مركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصةأعلام

السيرة الغراء فيمن استشهد بالطاعون من القراء -2- سيرة أبي الأسود الدؤلي التابعي الجليل(1)

الحمد لله رب الناس، مذهب البأس، والصلاة والسلام على محمد خير الناس، وعلى آله وصحبه والتابعين.

وبعد:

ونحن نعيش هذه الظروف الصعبة، التي قد يفقد فيها المرء أحدا من عائلته أو جيرانه أو أصدقائه، يبقى الصبر مؤنسا للمسلم في مصيبته، قال الله تعالى: «وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَےْءٖ مِّنَ اَ۬لْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٖ مِّنَ اَ۬لَامْوَٰلِ وَالَانفُسِ وَالثَّمَرَٰتِۖ وَبَشِّرِ اِ۬لصَّٰبِرِينَ ١٥٤ اَ۬لذِينَ إِذَآ أَصَٰبَتْهُم مُّصِيبَةٞ قَالُوٓاْ إِنَّا لِلهِ وَإِنَّآ إِلَيْهِ رَٰجِعُونَۖ ١٥٥ أُوْلَٰٓئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَٰتٞ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٞۖ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ اُ۬لْمُهْتَدُونَ»، ومما يؤنسه أيضا ما جاء في فضل من مات بالطاعون، كما جاء في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الشهداء خمسة: المطعون، والمبطون، والغرق، وصاحب الهدم، والشهيد في سبيل الله»، وورد فيه أيضا عن أنس بن مالك رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الطاعون شهادة لكل مسلم»، وقد استشهد جماعة من أخيار القراء على مر التاريخ بالطاعون، وسأحاول في هذه السلسلة جمعَهم، والتعريفَ بهم من خلال هذه المقالات، وسميتها: 

«السيرة الغراء فيمن استشهد بالطاعون من القراء»

-2- سيرة أبي الأسود الدؤلي التابعي الجليل(1)

ظالم بن عمرو بن سفيان بن جندل بن يعمر بن حلس بن نفاثة بن عديّ بن الديل بن بكر بن عبد مناة بن كنانة. هذا قول الأكثر في اسمه.

وأمه الطويلة من بني عبد الدار بن قصيّ.

العلامة الفاضلُ، أبو الأسود الدؤلي(2) قاضي البصرة، وصاحب النحو، مشهور بكنيته، وهو من كبار التابعين، مخضرم أدرك الجاهلية والإسلام. وله شعر حسن، وجواب حاضر، وأخباره مشهورة، وكلامه كثير الحكم والأمثال.

قال المرزباني: هاجر أبو الأسود إلى البصرة في خلافة عمر، وولاه عليّ البصرة خلافة لابن عباس.

وروى عن عمر، وعلي، ومعاذ، وأبي ذرّ، وابن مسعود، والزّبير، وأبيّ بن كعب، وعمران بن حصين، وابن عباس، وغيرهم.

وروى عنه ابنه أبو حرب، ويحيى بن يعمر، وعبد الله بن بريدة، وعمر مولى غفرة، وسعيد بن عبد الرحمن بن رقيش.

قال القفطي: وكان من القراء. قال أبو عمرو الداني: قرأ القرآن على عثمان، وعلي.

قرأ عليه ولده أبو حرب، ونصر بن عاصم الليثي، وحمران بن أعين، ويحيى بن يعمر.

قال الذهبي: الصحيح أن حمران هذا إنما قرأ على أبي حرب بن أبي الأسود.

وقال أبو علي القاليّ: حدثنا أبو إسحاق الزجاج، حدثنا أبو العباس المبرد، قال: أول من وضع العربية ونقّطَ المصاحفَ أبو الأسود، وقد سُئل أبو الأسود عمّن نهج له الطريق، فقال: تلقيته عن علي بن أبي طالب.

وقال أبو عمر: كان ذا دين وعقل ولسان وبيان وفهم وحزم.

قال الجاحظ: أبو الأسود معدودٌ في طبقات الناس، وهو في كلّها مقدَّم مأثور عنه في جميعها. كان معدودا في التابعين، والفقهاء، والمحدثين، والشعراء، والأشراف، والفرسان، والأمراء، والدهاة، والنحويين، والحاضري الجواب.

وقال السيوطي: كان من أكمل الرِّجال رَأيا، وأسدِّهم عقلا. 

وهو أول من وضع مسائل في العربية بإشارة علي رضي الله عنه، فلما عرض ما عمل على علي قال: ما أحسن هذا النحو الذي نحوت، فمِنْ ثَمَّ سُمي النحوُ نحوا.

وقيل: إن الّذي حداه على ذلك أن ابنته قالت له: يا أبه، ما أشدُّ الحرِّ؟ وكان في شدة القيظ. فقال: ما نحن فيه؟ فقالت: إنما أردت أنه شديد. فقال: قولي ما أشدَّ، فعمل باب التعجب.

حدث أبو عثمان المازني ما رفعه إلى يحيى بن يعمر الليثي، أن أبا الأسود الدئلي دخل على ابنته بالبصرة، فقالت: يا أبه، ما أشدُّ الحرّ، ورفعت أشد، فظنها تسأله وتستفهم منه أي زمان الحر أشد؟ فقال لها: شهرا ناجر. فقالت: يا أبه، إنما أخبرتك، ولم أسألك، فأتى أميرَ المؤمنين عليَّ بنَ أبي طالب رضي الله عنه، فقال: يا أمير المؤمنين، ذهبت لغة العرب لمّا خالطت العجم، ويوشك إن طال عليها زمان أن تضمحلّ. فقال له: وما ذاك؟ فأخبره خبر ابنته. فأمر فاشترى صحفا بدرهم وأملى عليه: الكلام كله لا يخرج عن اسم وفعل وحرف جاء لمعنى. وهذا القول هو أول كتاب سيبويه. ثم رسم أصول النحو كلَّها، فنقلها النحويون وفرَّعوها. فلما كان أيام زياد بن أبيه بالبصرة جاءه أبو الأسود فقال له: أصلح الله الأمير إني أرى العرب قد خالطت الحمراء فتغيرت ألسنتهم. وقد كان علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وضع شيئا يصلح به ألسنتهم، أفتأذن لي أن أظهره. فقال: لا. ثم جاء زيادا رجلٌ فقال: أصلح الله الأمير، مات أبانا وخلّف بنون، فقال زياد كالمتعجب: مات أبانا وخلّف بنون! هذا ما ذكره أبو الأسود. ثم مرّ برجل يقرأ القرآن حتى بلغ إلى قوله تعالى: « أَنَّ اَ۬للَّهَ بَرِےٓءٞ مِّنَ اَ۬لْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُۥۖ» [التوبة: 3] ، بكسر اللام من «رسوله»، فقال: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. هذا والله الكفر. ردّوا إليّ أبا الأسود، فردوه إليه.

فقال له: ضع للناس ما كنت نهيتك عنه. فقال: ابغني كاتبا يفهم عني. فجيء برجل من عبد القيس فلم يرضه، فأتي برجل من قريش، فقال له: إذا رأيتني قد فتحت فمي بالحرف فانقط على أعلاه نقطة، وإذا ضممت فانقط بين يدي الحرف، وإذا كسرت فمي فاجعل النقطة تحت الحرف، فإن أتبعت ذلك شيئا من الغنّة فاجعل النقطة نقطتين ففعل. فكان هذا نقط أبي الأسود، وذكر أنه لم يضع إلا باب الفاعل والمفعول به فقط. فجاء بعده ميمون الأقرن فزاد عليه في حدود العربية. ثم زاد فيها عنبسةُ بن معدان الفيل، وعبدُ الله بن أبي إسحاق الحضرمي. فلما كان عيسى بنُ عمر وضع في النحو كتابين، ثم أبو عمرو بن العلاء، ثم الخليل بن أحمد، ثم سيبويه.

وروى عمر بن شبّة بإسناد له عن عاصم بن بهدلة، قال: أول من وضع النحو أبو الأسود، استأذن زيادا، وقال له: إن العرب خالطت العجم، ففسدت ألسنتُها، فلم يأذن له، حتى جاءه رجل فقال: أصلح الله الأمير، مات أبانا وترك بنونَ. فقال  زياد: ادع أبا الأسود، فأذن له حينئذ.

وروى ابن أبي سعد أن سبب ذلك أنه مرّ به فارسي فلحن، فوضع باب الفاعل والمفعول، فلما جاء عيسى بن عمر تتبع الأبواب، فهو أول من بلغ الغاية فيه.

وكان أبو الأسود غاية في الفصاحة، جلس إليه غلام، فقال له أبو الأسود: ما فعل أبوك؟

قال: أخذته الحمّى ففضخته فضخا، وطبخته طبخا، وفتخته فتخا، فتركته فرخا. 

قال: فما فعلت امرأتُه التي كانت تشاره وتهارّه وتضارّه وتجاره وتزارّه؟ 

قال: طلّقها تزوجت غيره فرضيت وحظيت وبضيت. 

فقال أبو الأسود: وما بضيت يا بني؟

فقال الغلام: حرفٌ من اللغة لم يبلغْكَ. قال أبو الأسود: يا بنيّ، ما لم يبلغ عمَّك فاستُره كما تسترُ الهرَّة خرءَها.

وأخذ النحو عن أبي الأسود جماعة منهم عطاء بن أبي الأسود، ويحيى بن يعمر العدواني، ثم ميمون الأقرن، ثم عنبسة الفيل.

ومن محاسن الحكم من شعره:

لا ترسلنّ مقالةً مشهورةً     لا تستطيعُ إذا مضت إدراكَها

لا تُبديَنَّ نميمةً أُنبئتَها       وتَحفَظنَّ مَن الّذي أنباكَها

وقوله السائر:

وما كلُّ ذي لُبٍّ بمُؤتِيك نصحَه       وما كلُّ مؤتٍ نصحَه بلبيبِ

ولكن إذا ما اسْتَجمَعَا عنْدَ واحدٍ      فحُقَّ له من طاعةٍ بِنَصِيبِ

قال الذهبي: قال يحيى بن معين: مات أبو الأسود في طاعون الجارف سنة تسع وستين، وهذا هو الصحيح. وقيل قبيل ذلك. وعاش خمسا وثمانين سنة.

  1.  مصادر الترجمة: معجم الأدباء 4/ 1464-1473، أسد الغابة 2/485، إنباه الرواة 1/ 48-58، معرفة القراء الكبار 1/154-155، سير أعلام النبلاء 4/81-86، غاية النهاية 1/346، الإصابة في تمييز الصحابة 5/468-472، بغية الوعاة 2/22.
  2.  يقال: الدُّؤَلي، والدُّئِلي، والدُّولي، والدِّيلي. ينظر: السير 4/86.

ذ.سمير بلعشية

  • باحث بمركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق