مركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة العطرةأعلام

العلامة المحدث أبو زيد عبد الرحمن بن إبراهيم التَّغرْغَرْتِي السوسي(1278هـ)

بسم الله الرحمن الرحيم

 

 

بقلم: الباحث: د.محمد بن علي اليــولو الجزولي

 

جهوده في الحديث

مدخل:

      لقد أسهمت عدة عوامل في تكوين الملكة الحديثية عند العلامة سيدي عبد الرحمن التغرغرتي، وقد ذكر بعضها حفيده عبد الرحمن المنذر التغرغرتي [1] قال:” ومن العوامل التي ساعدته على البروز والظهور عصره الذي يمتاز بالاستقرار السياسي وبالازدهار العلمي، فقد أدرك محدثنا أواخر عهد الملك المصلح المولى محمد بن عبد الله العلوي الذي كان محبا للعلماء وأهل الخير، مقربا لهم، لا يغيبون عن مجلسه في أكثر الأوقات[2]. وكان له اهتمام كبير بالحديث النبوي، وكان العلماء أهل مجلسه”يسردون له كتب الحديث، ويخوضون في معانيها، ويؤلفون له ما يستخرجه منها على مقتضى إشاراته، وكانت له عناية كبيرة بذلك، وجلب من بلاد المشرق كتبا نفيسة من كتب الحديث لم تكن بالمغرب، مثل: مسند الأمام أحمد، ومسند أبي حنيفة”[3].

      إن هذه العناية الملكية بالحديث وأهله قد خلقت في مجالس العلم في هذه البلاد حركة علمية في الحديث وعلومه وشروحه، والناس على دين ملوكهم، وقد رد الله بهذا الملك الهمام لعلم الحديث وفقهه نضارته ورونقه، وراجت سلعته، وتُدُووِلَتْ مؤلفاته، وكثرت نقلته ورواته، وما كان جدنا ليكون بمعزل عن هذه الحركية العلمية رغم صغر سنه، فشيوخه كلهم محدثون، يروجون الكتب الستة، ويحاضرون فيها، وقد ذكر في تراجم شيوخه أن منهم من كان يحدث الناس بأحاديث”الجامع الصغير”، ويعظهم بمعانيها، ويشرحها لهم، مما يدل على أن علماء عصره كانت لهم دراية وعناية بالحديث دراسة، وتدريسا، ووعظا، وإرشادا، وكان الأمر كذلك في زمن المولى اليزيد كان يعظم العلماء ويشاورهم ويقترب منهم. ولم يشذّ زمن المولى سليمان بن محمد العلوي عن هذه القاعدة كذلك، فقد كان رحمه الله عدلا رفيقا بالرعية”[4] وكان يجمع أعيان العلماء لسرد الحديث الشريف وتفهمه، والمذاكرة فيه على مر الليالي والأيام، ويتأكد ذلك عنده في رمضان، ويشاركهم بغزارة علمه، ويُعظم العلماء الذين هم ورثة الأنبياء، ويرفع مناصبهم على سائر رجال دولته، حتى لقد تنافس الناس في أيامه في اقتناء العلوم، وانتحال صناعتها لاعتزاز العلم وأهله في دولته وسعَة أرزاقهم”[5].

      ويمكن إبراز مكانة التغرغرتي في العناية بالحديث من خلال النقاط الآتية:

أولا: مؤلفاته في علم الحديث:

ثانيا: أسانيده إلى كتب الحديث.

ثالثا: إجازاته.

رابعا: نساخته لكتب الحديث:

خامسا: تدريسه للعلوم الشرعية ، ونشره للسنة، وختمه للبخاري.

أولا: مؤلفاته في علم الحديث:

      لقد أولى الشيخ عبد الرحمن التغرغرتي رحمه الله للحديث وعلومه أهمية قصوى منذ شبابه وطلبه لهذا العلم الشريف، حيث اعتنى بأمهات الكتب الحديثية إقراء، وشرحا، ونسخا، واختصارا، واشتهر بين أقرانه بذلك، وإن أغلب مختصراته للشروح الحديثية قد درس أصولها على كبار شيوخه، فكانت فكرته هو الرجوع إلى هذه المطولات الحديثية واختصارها بأسلوب المحدثين المتقنين، حيث أفصح بنفسه عن هذا المنهج فقال في سياق ترجمته لشيخه أبي بكر بن أحمد التاكموتي فقال:” وسمعت منه بعض ” البخاري” وبعض “الجامع الصغير للسيوطي”، ولكن فهمي يومئذ قصير، وهمتي لصغري ضعيفة؛ إلا أن قلبي فيه هيبة الشيخ وتعظيمه عظمة لا تعادله بأحد من المشايخ والصالحين، فأورثني الله بها وببركته همة أدركتُ بها ما لم يخطر ببال من أعلم مني، وألهمني بها اختصارات من كتب الأئمة المطولات لينتفع بها قصيرو الهمة”[6].

      ومن المؤلفات الحديثية التي اشتغل عليها شرحا، واختصارا  سبعة كتب وهي:

1 ـ فرع إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري.

     اختصر فيه عبد الرحمن التغرغرتي كتاب:”إرشاد الساري بشرح صحيح البخاري” لشهاب الدين أحمد بن محمد القسطلاني (923هـ).

     والكتاب ذكره له العلامة محمد المختار السوسي[7]، وأشار إلى أنها حاشية مشهورة تدرس بالقطر السوسي فقال:”وقال لي من عرفها أنها غير مسهبة “، وعبد الحي الكتاني ذكر أنه:” في أربع مجلدات كامل”[8].

2 ـ أنوار منهاج المحدثين ومختصر ألفاظه للمهتدين.

      اختصر فيه عبد الرحمن التغرغرتي كتاب:”شرح مسلم” للإمام أبي زكريا محيي الدين النووي (676هـ). ذكره له السوسي في سوس العالمة[9].

3 ـ مختصر السراج المنير على شرح حديث الجامع الصغير.

      اختصر فيه عبد الرحمن التغرغرتي كتاب:”السراج المنير على شرح حديث الجامع الصغير” لعلي بن أحمد بن نور الدين محمد بن إبراهيم العزيزي، جمعه من شروح الكتاب، واعتمد فيه على شيخه محمد حجازي الشعراني المشهور بالواعظ، والحافظ عبد الرؤوف المناوي[10]، ذكره له السوسي في المعسول[11].

4 ـ مختصر نسيم الرياض في بيان من أشكل من كلام عياض.

      اختصر فيه عبد الرحمن التغرغرتي كتاب : «نسيم الرياض في شرح شفاء القاضي عياض» للقاضي شهاب الدين الخفاجي (1069هـ).ذكره له السوسي في المعسول[12] وقال إنه :” في جزء يعني في مبهم ألفاظ الشفاء”[13].

5 ـ أحاديث من الصحيحين.

     انتقى فيه عبد الرحمن التغرغرتي أحاديث من صحيحي البخاري ومسلم. ذكره له السوسي في المعسول[14].

6 ـ مختصر شرح جسوس على الشمائل النبوية للترمذي.

      اختصر فيه عبد الرحمن التغرغرتي شرح العلامة سيدي محمد بن قاسم جسوس الفاسي (1182هـ) الموسوم: “بالفوائد الجليلة البهية على الشمائل المحمدية للترمذي (279هـ)”، ذكره له العلامة محمد المختار السوسي في المعسول[15] ، وفي سوس العالمة[16] ، والدكتور يوسف الكتاني في مدرسة الإمام البخاري بالمغرب[17] ، والتليدي في تراث المغاربة[18] ، والدكتور الحسان حالي في الشروح المغربية على كتاب الشمائل النبوية لأبي عيسى الترمذي [19].

7 ـ مختصر شرح الفيشي للأربعين النووية.

      اختصر فيه عبد الرحمن التغرغرتي شرح الأربعين النووية للعلامة يوسف بن حسام الدين الفيشي الأزهري (1061هـ)، ذكره له السوسي في المعسول[20].

      قال محمد المختار السوسي:”وهذه المؤلفات توجد كلها الآن بخط يده في خزانة حفيده سيدي عثمان، وقد رأينا ما يدل على أنه زاول مسند أحمد، وبقية الكتب الست، فهذا كله يعلم أن ما قاله فيه الدمناتي حق وصدق، فلسنا نعرف الآن في عصره، بسوس من يروج هذا الرواج في الحديث، في مختلف كتبه بعد آل ( تاكار كوست ) اليعقوبيين، وهي همة عظيمة إن نظر إلى ما يقوم به أيضاً من التعليم كل نهار، وإلى أعماله الحيوية من معاناة أمور المعاش فرحم الله تلك الهمم”[21].

      وقال شيخنا الدكتور سيدي أحمد فكير الروداني بعد كلام السوسي:” وهذا الذي ذكره السوسي إنما كان يوم كتب ترجمته، أما اليوم فالموجود منها بخزانة حفيده عبد الرحمن الطيب الكتب الأربعة الأولى، أما مختصر شرح جسوس على الشمائل النبوية للتمرذي، ومختصر شرح الفيشي للأربعين النووية فلا يوجدان”[22].

ثانيا: أسانيده إلى كتب الحديث:

      قال حفيده:” اعتنى جدنا رحمه الله بهذا الجانب المهم والأساسي في علم الحديث اعتناء كبيرا، واهتم بإيراد أسانيده اهتماما بليغا سيرا على تهج المحدثين الجهابذة الذين ينسبون علمهم ويذكرون شيوخهم[23].

1 ـ سنده إلى الجامع الصحيح :

      اعتنى التغرغرتي برواية صحيح البخاري بالأسانيد العالية، حيث افتتح “شرح القسطلاني” بسلسلة سنده العالي وأورده من عشرين واسطة، وهو الذي قال عنه الدمناتي في فهرسته :” لا يعلم أعلى منه في المشرق والمغرب”[24].

ثم ختم مقدمته بقوله:” أما صحيح البخاري فقد قرأته على عدة من المحدثين، وسمعته من آخرين”، ثم ساق سنده عن شيوخه في رواية حديث سلمة بن الأكوع رضي الله تعالى عنه الذي أخرجه البخاري[25]: أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث رجلا ينادي في الناس يوم عاشوراء: أن من أكل فليتم أوفليصم، ومن لم يأكل فلا يأكل. ثم أورده بسند أعلى بطريق الإجازة[26][27].

2 ـ سنده إلى صحيح مسلم:

      قال حفيدة: “كما أسند في بداية “مختصره لشرح النووي على مسلم[28].

3 ـ سنده إلى الجامع الصغير للسيوطي:

      حيث أسند في بداية “اختصاره لشرح الإمام العزيزي على الجامع الصغير للإمام السيوطي“، قال حفيده:” وقد صرح جدنا بسماعه عن شيوخه لدى حديثه عن ” الجامع الصغير” للسيوطي فقال:” سمعته من الفقيه الورع أبي بكر بن أحمد التاكموتي، عن أبي العباس أحمد بن محمد الأساوي، عن أبي عبد الله محمد بن أحمد الحضيكي، عن أحمد الصوابي، عن أحمد بن ناصر، عن الخرشي، عن الأجهوري، عن النور القرافي، عن الجلال السيوطي”[29].

ثالثا: إجازاته:

      اهتبل التغرغرتي بالإجازة على عادة العلماء المعتنين، وحاز على ثقة أعلام عصره فأجازوه في كتب الحديث وغيرها لما لمسوا منه من بلوغ النهاية فيها، وممن أجازه: 

1 ـ شيخه العلامة أبو عبد الله محمد بن أحمد الوَلتي الطَّاطائي (1295هـ): أجازه إجازة عامة، وأذن له في التبليغ والتعليم، وقال في آخر سنده في “صحيح البخاري”:”وأعلى منه بطريق الإجازة روايتنا عن خاتمة المحققين بالزاوية الناصرية مولانا محمد بن عبد الله العمراوي الأنصاري، عن محيي السنة بجزولة أبي عبد الله محمد بن أحمد الحضيكي”[30].

2 ـ إجازة محمد بن محمد الهنائي من بني حسين (كان حيا عام 1278هـ): لأبناء التغرغتي إجازة عامة، جاء فيها: ” أما بعد  فبعد الاستدعاء الذي هو ركن من أركان الإجازة أقول وإن لم أكن أهلا ولكن كما قيل:

 

ولكن البلاد إذا اقْشعرَّت

*** وَصَوَّح نبْتُها رُعِيَ الهَشِيمُ[31]

والتشبه بالكرام رباح، أجزت لأولاد شيخي سيدي عبد الرحمن بن إبراهيم الهوزالي، الفقيه سيدي محمد بن عبد الرحمن، وإخوانه إجازة عامة في جميع مروياتي ومسموعاتي، عن أشياخي، عن أشياخهم وأشياخ أشياخهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم، كما أجازوني في جميع ذلك، وأذنت لهم إذنا عاما في كل ما وافق السنة المحمدية، وأوصيهم ونفسي بتقوى الله العظيم، وأذنت للفقيه سيدي محمد بن عبد الرحمن المذكور في مجلس التعليم للعلم في بلدهم، وأن يتعاطاه هو وإخوته في مدرستهم، أعانهم الله تعالى، وأوصي إخواننا في الله وأحبتنا من المسلمين بتوقيرهم ومعاونتهم إياهم على دين الله تعالى: (وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان) [32] خصوصا الجيران، فمن أعانهم على دين الله تعالى وطاعتهم من الجيران وغيرهم أعانه الله ونصره، ومن رامهم بما يضرهم، أو قصر في حقهم قصمه الله، ورد ضرره في نحره، وأن يقولوا لا ندري فيما لا يدرون، وغيرهما من شروط أهل هذا الفن، جعلهم الله مصابيح وهداة يقتدى بهم بجاه النبي صلى الله عليه وسلم، وبه كتب من أحتاج لدعائهم في كل وقت ومجلس عبد ربه تعالى غريق وزره، محمد بن محمد من بني حسين الهنائي لطف الله به آمين، في انسلاخ شوال عام 1278ه‍”[33].

3  ـ اجازة العلامة الحسن بن أحمد الميموني التيمكيدشتي (1296):

     جاء فيها: “الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وكما أجاز الفقيه أعلاه الفقهاء المذكورون أجزناهم، وأذنا لهم في التعليم والإرشاد، والدلالة على الخير، وأوصيناهم بالإخلاص لله تعالى في علمهم وعملهم، حتى من شهود الإخلاص وذلك باعتقاد أن كل ما منا من نعمة فمن الله تعالى، وفقهم الله وجعلنا وإياهم من أهل السنة والجماعة، ومن المتحابين في الله، المتزاورين في الله، بجاه النبي وآله، وأوصى جارهم بالتعظيم والاحترام والإعانة، وقبول النصح والإرشاد من هؤلاء السادات، فالله يوفق الجميع والسلام، في أواسط ربيع الثاني عام 1279ه‍ الحسن بن أحمد الميموني بـ ( تيمكيدشت ) لطف الله به آمين “ [34].

رابعا: نساخته لكتب الحديث:

      قال حفيده:” صرف جدنا همته إلى كتابة الحديث، فقد كتب بيده نسخا من “صحيح البخاري”، و”مسلم”، وكتب مختصراته بيده بخط حسن مقروء، سالكا في ذلك مسلك المؤلفين قديما”[35]، وقد استمرت معه هذه المهنة إلى أواخر عمره حيث قال المحتار السوسي :” توفي عن سن عالية تناهز التسعين، سنة 1278ه‍، وقد رأيت بعض مخطوطات له يكتبها في شيخوخته بيد ترتعش”[36].

خامسا: تدريسه لعلوم الحديث ، ونشره للسنة، وختمه للبخاري.

1 ـ تدريسه للعلوم الشرعية:

     لقد كانت للتغرغرتي رحمه الله همة منقطعة النظير في تعليم أبناء المسلمين، وتفانيه في بث العلم الشرعي ولغة القرآن في الربوع السوسية، حيث نجده بعد تخرجه انكب مباشرة على التدريس والإفادة والتأليف وبناء المدارس العلمية، والتدريس فيها دون كلل أو ملل، وتحبيس الأوقاف عليها، ومن المدارس التي درّس فيها وأحيا فيها العلم[37]:

أ ـ مدرسة تَامورت التي توجد بجماعة زَاكْمُوزنْ غرب تَالوِين، قال عمر الساحلي عنها:”أسسها الفقيه السيد عبد الرحمن التغرغرتي، وتبعه فيها سيدي عبد الله بن وحمان قبل 1200هـ، حسبما حكى لنا ولده رضا إسماعيل”[38].

ب ـ مدرسة سيدي عبد العزيز بِإمَادِيدينْ سكتانة، وقد أوقف عليها الجد نسخة “للبخاري” و”مختصره لشرح القسطلاني”.

ت ـ مدرسة سيدي سعيد أحماد بفرقة تِيرْكْتْ جنوب أَوْلُوز، وقد أدت دورا في تثقيف النشء وتعليمهم مدة مديدة من الزمان[39].

ث ـ مدرسة سيدي إبراهيم أَعْمَر بإداوْزدُّوت.

ج ـ المدرسة الكَرْبَانية عند مشهد سيدي محمد بن مسعود الكرباني.

2 ـ نشره للسنة:

      كان سيدي عبد الرحمن التغرغرتي محدثا، ومؤرخا، ومربيا، مهتما بالحديث على غير عادة أهل زمانه السوسيين، شغوفا بحب سنة النبي صلى الله عليه وسلم، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، أسس لأجل ذلك عدة مدارس لتحفيظ القرآن الكريم، وتدريس العلوم الإسلامية من فقه، وحديث، وسيرة، وتفسير، ونحو، ولغة، بقريته إيـمِّي نْ- وَدَايْ بقبيلته تغرغرت.

       وكان لانتسابه رحمه الله للطريقة الناصرية التي تلقاها عن كبار شيوخه الأثر البارز في تشبته بالسنة ومقته للبدع والأوهام والخرافات، هذه الطريقة السنية التي أسسها العلامة محمد بن ناصر الدرعي المتوفى عام (1080هـ) عرفت شهرة وانتشارا كبيرا حسبما ذكره المنصر شارل دوفوكو في كل من : وادي درعة، ومنطقة السوس كلها، وقسما كبيرا من القبائل البربرية في الصويرة وتافيلالت، ولها زوايا في فاس، وفي تمبوكتو”[40].

    وقد أسهم التغرغرتي رحمه الله في نشر الطريقة الناصرية بين طلبته وزواره ومحبيه، حتى عدت الأسرة التغرغرتية من بين الأسر التي لها دور كبير في نشر هذه الطريقة بسوس، حيث قال المختار السوسي:”إن الطريقة الناصرية هي الوحيدة المشهورة في سوس منذ أوائل القرن الثاني عشر الهجري، إلخ. واقرأ إن شئت أخبار آل تاكوشت وأدوز، كما تجد ذلك من أعمال الحضيكي، وأحمد الصوابي، وعبد الرحمن التغرغرتي”[41].

      قال حفيده:”وكان رضي الله عنه وهو معتنق لهذه الطريقة سنيا ملتزما، محاربا للبدع لما هو عليه من علم بالسنة، ودراية بالحديث، وقد منعه علمه من الوقوع في البدع والخرافات التي ألصقها بعض الأدعياء بهذه الطريقة، كما كان رحمه الله سنيا في جميع أحواله الظاهرية والباطنية، العلمية والعملية، وهو القائل في مقدمة كتابه:”مفتاح البركة”: جمعت فيه من نفائس الفوائد الموافقة للسنة ما يغني عن الذي ابتدعته المبتدعة من طلب الرزق بالعزائم، والاستعانة بالجن، وطلب الدفائن، ونحوه مما ليس في كتاب ولا سنة، ولا مروي أحد من السلف الصالح”[42].  

3 ـ ختمه “لصحيح البخاري”:

      قال حفيده:”لقد اعتاد جدنا سيدي عبد الرحمن التغرغرتي أن يدرس البخاري في زاويته التغرغرتية جريا على ما كان عليه العمل في زوايا المغرب ومجالسه الخاصة والعامة؛ غير أنه يؤجل ختام “صحيح البخاري” إلى اليوم السابع من ولادة الرسول صلى الله عليه وسلم خلافا لما عليه العمل، وكانت تُعد لسرد “البخاري” وختامه ما يحتاج إليه الزوار والحاضرون من الطلبة، والفقهاء، والعلماء، والشرفاء، والفقراء، والصالحين من طعام وشراب، وقد استمر ذلك في عهده، فلما قرب أجله أوقف على ذلك ربع تركته استمرارا لهذه السنة الحميدة، فقال في وصيته المشهورة رحمه الله:” وكُتُبُ الحديث، وشرّاحه، والسير، واللغة، ومدح المصطفى صلى الله عليه وسلم، فحبس لله تُقرأ في رمضان، وتُختم في سابع عيد المولد من كل سنة، وقد حَبست على قراءتها وإصلاح ما فسد منها، وأُجْرَةُ قرائه، ما ردته جبة بني علي إلى الجير أرضا، وشجرا، ومياها”[43].

      ولم يكتف بسرد “البخاري” في زاويته بإمي ن- وادار، بل أقامه في المدارس التي أسسها وجدد التعليم فيها، وأوقف عليها نسخا من “البخاري”، و”مختصره لشرح القسطلاني”؛ وقد خالف توقيت الختم في هذه المدارس حتى يتسنى له حضور الختم في الجميع، أول المدارس ختماً هي مدرسة تامورت التي يُختم فيها في الثالث من شوال، تليها مدرسة سيدي عبد الله أبورزك في الثامن منه، ثم مدرسة سيدي سعيد أُحمد بتيركت في الخامس عشر منه، أما المدرسة العزيزية فالختام فيها يكون في الخميس الأول من غشت الفلاحي.

      وقد استمر نظام سرد البخاري وختامه بعد موت جدنا رحمه الله رغم الفتور الذي عرفته الدراسة في الزاوية، إلى أن جاء عهد والدنا الكريم[44]  الذي طور الموسم، وجعله موئلا للعلماء، ومثابة للصالحين، يحضره المحبّون من كل مناطق المغرب”[45].

وفاته

      توفي العلامة سيدي عبد الرحمن التغرغرتي رحمه الله بعد حياة مليئة بالعطاء، والنفع، والإفادة، ونشر السنة بالقطر السوسي عن سن عالية تناهز التسعين في أواخر الدولة الرحمانية بسوس عام (1278هـ) [46].

 الخاتمة

     وفي ختام هذا المقال أحمد الله عز وجل أن وفقني للحديث عن علم من أعلام هذا البلد الطيب، الذي ترك لنا أثرا ذا بال في الحديث، والتدريس، والإفادة ونشر السنة إلى آخر نفس من أنفاسه الزكية الطاهرة فرحمه الله رحمة واسعة، ونور مضجعه.

      وأسأل الله جل في علاه أن يتقبل مني هذا العمل، ويجعله في ميزان حسناتي.

والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.

 **********************

لائحة المصادر والمراجع:

 

-أجلى مساند على الرحمن في أعلى أسانيد علي بن سليمان: لأبي الحسن علي بن سليمان الدمناني البجمعوي، طبعة حجرية غير مؤرخة.

-الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى: لأبي العباس أحمد بن خالد الناصري، ت: جعفر الناصري، ومحمد الناصري، دار الكتاب، الدار البيضاء،1418هـ/1997م.

-الأمالي: لأبي علي إسماعيل بن القاسم بن عيذون بن هارون بن عيسى بن محمد بن سلمان القالي، باعتناء: محمد عبد الجواد الأصمعي، دار الكتب المصرية، ط2، 1344 هـ / 1926م.

-تراث المغاربة في الحديث وعلومه: لمحمد بن عبد الله التليدي، دار البشائر الإسلامية، بيروت، لبنان ط1، 1416هـ/1995م.

-حياة العلامة سيدي عبد الرحمن التغرغرتي العلمية والعملية: لعبد الرحمن المنذر التغرغرتي، مقال منشور ضمن أعمال ندوة:” الشيخ العلامة المحدث عبد الرحمن التغرغرتي الهوزالي، المجلس العلمي لتارودانت بمدرسة الرحمن بإمي نوداي، 2009م.

-رجالات العلم العربي في سوس: لمحمد المختار السوسي، هيأه للطبع والنشر عبد الوافي المختار السوسي، مؤسسة التغليف والطباعة والنشر، طنجة، المغرب، ط1، 1409هـ/1989م.

-سوس العالمة: لمحمد المختار السوسي، مطبعة فضالة، المحمدية، 1380هـ/ 1960م.

-الشروح المغربية على كتاب الشمائل النبوية لأبي عيسى الترمذي (279هـ): للدكتور الحسن حالي، مركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة العطرة بالعرائش، الرابطة المحمدية للعلماء، الرباط، ط1، 1433هـ/2012م.

-فهرس الفهارس والأثبات ومعجم المعاجم والمشيخات والمسلسلات: لمحمد عبد الحي بن عبد الكبير الكتاني، اعتناء إحسان عباس، دار الغرب الإسلامي، بيروت، الطبعة الثانية، 1402هـ.

-المختصرات الحديثية للعلامة عبد الرحمن بن إبراهيم التغرغرتي (1278هـ): مقال للدكتور أحمد فكير منشور ضمن أعمال ندوة المجلس العلمي لتارودانت بمدرسة الرحمن بإمي نوداي، عام 2009 بعنوان: ” الشيخ عبد الرحمن التغرغرتي الهوزالي”.

-مدرسة الإمام البخاري بالمغرب: للدكتور يوسف الكتاني، دار لسان العرب، بيروت،  

-معجم الفرق والمذاهب الإسلامية: للدكتور إسماعيل العربي، دار الأفاق الجديدة، الدار البيضاء، ط1، 1413هـ/1993م

-المعسول: لمحمد المختار السوسي مطبعة النجاح الجديدة ط 1382هـ/1969م.

-معلمة المغرب: من إنتاج الجمعية المغربية للتأليف والترجمة والنشر، نشر: مطابع سلا، 1410هـ/1989م.

-المعهد الإسلامي بتارودانت والمدارس العتيقة: د. عمر الساحلي، دار النشر المغربية، الدار البيضاء، 1985م.

************

 هوامش المقال:

[1] ـ حياة العلامة سيدي عبد الرحمن التغرغرتي العلمية والعملية، (ص: 56).

[2] ـ الاستقصا (8 /66).

[3] ـ الاستقصا (8 /169).

[4] ـ الاستقصا (8 /269).

[5] ـ المصدر السابق (8 /170).

[6] ـ انظر ترجمته في : المعسول (18/ 231-232).

[7] ـ سوس العالمة (ص: 200)، ورجالات العلم العربي في سوس (ص: 219).

[8] ـ فهرس الفهارس (2 /138).

[9] ـ سوس العالمة (ص: 200).

[10] ـ مقدمة السراج المنير.

[11] ـ المعسول18 /224.

[12] ـ المصدر السابق 18 /224.

[13] ـ ا المصدر السابق 18 /231.

[14] ـ  المصدر السابق 18 /224.

[15] ـ المصدر السابق 18 /244.

[16] ـ سوس العالمة ص: 36.

[17] ـ مدرسة الإمام البخاري بالمغرب 2 /472.

[18] ـ تراث المغاربة في الحديث وعلومه لمحمد بن عبد الله التليدي  ص: 132 .

[19] ـ الشروح المغربية على كتاب الشمائل النبوية لأبي عيسى الترمذي ص: 74_77.

[20] ـ  المصدر السابق 18 /224.

[21] ـ المعسول (18 /224).

[22] ـ المختصرات الحديثية للعلامة عبد الرحمن بن إبراهيم التغرغرتي (1278هـ) مقال للدكتور أحمد فكير (ص: 71).

[23] ـ “حياة العلامة سيدي عبد الرحمن التغرغرتي العلمية والعملية: لعبد الرحمن المنذر التغرغرتي (ص: 62).

[24] ـ أجلى مساند على الرحمن في أعلى أسانيد علي بن سليمان (ص: 9)، و”حياة العلامة سيدي عبد الرحمن التغرغرتي العلمية والعملية: لعبد الرحمن المنذر التغرغرتي (ص: 62).

[25] ـ أخرجه البخاري في صحيحه كتاب: الصوم، باب: إذا نوى بالنهار صوما(1924) من حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه.

[26] ـ المختصرات الحديثية للعلامة عبد الرحمن بن إبراهيم التغرغرتي مقال للدكتور أحمد فكير (ص: 73-74).

[27] ـ مقدمة كتاب فرع إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري، الورقة: 4.

[28] ـ “حياة العلامة سيدي عبد الرحمن التغرغرتي العلمية والعملية: لعبد الرحمن المنذر التغرغرتي (ص: 62).

[29] ـ انظر مقدمة مختصر السراج المنير على شرح حديث الجامع الصغير للتغرغرتي. و”حياة العلامة سيدي عبد الرحمن التغرغرتي العلمية والعملية: لعبد الرحمن المنذر التغرغرتي (ص: 60)، و(ص: 62).

[30] ـ انظر “حياة العلامة سيدي عبد الرحمن التغرغرتي العلمية والعملية: لعبد الرحمن المنذر التغرغرتي (ص: 60).

[31] ـ البيتان لأبي علي البصير. انظر أمالي القالي (2/ 287).

[32] ـ المائدة: 2.

[33] ـ المعسول (18 /233-234).

[34] ـ المصدر السابق (18 /234).

[35] ـ انظر “حياة العلامة سيدي عبد الرحمن التغرغرتي العلمية والعملية: لعبد الرحمن المنذر التغرغرتي (ص: 61).

[36] ـ المعسول (224 /18).

[37] ـ المصدر السابق (ص: 63).

[38] ـ المعهد الإسلامي بتارودانت والمدارس العتيقة (4 /288).

[39] ـ المصدر السابق (5 /63).

[40] ـ معجم الفرق والمذاهب الإسلامية: د. إسماعيل العربي (ص: 363).

[41] ـ المعسول (11 /155).

[42] ـ انظر “حياة العلامة سيدي عبد الرحمن التغرغرتي العلمية والعملية: لعبد الرحمن المنذر التغرغرتي (ص: 67).

[43] ـ الوصية، مخطوطة.

[44]ـ وهو الفقيه الحاج الطيب بن محمد المنذر بن أحمد بن عبد الرحمن التغرغرتي مدير مدرسة الرحمن العتيقة بإمي ن- واداي.

[45]ـ انظر “حياة العلامة سيدي عبد الرحمن التغرغرتي العلمية والعملية: لعبد الرحمن المنذر التغرغرتي (ص: 67-68).

[46] ـ انظر تأريخ وفاته في : المصدر السابق (18 /224)، وفهرس الفهارس (2 /742).

*راجعت المقال الباحثة: خديجة أبوري

Science

د. محمد بن علي اليــولو الجزولي

  • أستاذ باحث مؤهل بمركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة النبوية العطرة بالعرائش، التابع للرابطة المحمدية للعلماء بالرباط.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق