وإظهار الفرح والسرور بيوم مولده صلى الله عليه وسلم.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق