مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةمفاهيم

هَلْ يَصحُّ في اللّغةِ: إنْ دَلَّ هذا عَلَى شَيءٍ فإنما يَدُلُّ على…

هَلْ يَجوزُ أن نَقولَ: إنْ دَلَّ هذا الأمرُ عَلَى شَيءٍ فإنما يَدُلُّ على كذا ؟ وهل هي عبارة سليمة لغويًّا ؟

لا أرى أنّ هذه العبارةَ تدلّ على المعنى المراد، إن كان التركيبُ سَليماً مؤلَّفاً من شَرطٍ وجَوابٍ فيه حَصرٌ؛ فلا تَكفي سَلامةُ العبارةِ إن كانَت يُقصَدُ بها مَعنى غيرَ موافقٍ لَها بَعيدَ المُطابقةِ لها، ولا يَقومُ التداوُلُ والشيوعُ بين الناسِ دليلاً مسوِّغاً لصحَّته؛ لأنّ مَعنى العبارَة في واد والعبارة في واد؛ ولعل الصوابَ في رأيي أن نَقولَ مَثلاً في رجلٍ تعددت محاسنُه: أقلُّ ما يُمكن وصفُ به هذا الرَّجلِ أنه لا يتردد في نُصرة المظلوم.

فإنْ قالَ القائلُ: لست أوافقُكَ الرأيَ بل العبارةُ صحيحةٌ؛ لأنّها تقوم على شَرطٍ وتَقديرُه: إن دلَّ على شيء… وهو شرطٌ مُشاعٌ، ولكنه يُحصَر في الجواب بقولنا: إنما يدل… وهذا من قبيل المبالغة في الوصف بالدلالة.

قُلنا لَه: الرأيُ عندي والله أعلَم أنّ العبارَةَ غيرُ سليمةٍ وفيها أثر عُجمة:

1- فقولُنا: “إن دلَّ على شيءٍ”، يُفيد ضمناً أنّه لا يدلّ، أوْ يُفيدُ أنّ لَه دلالةً ضعيفةً؛ وكأنّ التقديرَ: هذا الأمرُ غيرُ ذي معنى فإن دلَّ فإنّما تنحصر دلالتُه في… فوجه العَيْب فيه أنّه يحتملُ أن يدلَّ وأن لا يدلَّ؛ فإن دلَّ كانَ مَعْناه كذا.

 2- ويَعْني أنه في الأصل لا يدلّ على شيء؛ فإن خَرَجَ عن أصله ودلّ استثناءً وحصراً فإنما سيكون مَعْناه كذا…

3- ووجه الشذوذ فيه أنّ استعمالَه لدى فُصحاء القرون المتقدّمَة نادرٌ وكذلكَ كتّابُ العصور المتأخرة، وأثر العُجمة باديةٌ عليْه.

أما استعمالُ الجاحظ لمِثْلِه في بيانه: “إن يتركْه فإنما يتركُه لمن هو فوقه”، واستعمالُ المرزوقي لمِثْلِه في شرح الحماسة: “إن فَعلتَ ذلكَ فإنما تحتاجُ إلى إصلاحه من نفسك”.

فليسَ من هذا البابِ، والسياقُ غيرُ السياقِ؛ انظرْ إلى قَولِ شارح الحَماسَة :

« فبالخير لا بالشرِّ فَارْجُ مَوَدَّتي … وأيُّ امْرىء يُقْتَالُ منه التَّرهُّبُ

كأنه أقبلَ على هذا المُغْتابِ له، النّاحتِ أثلَتَه، المداجي له بعداوة كامنة مُستحكِمة في الصدر فقال له: هذه المودةُ التي تظهرها من نفسك لي، اُرْجُ انتفاعَكَ بالخير لا بالشّرّ؛ لأنكَ إن فعلتَ غير ذلك فإنما تحتاج إلى إصلاحه من نفسك » [شرح ديوان الحماسة لأبي علي المرزوقي (ت.421ه) تعليق: غريد الشيخ، فهرسة إبراهيم شمس الدين، منشورات محمد علي بيضون، دار الكتب العلمية، بيروت، 1424-2003، ص: 725]

أمّا قَولُ الجاحظ في “البَيان والتَّبيين”: «قالَ معاويةُ: إن يَطلُبْ هذا الأمرَ فقد يَطمعُ فيه مَن هو دونَه، وإن يَتركْه فإنما يَتركُه لمن هو فوقه. وما أراكُم بمنْتَهِينَ حَتى يبعثَ الله إليكُم من لا يَعطفُ عليكم بقَرابة، ولا يَذْكُركُم عند مُلمَّة، يَسومُكُم خَسْفا، ويورِدُكُم تلفا».

وفي روايَة للبلاذري في “أنساب الأشراف”؛ قَالَ : الْمَدَائِنِيُّ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلامٍ ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ نَوْفَلٍ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ ، قَالَ : ” تَنَازَعَ عَبْدُاللَّهِ ابْنُ الزُّبَيْرِ وَمَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ، فَمَالَ مُعَاوِيَةُ مَعَ مَرْوَانَ، فَقَالَ ابنُ الزُّبَيْر: يَا مُعَاوِيَةُ، إِنَّ لَنَا حَقًّا وَحُرْمَةً وَطَاعَةً، مَا أَطَعْتَ اللَّهَ نُطِعْكَ، إِنَّا يَا مُعَاوِيَةُ لا نَدَعُ مَرْوَانَ يَرْكَبُنَا فِي جَمَاهِيرِ قُرَيْشٍ بِمَشَاقِصِهِ، وَيَضْرِبُ صِفَاتِهِمْ بِمَعَاوِلِهِ، وَلَوْلا مَكَانُكَ كَانَ أَخَفَّ عَلَى رِقَابِنَا مِنْ فَرَاشَةٍ، وَأَذَلَّ فِي أَنْفُسِنَا مِنْ خَشَاشَةٍ، وَلَئِنْ مَلَكَ أَعِنَّةَ خَيْلٍ تَنْقَادُ لَهُ لَيَرْكَبَنَّ مِنْكَ طَبَقًا تَخَافُهُ، فَقَالَ مُعاويةُ إِنْ يَطْلُبِ الأَمْرَ فَقَدْ يَطْمَعُ فِيهِ مَنْ هُوَ دُونَهُ، وَإِنْ يَتْرُكْهُ يَتْرُكْهُ لِمَنْ هُوَ فَوْقَهُ، وَمَا أَرَاكُمْ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ بِمُنْتَهِينَ حَتَّى يَبْعَثَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ مَنْ لا يَعْطِفُ عَلَى أَحَدٍ مِنْكُمْ بِقَرَابَةٍ، وَلا يَذْكُرُكُمْ فِي مُلِمَّةٍ، يَسُومُكُمُ الْخَسْفَ وَيُورِدُكُمُ التَّلَفَ» رقم الحديث في “أنساب الأشراف”: 1438

الجملتان الشرطيّتان في النَّصَّينِ وَرَدَت كلُّ واحدةٍ منهما في سياقِ الاحتمالِ؛ فمن المُحتَمَل أن يَرجُوَ المرءُ انتفاعَه بالخَيْر من إظهارِ المودّةِ لغيرِه، أو يَرجُوَ غيرَ ذلِكَ وهو غافلٌ، فإذا تفطّن لَزمَه إصلاحُ زلَّته بنفسِه، فالأمران واردان مُحتَمَلانِ غير مَدفوعَيْن.

ففي قول الزُّبير لمُعاويةَ ما يُفيدُ أنَّ مَروانَ إنْ يُملَّكْ أعنةَ خيلٍ تَنقادُ له أو يُمكَّنْ منها يُخْشَ أمرُه، وإن لَم يُمكَّنْ أمِنَ النّاسُ. وهذان أمران مُحتملٌ وُقوعُ أحدهما

وفي ردّ مُعاويةَ على الزُّبير ما يُفيدُ أن مروانَ أهلٌ لهذا الأمرِ إن طَلَبَه فهو أحقُّ به من طامعٍ يَطمعُ فيه وهو دونَه. وإن لم يَطلبْه فسيَتولّاه مَن هو فوقَه. فالاحتمالان واردان يتبينُ منهما حرصُ معاويةَ على مروان وتَقديمُه له على غيرِه، مع خشية الزبير أن يَؤولَ الأمرُ إليْه.

فهذه النصوص تبيّن أن الجملَ الشرطيّةَ مَحكومةٌ بما يُمكن أن يَقَع. إذا وُجد الشرطُ وانتَفى المانعُ. أمّا قولهُم اليوَمَ : إن دلّ الأمرُ على شيء فإنما يَدل على … فهو من غير هذا البابِ وقياسٌ على غير اصلٍ، لأن الشرطَ لَم يَنبَنِ على احتمالَيْن أحدهما أن هذا الأمرَ قَد يدلّ على مَعنى والآخر أن لا يَدلَّ، بل الصوابُ أنّ الدلالةَ حاصلةٌ ابتداءً واقعةٌ لا دافعَ لَها .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق