مركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة العطرةدراسات عامة

الراوية الحديثية في المغرب:تعريفها

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على سيدنا  محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين

إن الإسناد من الدين، والاعتناء به من سنن سيد المرسلين، وأجلى طرق الاهتداء للمهتدين، وهو من خصوصية هذه الأمة عن سائر الأمم المتقدمين، الدافعة لكل بدعة وغمة، وبه عرف العلماء الصحيح من السقيم، وصان الله تعالى دينه من قول كل أفاك أثيم، فلا شرف أعظم، ولا فخر أضخم ممن اتصل اسمه باسم النبي في سلسلة الإسناد، وانتظم في ذلك السلك الشريف إلى يوم التناد[1].

وقد حض السلف والخلف قديما وحديثا على المحافظة على الإسناد والاعتناء به، لئلا يقول من شاء ما شاء من ذوي التحريف والفساد، حتى كثرت في ذلك أقاويلهم، واشتهرت فيه عباراتهم، من ذلك قول الإمام الشافعي (المتوفى عام: 204هـ): “مثَل الذي يطلب العلم بلا حجة، مَثَل حاطب ليل يحمل حطب فيها أفعى تلدغه وهو لا يدري”[2]، وقول الحافظ الحاكم (المتوفى عام: 405هـ): “لولا الإسناد، وطلب هذه الطائفة له، وكثرة مواظبتهم على حفظه، لَدَرَس منار الإسلام، ولتمَكَّن أهل الإلحاد والبدع فيه بوضع الأحاديث وقلب الأسانيد، فإن الأخبار إذا تعرَّت عن وجود الأسانيد فيها كانت بُترا”[3].  

فهذا حديث النبي ﷺ الذي يستدل به العلماء على فضل الإسناد، والرواية عن النبي ﷺ، وقد صنف المحدث الحافظ أبو عمرو المديني (المتوفى عام: 333هـ) جزءا حديثيا في قول النبي ﷺ: (نضر الله امرأ سمع مقالتي فأدها) [4]، أسند فيه: 52 حديثا في نقل حديث النبي ﷺ، من ذلك حديث: (بلغوا عني ولو آية وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار) [5]، وحديث: (نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها وحفظها وبلغها، فرُبَّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه) [6]، وحديث: (حدثوا عنى كما سمعتم ولا حرج، ألا من افترى على الله كذبا متعمدا ليضل به الناس بغير علم، فليتبوأ مقعده من النار) [7]، وحديث: (تسمعون ويسمع منكم، ويسمع ممن يسمع منكم) [8].

كان للعلماء أوفر نصيب في التأليف والتصنيف في الحديث، والتعريف بعلومه، وإرشاد المعتنين بهذا الفن إلى المعرفة بمصطلحاته في مصنفاتهم، فقد قال القاضي عياض (المتوفى عام: 544هـ): “أيها الراغب في صرف العناية إلى تلخيص فصول في معرفة الضبط، وتقييد السماع والرواية، وتبيين أنواعها عند أهل التحصيل والدراية، وما يصح منها وما يتزيف، وما يتفق فيه من وجوهها ويختلف، فإني بما علمته من حرصك على هذا الطريق، وتميزك إلى هذا الفريق، وإيثارك علم الأثر على سواه، وتهممك بتقييد ألفاظ الحديث، وتفهم معناه، وأنك سددت بمذهبك هذا لوجه الحق وصوابه، وأتيت بيت العلم من بابه، وسلكت في ذلك مسلك كل مشهور مذكور، وأحببت مِنَ العلم ما يحبه الذكور، فإن علم الكتاب والأثر أصل الشريعة، الذي إليه انتماؤها، وأساس علومها الذي عليه يرتفع تفريع فروعها وبناؤها، وهو علم عذب المشرب، رفيع المطلب، متدفق الينبوع، متشعب الفصول والفروع:

فأول فصوله: معرفة أدب الطلب والأخذ والسماع، ثم معرفة علم ذلك ووجوهه وعمن يؤخذ، ثم الإتقان والتقييد، ثم الحفظ والوعي، ثم التمييز والنقد بمعرفة: صحيحه وسقيمه، وحسنه ومقبوله، ومتروكه وموضوعه، واختلاف روايته وعلله، وميز مسنده من مرسله، وموقوفه من موصوله، ثم معرفة طبقات رجاله من الثقة والحفظ، والعدالة والجرح، والضعف والجهالة، والتقدم والتأخر، ثم ميز زيادات الحفاظ وغيرهم فيه، وفصل المدرج أثناءه من أقوال ناقليه، ثم معرفة غريب متونه وتفسير ألفاظه، ثم معرفة ناسخه من منسوخه، ومفسره من مجمله ومتعارضه ومشكله، ثم التفقه فيه واستخراج الحكم والأحكام من نصوصه ومعانيه، وجلاء مشكل ألفاظه على أحسن تأويلها ووفق مختلفها على الوجوه المفصلة وتنزيلها، ثم النشر وآدابه وصحة المقصد في ذلك للدين واحتسابه. وكل فصل من هذه الفصول علم قائم بنفسه، وفرع باسق على أصل علم الأثر وأسه”[9].

هذا كلام نفيس في معرفة الضبط، وتقييد السماع والرواية، وتبيين أنواعها عند أهل التحصيل والدراية كأمثال العلامة القاضي عياض رحمه الله تعالى من المتقدمين المغاربة، وأورد في هذا المقام تعريفات لبعض أعلام فن الرواية الحديثية خاصة، والحديث النبوي الشريف عامة.

فعلم الحديث في اصطلاح المحدثين: ما أضيف إلى النبي ﷺ قولا، أو فعلا، أو تقريرا، أو إيَّاما، أو خَلقيا، أو خُلقيا، والرواية: علم يشتمل على نقل ذلك، وروايته، وضبطه، وتحرير ألفاظه، كما قال محمد بن عبد القادر الفاسي (المتوفى عام: 1116هـ) [10]، وشرح هذا المعنى مَـحمد بن محمد بن عبد السلام كنون الفاسي (المتوفى عام: 1326هـ) فقال: “علم الحديث رواية: يُبحث فيه عن عوارض الذات الشريفة من الأقوال، والأفعال، وما بعدهما”[11]، وقال المهدي الوزاني (المتوفى عام: 1342هـ) في شرح لكلام الفاسي فقال: “الرواية أي: عن النبي ﷺ، والنقل أي إلينا عنه ﷺ، والضبط والإتقان، وتحرير ألفاظه؛ سلامتها من التغيير”[12] .

وقال عبد الله ابن الصديق الغماري (المتوفى عام: 1413هـ): “هو علم يعرف به حقيقة الرواية، وشروطها، وكيفية الاتصال والانقطاع، وحال الرواة، وما يتصل بذلك، وموضوعه: الراوي والمروي، وغايته: معرفة المقبول والمردود، ويسمى: علم مصطلح الحديث، وأصول الحديث، وسمي علم الرواية لأسباب:

أحدها: أنه خاص بالبحث في رواية الحديث من جميع جهاتها.

ثانيها: أن قولهم: علم الحديث رواية، تمييز محول عن المضاف إليه، والأصل علم رواية الحديث.

ثالثها: أن الحافظ الخطيب ألف كتابا في المصطلح سماه: الكفاية في علم الرواية، كما ألف الحافظ ابن الجزري كتابا في المصطلح أيضا سماه: الهداية في علم الرواية، وللحافظ السخاوي شرح عليه اسمه: الغاية، وللحافظ عبد الحق الإشبيلي كتاب: مختصر الكفاية في علم الرواية.

وقال الحافظ في شرح النخبة في ذكر من ألف في المصطلح: ثم جاء بعدهم الخطيب أبو بكر البغدادي فصنف في قوانين الرواية كتابا سماه: الكفاية، وفي آدابها كتابا سماه: الجامع لآداب الشيخ والسامع ا.هـ. وهو يؤيد ما قررناه، والحمد لله”[13].

وقال الأستاذ إبراهيم ابن الصديق: “علم الرواية والأسانيد: ويشمل كيفية التحمل، وصيغ الأداء وكتابة الحديث، وضبطه، وتقييده، ومقارنة الروايات، وأدب الشيخ والطالب، وما إلى ذلك”[14].

وقال الأستاذ أحمد اليزيدي: “علم الرواية : الرواية أن يتلقى الطالب الحديث عن العالم بأسلوب من أساليب التحمل، ثم يلقيه -مسندا إياه إلى صاحبه – أيضا بأسلوب من أساليب الأداء”[15].

ختاما إن ما ألمعت إليه في هذا المقال، إنما هي إشارة لطيفة، ونبذة يسيرة على علم الرواية من خلال كتب المغاربة المتأخرين لتقريب مفهوم الرواية الحديثية للخلف، لقرب الزمان.

********************

هوامش المقال:

[1] ) فهرسة الإمام الحافظ السراج ص: 124، الفهرسة الكبرى والصغرى لابن الخياط ص: 55.

[2] ) فيما رواه الحاكم في المدخل إلى كتاب الإكليل ص: 55 بسنده إلى الشافعي.

[3] ) معرفة علوم الحديث ص: 6.

[4] ) انظر تخريجه في الجزء المذكور .

[5] ) انظر تخريجه في الجامع الكبير 4/ 268، رقم الحديث: 12353.

[6] ) انظر تخريجه وطرقه في الجامع الكبير 10 /446_455.

[7] ) انظر تخريجه في الجامع الكبير 4/ 597، رقم الحديث: 13443.

[8] ) انظر تخريجه في الجامع الكبير 4 /357، رقم الحديث: 12668.

[9] ) الإلماع إلى معرفة أصول الرواية وتقييد السماع ص: 3_5.

[10] ) شرح منظومة ألقاب الحديث ص: 34_37.

[11]) الحاشية على شرح مَـحمد بن عبد القادر الفاسي على الطرفة الملزمة 3، ص: 1.

[12]) الحاشية على شرح مَـحمد بن عبد القادر الفاسي على الطرفة الملزمة الأولى ص: 8.

[13] ) توجيه العناية لتعريف علم الحديث رواية ودراية ص: 22-23.

[14] ) علم علل الحديث من خلال كتاب: بيان الوهم والإيهام الواقعين في كتاب الأحكام لأبي الحسن ابن القطان الفاسي 1/ 36.

[15] ) أبو الوليد ابن الفرضي القرطبي: حياته وآثاره العلمية محدثا ناقدا، و فقيها، و مؤرخا 1/ 187.

************************

جريدة المراجع

الإلماع إلى معرفة أصول الرواية وتقييد السماع لأبي الفضل عياض بن موسى بن عياض اليحصبي السبتي، تحقيق: السيد أحمد صقر، دار التراث، القاهرة- مصر، المكتبة العتيقة، تونس، 1389/ 1970.

توجيه العناية لتعريف علم الحديث رواية ودراية لأبي الفضل عبد الله بن محمد بن الصديق الغماري، تحقيق: صفوت جوده أحمد، مكتبة القاهرة، القاهرة- مصر، الطبعة الثانية: 1429 /2008.

جزء في قول النبي ﷺ: (نضر الله امرأ سمع مقالتي فأدها) لأبي عمرو أحمد بن محمد بن إبراهيم المديني، تحقيق: بدر بن عبد الله البدر، دار ابن حزم، بيروت- لبنان، الطبعة الأولى: 1415/ 1994.

جمع الجوامع أو الجامع الكبير لجلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي، تحقيق: مختار إبراهيم الهائج، عبد الحميد محمد ندا، حسن عيسى عبد الظاهر، منشورات الأزهر، مصر، دار السعادة، 1462 /2005.

حاشية على شرح مَـحمد بن عبد القادر الفاسي على الطرفة لـمَـحمد بن محمد بن عبد السلام كنون الفاسي، طبعة حجرية، فاس- المغرب.

حاشية على شرح مَـحمد بن عبد القادر الفاسي على منظومة العربي الفاسي في ألقاب الحديث للمهدي بن محمد الحسني العمراني الوزاني، طبعة حجرية، فاس- المغرب.

شرح منظومة ألقاب الحديث لـمَحمد بن عبد القادر الفاسي، تحقيق: محمد مظفر الشيرازي، المكتب الإسلامي، ودار ابن حزم، بيروت- لبنان، الطبعة الأولى: 1420/ 1999.

علم علل الحديث من خلال كتاب: بيان الوهم والإيهام الواقعين في كتاب الأحكام لأبي الحسن ابن القطان الفاسي لإبراهيم ابن الصديق، ، منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، مطبعة فضالة، المحمدية، المغرب، 1415/ 1995.

فهرسة الإمام الحافظ أبي زكريا يحيى بن أحمد السراج الفاسي، تحقيق: نعيمة بنيس، دار الحديث الكتانية، طنجة- المغرب، مكتبة نظام يعقوبي الخاصة، البحرين، الطبعة الأولى: 1434/ 2013.

الفهرسة الكبرى والصغرى لأبي العباس أحمد بن محمد ابن الخياط الزكاري الفاسي، تحقيق: محمد بن عزوز، مركز التراث الثقافي المغربي، الدار البيضاء- المغرب، دار ابن حزم، بيروت- لبنان، الطبعة الأولى: 1426 /2005.

المدخل إلى معرفة كتاب الإكليل لأبي عبد الله محمد بن عبد الله الحاكم النيسابوري، تحقيق: أحمد بن فارس السلوم، دار ابن حزم، بيروت- لبنان، الطبعة الأولى: 1423/ 2003.

معرفة علوم الحديث لأبي عبد الله محمد بن عبد الله الحاكم النيسابوري، اعتناء: السيد معظم حسين، منشورات المكتبة العلمية، المدينة المنورة، السعودية، الطبعة الثانية: 1397 /1977.

*راجعت المقال الباحثة: خديجة أبوري

Science

يوسف أزهار

  • باحث بمركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسير ة النبوية العطرة بالعرائش، التابع للرابطة المحمدية للعلماء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق