مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةدراسات عامة

من تضرعات القوم (2)

     الحمد لله الذي ظهر  بقدرته وبَيَّنها في عجائب آياته، وأظهر حكمته وأثبتها في غرائب مخلوقاته، وبَطَن بعزَّته في إشراق نوره وحجب سماواته، وأبطن أسرار ألوهيته في حقائق أسمائه وصفاته، فله الأزل باسمه البديع … وهو المبتدئ بالكرم والجود في إيجاد هذا الوجود، الإله المعبود المتجلي بجلال أحديته في آفاق البصائر، فالأبصار لا تدركه بالعيون في حجب العناصر، فالقلوب لا تنكره ولا تملكه، المتعالي بجمال وحدته على أفراد مخلوقاته، الظاهر بكمال وحدانيته في مصنوعات أرضه وسماواته، تقف الإحاطة البشرية عن كنه ما خلق، وتصعق النفوس المستبصرة لنوره إذا انفهق، وترجع الألباب حائرة في جريان فلكه، والعقول تائهة في حكمة ملكه، فالزمان ناء عنه والمكان متميز منه، علا فقهر، وبطن فخبر، وأوجد القدر، وتراءى لمن استبصر، واحتجب عن عيون البشر، فهو يدرك الأبصار من جهة إبداعها، وهي لا تدركه في كيفية اختراعها، خلق الأشياء سبحانه بشواهد العدم، وجعلها أدلة على الحدث والقدم، وأبقى لوجهه الديمومية والألوهية القيومية، فصار وجهه الباقي المالك وكل شيء دون وجهه هالكن لا إله إلا هو ولا هو إلا هو سبحانه وتعالى عما يصفون، وتنزه عما يقوله المشبهون والممثلون.

     اللهم أظهرني في نورك واجعلني من محاسن مقدورك، ولا ترني أعمالي حائلة بيني وبينك، ولا تمح صوراتي من عنايتك وعينك، وأرني أعمالي التي ألهمتني حركاتها، وأثبت أقوالي التي أوضحت لي مدركاتها، واجعلني من أشخاص حق اليقين السابقة على أهل الشمال واليمين، وارفعني بعنايتك إليك في درجات الرضا، وبصرني تصرفاتك في أحكام القضا حتى لا أرى غيرك ولا أتوهم سواك يا حنان يا منان يا رحمن، أنت الإله الأولى بالتقديم على ما يوصف بالقديم يا عزيز يا حكيم يا علي يا عظيم.

     إلهي إن جسدي هذا المركب الضعيف يؤذيني بحوزه، ويتمرد علي بسيطرته، ويلبسني العجز وينزع عني أردية العز، وأنا مستمسك بقوتك التي تمسك السماء أن تقع على الأرض، مستندا إلى حلمك وعفوك يوم العرض، إلهي وهذه حواسي تطالبني بما بسطت لها في جمال ملكك من الزينة، وتجذبني جواذب الطبع إلى الشهوات المهينة، وأنا بينهم في حرب ثائر وهم متواتر، والحدود والأحكام الشرعية تقيدني، والشيطان دونها يفندني، والنفس الأمارة بالسوء تماكرني، والمسولة للسوء تخاذعني، والنفس اللوامة تعنفني، والهوى يدفعني عن الحرية في نفسي المطمئنة، والدنيا وزينتها متسلطة علي، فإن تابعت بعض مقاصد النفوس الثلاثة لحقتني اللائمة من الخلق ولزمني الإثم من الحق.

     اللهم فأنجدني بجيش من بواطن عزك، يملأ قلبي نورا، ويضرب حولي من نصرك وعنايتك سورا، وألهمني يا إلهي الاستطاعة على الظفر بكنز القناعة، واعضد جسدي بالصبر عند هيجان الشهوة والغضب، وألبسني العافية الشافية وثبتني بالطمأنينة الكافية، يا إلهي وإني إلى تقويم نفسي من عوجها أحوج من تدبير جسدي، فإن رعونتها تحركني إلى ما يوقعني في الحياء منك، وتشغلني بالولع إلى ما لا حاجة لي إليه من مخالفتك، وإني إلى صحة توجهي إليك مضطر، وإلى رضاك عني محتاج، فأيد اللهم عقلي بنور اسمك الأعظم، واحرسني من سائر الأعداء فيما أعلم وفيما لا أعلم، وعاف جسدي من الأسقام والآثام والأوهام، ووفق لي الحلال وجنبني الحرام، يا خبير يا علام يا ذا الجال والإكرام، يا سميع يا بصير، يا علي يا كبير، يا عزيز يا قدير.

Science

ذ. محمد المنصوري

باحث بمركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصة بالرابطة المحمدية للعلماء

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق