مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةشذور

من ذاكرة الاحتفال المغربي بعيد المولد النبوي

 

إسماعيل راضي

مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصة

إن الباحث في التاريخ الثقافي والاجتماعي للمغرب يظهر له بجلاء ما كان لعلماء المغرب وأولي الأمر فيه من دور رائد في الاعتناء بذكرى المولد النبوي الشريف إحياءً وتعريفا، تأصيلا وتقعيدا، شرحا وتحليلا، بيانا وتفصيلا…

وظلت الاحتفالات بالمولد عند المغاربة متواصلة ومتوارثة حتى سارت واقعا مُتأصِّلا، نابعا من تعلقهم بالحضرة النبوية، وفي ذلك ما ينسجم مع عمل القاضي عياض في العهد المرابطي الذي ألف كتابه «الشفا بتعريف حقوق المصطفى»، والذي يحمل في طياته تعريفا وتنويها بحقوق أفضل الخلق وسيدهم، وفي ثناياه حُبّا وتعلقا بجنابه الشريف صلوات ربي وسلامه عليه.

وتتجلى مظاهر الاحتفال بالمغرب في إقامة ليالٍ دينية لتدارس القرآن وتلاوة الأذكار والصلوات، ومهرجانات للمديح والسماع، وحلقات علمية لسرد السيرة النبوية والتملِّي بالشمائل المحمدية على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى السلام، وعقد مجالس للعلم ومواكب دينية.

وقد أنتج الاهتمام بهذه الذكرى، ومنذ القرن السابع الهجري، أدبا نثريا وشعريا جديدا عُرف ب «الموالد النبوية» أو «المولديات»، وأصبح تراث «الموالد» النبوية مجالا غزيرا وواسعاً يستقطب الباحثين من مختلف البقاع ومن شتى التخصصات.

وواصل علماء القرويين الانتصار لهذا العمل مُظهرين فائدته العظمى، ودوره الفعال في التعبئة الوجدانية للأمة، من ذلك ما نقله الشيخ بنيس في شرحه على همزية الإمام البوصيري، أن ليلة المولد ويومها: عيد وموسم، يتعين أن يُعَظَّم ويُحترم، ويُعمل فيه ما يدل على التعظيم والاحترام، وهو ما اختاره الحافظان العراقي والسيوطي.

وذكر عبد الرحمن الكتاني ومحمد الكتاني في تقديمهما لكتاب والدهما محمد الباقر الكتاني «روضات الجنات في مولد خاتم الرسالات» خمسون كتابا لمُؤلفين مغاربة تتعلق كلها بأهمية الاحتفال بالمولد النبوي الشريف وفوائده العظمى…

وجاء في “تائية المنى والسول في ذكر مولد الرسول، للعلامة الأديب سيدي الحاج أحمد سكيرج رحمه الله ورضي عنه، تحقيق: ذ.محمد الراضي كنون الحسني الإدريسي”، قوله:

“كان العلامة سكيرج رحمه الله حريصا على تعظيم ذكرى المولد النبوي المجيد وإحياء مناسبتها الكريمة، واستيعاب الدروس النافعة منها، وما أكثر دروسها، وما أعظم العبر المستخلصة منها. كيف لا وهي بداية مرحلة بشرية سامية، ذات معان وآفاق غير معهودة من قبل، ويكفي أن نذكر في هذا الصدد بزوغ  فجر أمته التي وصفها الله عز وجل في كتابه العزيز بقوله: (كنتم خير أمة أخرجت للناس تامرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتومنون بالله).

ومن خلال هذا المولد الجليل، الذي هو عبارة عن نظم مبارك، حاول المؤلف فيه استنهاض الهمم الفاترة، واستنفار الطاقات في محبة هذا النبي الكريم، الذي جعله الله رحمة للعالمين، ومبشرا ونذيرا ومفتاحا لسائر النعم والخيرات، كما دعا من خلاله كافة المومنين إلى التعرض لنفحات هذه الذكرى العزيزة، التي هي ذكرى يمن وبركة وفرج، مع حثهم على الإهتداء بهديه صلى الله عليه وسلم، واقتفاء خطاه والسير على منهاجه، وطريقه، والزيادة من محبته، والتعلق به، والإعتصام  بحبله، إلى غير ذلك من مغازي أخرى.

وكثيرا ما كان يقول رحمه الله: أن العبرة بهذه الذكرى الغالية تكمن في عموم اللفظ لا بخصوص السبب، كما هو مقرر ومعروف عند الأصوليين، ولاحجة لمنكر هذه الذكرى أو  القائل بعدم شرعيتها، بل هو عمل حسن محمود، وفرصة للقاء المسلمين على الخير، وقراءة القرآن وسرد السيرة النبوية العطرة،  وسماع القصائد النبوية الجليلة، كالهمزية والبردة وبانت سعاد، إلى غير ذلك من تلاوة قصة المولد، وتشنيف الأسماع بخبر ولادته صلى الله عليه وسلم، وما زامنها من أحداث، ومسرات وخوارق وعادات، ومعجزات وآيات وغيرها…

وقد سرد هذا النظم المبارك في رحاب الزاوية التجانية الكبرى بمدينة فاس مرات عديدة، لاسيما ما بين عامي 1326-1336هـ  موافق 1908-1918م، حيث كان المؤلف مقيما بمدينة فاس، وكان للاحتفال بذكرى المولد النبوي وقتئذ طابع خاص، إذ هو أضخم احتفال سنوي تعيشه الزاوية المذكورة، حيث تمتلئ عن آخرها بساداتها المريدين الذين يقصدونها من كل فج عميق، بغية إحياء الليلة المباركة في محفل مهيب، تنشرح فيه النفوس، وتقر فيه الأعين وتوزع فيه كؤوس الشاي والحلوى باختلاف أنواعها، والتمر والحليب والكسكس، وألوان من المأكولات والفواكه وغيرها. كما تكون الزاوية في تلك الليلة كأنها عروس متألقة في حلل بهية وأنوار متناسقة، وروائح عطرة، وأجواء سعيدة”.

وكانت الحفلات بالمغرب تقام منذ العهد المريني (671هـ) في الزوايا والمدارس والمساجد وحتى في المنازل، ويذكُر ابن الدراج في كتابه «الإمتاع والانتفاع بمسألة سماع السماع» بأن أكثر ما يتغنى به أهل فاس في هذه المناسبة تتصل موضوعاته بمدح الرسول وتشويق النفوس إلى زيارة البيت الحرام ومواقعه، وإلى المدينة المنورة ومعالمها، كما يشير إلى ذلك الرحالة أبو علي الحسن الوزان الفاسي في كتابه «وصف إفريقيا»، فيذكر أن التلاميذ يقيمون احتفالا بالمولد النبوي، ويأتي المعلم بمنشدين يتغنون بالأمداح النبوية طول الليل.

وفي عهد الشرفاء السعديين اتخذ المنصور السعدي من عيد المولد النبوي أكبر احتفال رسمي للدولة والأمة، فكان يقيم في قصره بمراكش الحفلات الفخمة، يزينها بالشموع الموقدة، وبإنشاد القصائد والمولديات. وقد أفاض في هذا الموضوع العديد من المؤرخين، منهم أبو الحسن التمجرُوتي (1003 هـ) الذي قال في رحلته المسماة «النفحة المسكية في السفارة التركية» واصفا احتفال المنصور في مراكش عام 998هـ: “وأنشدوا القصائد ومقطعات في مدح النبي المكرم وفضل مولده العظيم، ونظموا في ذلك الدر المنظوم، وبالغوا في ذلك وأطنبوا… وانبسطوا بألسنة فصاح ونغمات ملاح وطرائق حسنة، وفنون من الأوزان المستحسنة، فأصغت الآذان عند ذلك بحسن الاستماع إلى محاسن السماع”. ومن هؤلاء أيضا أحمد بن القاضي المكناسي الذي نوه في كتابه «المنتقى المقصور على محاسن الخليفة المنصور» بما كان يصنعه بهذه المناسبة.

وأتى مؤرخ الدولة السعدية، عبد العزيز الفشتالي، بما يذهل الألباب في كتابه «مناهل الصفا في أخبار الملوك الشرفا» إذ يقول: “والرسم الذي جرى به العمل… أنه إذا طلعت طلائع ربيع الأول… توجهت العناية الشريفة إلى الاحتفال له بما يربي على الوصف… فيصيّر الرقاع إلى الفقراء أرباب الذكر على رسم الصوفية من المؤذنين النعارين في السحر بالأذان.. حتى إذا كانت ليلة الميلاد الكريم.. تلاحقت الوفود من مشايخ الذكر والإنشاد… وحضرت الآلة الملوكية… فارتفعت أصوات الآلة وقرعت الطبول، وضج الناس بالتهليل والتكبير والصلاة على النبي الكريم… وتقدم أهل الذكر والإنشاد يقدمهم مشايخهم… واندفع القوم لترجيع الأصوات بمنظومات على أساليب مخصوصة في مدائح النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، يخصها اصطلاح العزف بالمولديات نسبة إلى المولد النبوي الكريم، قد لحنوها بألحان تخلب النفوس والأرواح، وترق لها الإطلاع، وتبعث في الصدور الخشوع، وتقشعر لها جلود الذين يخشون ربهم، ويتفننون في ألحانها على حسب تفننها في النظم. فإذا أخذت النفوس حظها من الاستمتاع بألحان المولديات الكريمات تقدم أهل الذكر المزمزمون بالرقيق من كلام الشيخ أبي الحسن الششتُري رضي الله عنه وكلام القوم من المتصوفة أهل الرقائق. كل ذلك تتخلله نوبات المنشدين للبيت من نفيس الشعر”.(ص 11)

وما يزال أهل مدينة سلا يُحيون هذه المناسبة بموكب الشموع في إشارة إلى أن ولادة النبي صلى الله عليه وسلم كانت نورا وهداية للعالمين، وارتبط هذا الاحتفال بالولي الصالح الفقيه مولاي عبد الله بن حسون، والذي كان معروفَ القدر والمكانة عند المولى أحمد المنصور الذهبي. فكان رضي الله عنه مولعا بعمل المولد النبوي، عظيم الاحتفال به حيث كان يرأس هذا الاحتفال بنفسه، وكانت الاحتفالات تقام بزاوية مولاي عبد الله بن حسون طيلة أسبوع تخليدا لذكرى الرسول الكريم. وكان يأتيه لحضور موسمه عنده بزاويته من حواضر البلاد وبواديها العلماء والأولياء وشيوخ الزوايا وأهل السماع.

وسُئل العلامة أبو عبد الله بن عباد الرندي المغربي رحمه الله ونفع به عما يقع في مولد النبي صلى الله عليه وسلم من وقود الشمع وغير ذلك لأجل  الفرح والسرور بمولده عليه السلام. فأجاب: “الذي يظهر أنه عيد من أعياد المسلمين، وموسمٌ من مواسمهم، وكل  ما يقتضيه الفرح والسرور بذلك المولد المبارك، من إيقاد الشمع وإمتاع  البصر، وتنزه السمع والنظر، والتزين بما حسن من الثياب، وركوب فاره  الدواب: أمر مباح لا ينكر قياساً على غيره من أوقات الفرح، والحكم بأن هذه الأشياء لا تسلم من بدعة في هذا الوقت الذي ظهر فيه سر الوجود، وارتفع فيه علم العهود، وتقشع بسببه ظلام الكفر والجحود، يُنْكَر على قائله، لأنه مَقْتٌ وجحود. وادعاء أن هذا الزمان ليس من المواسم المشروعة لأهل الإيمان، ومقارنة ذلك بالنيروز والمهرجان، أمر مستثقل تشمئز منه النفوس السليمة، وترده الآراء المستقيمة”. (المعيار المعرب  والجامع المغرب عن فتاوي أهل إفريقية والأندلس والمغرب، 11/278)

ولا زالت إلى اليوم جُل الزوايا في كل المدن والمناطق المغربية تحتفل بالمولد النبوي، وتقيم له المواسم وتحيي له ليالي الذكر والمديح.

وورد في كتاب «مرآة المحاسن من أخبار الشيخ أبي المحاسن» أن الشيخ أبا المحاسن رضي الله عنه كان يطعم الناس في ذلك اليوم، … ويحضر خلق من المساكين لا يحصون، فيأكلون ويحملون ما أمكن؛ يصنع ذلك في اليوم الثاني عشر وفي سابعه أيضا، وهو اليوم الثامن عشر على ما جرت به العادة في فاس.

ومن مظاهر هذا الاحتفال بالمغرب، أن يقام على المستوى الرسمي احتفال يرأسه سلطان البلاد ويرعاه بنفسه، وتلتئم حول حضرته جموع من المسمعين الوافدين من مختلف حواضر المملكة. وما زالت هذه السنة دَيْدَنَ ملوك الدولة، دأبوا على إحيائها وتوارثوها خلفا عن سلف تأكيدا لحب المغاربة قاطبة لجدهم صلى الله عليه وسلم.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق