مركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصةأعلام

الحلة السيراء فيمن حل بمراكش من القراء -21- عليُّ بن محمد بن يوسُفَ بن عبد الله الفَهْميُّ

(من كتاب الذيل والتكملة لابن عبد الملك المراكشي ت703ه‍)
-21- عليُّ بن محمد بن يوسُفَ بن عبد الله الفَهْميُّ(1)

قُرطُبيٌّ يابُرِيُّ الأصلِ حديثًا، طُلَيْطُليُّ أصلِ السَّلَفِ قديمًا، سَكَنَ سَلَا ثم مَرّاكُش، أبو الحَسَن الفَهْميُّ.
تَلا في إشبيلِيَةَ بالسَّبع على أبي بكر بن خَيْر، وأبي الحَسَن نَجَبةَ، وبغَرْناطةَ على أبي عبد الله بن عَرُوس، وأبي محمد عبد المُنعِم بن الخَلُوفِ سنةَ ثمانٍ وستينَ وخمس مئة، وسَمِع منهم، ومن أبي عبد الله ابن الغاسِل وأبي العبّاس بن مَضَاءٍ وأكثَرَ عنه.
وأجاز له من أهل الأندَلُس: أبو إسحاقَ بن فَرْقَد، وأبو الرَّبيع الخُشَنيّ، وأبو زَيْد السُّهَيْلي، وأبو عبد الله القبَاعي، وأبَوا القاسم: ابنُ بَشْكُوال وابن الحاجّ، وأبو محمد بن عُبَيد الله وسِواهم. ومن أهلِ المشرِق: أبو الطاهر السِّلَفيُّ وابن عَوْف.
رَوى عنه أبَوا عبد الله: ابنُ سَلَمةَ الشاطِبيُّ ابنُ الأديب وابنُ عليّ البَطَلْيَوْسِىُّ المَوْصِليّ.
وكان حافظًا للقرآنِ العظيم مجوِّدًا لهُ عارفًا، بالقراءاتِ قائمًا عليها، آيةً من آياتِ الله في حُسنِ الصَّوت، آخِذًا بطَرَف صالح من العربيّة، ذا حَظّ من روايةِ الحديث، ذَكِيَّا فَهِمًا يَقِظًا ضَريرًا، واجتازَ المنصُورُ من بني عبد المُؤمن به يومًا وهُو يقرأُ بمقبُرةٍ على جاري عادتِه، فأخَذَ بقلبِه طِيبُ نغَمتِه وحُسنُ إيراده، فقَرَّبَه واستَخْلَصَه وأمَرَه بتعليم أولادِه وقراءةِ حِزبٍ من التراويح في رَمَضان، فكان يقرأُه بحرفِ عاصم ويؤْثِرُه على غيرِه؛ ثم خَبِرَ أحوالَه وعرَفَ صَوْنَه وعَفافَه، فأمَرَه بتعليم بناتِه فاستَعْفاهُ من ذلك معتذِرًا بأنه يُدرِكُ بعضَ التفرِقة بينَ الألوان، فأحظاهُ ذلك عندَه لِما تحقَّق من صِدقِ نُصحِه، وألزَمَه تعليمَهنّ، وكان ذلك سببَ إثرائه وسَعة حالِه واقتنائه الرِّباعَ الجيِّدةَ الكثيرةَ بمرّاكُشَ وغيرها، وانتهى استغلالُه من رِباعِه بمرّاكُشَ وحدَها خمسَ مئةِ درهم من دراهمِهم في اليوم الواحد؛ وإليه يُنسَبُ الحَمّامُ الذي بالعُدوةِ الشَّرْقيّة من ساقِيَةِ مرّاكُش على المَحلِّ(2) الأعظم منها والعَقارُ المُجاورُ له. ولمّا توَجَّه المنصورُ إلى سَلَا مُستصحِبًا أولادَه، أمَرَهم بالكَوْنِ معَ أبي الحَسَن هذا والحفِّ به، فلمّا برَزَ أهلُ سَلَا للقاءِ المنصورِ رأى بعضُهم أبا الحَسَن هذا يحُفُّ به أولادُ المنصورِ ويُعظِّمونَه ويُوَقِّرونَه، فقال: هكذا ينبغي أن يَرجِعَ الغريبُ إلى وطنِه وإلّا فلا.
ولمّا شَرَعَ في بنائه المشارِ إليه -وذلك في أيام الناصِر ابن المنصُور- عَرَضَ له مُلكُ أحدِ جيرانِه ممّا يصلح بناءه فرام شراءه منهُ فامتنَعَ من بَيْعِه إلّا بزيادةٍ كثيرة على قَدْرِ قيمتِه، فأجرَى ذلك أبو الحَسَن معَ من أوصَلَه إلى الناصر، فذَكَرَ الناصرُ لأهل مجلسِه هذه القصّةَ في معرِض العَتْب لهم وقال: لقد فرَّطتُم في حقِّ شيخِنا ومعلِّمنا ومعلِّم إخوانِنا وأخَواتِنا أبي الحَسَن الفَهْمي، فقالوا: وما ذلك، وأيُّنا يَجهَلُ مكانتَه أو لا يَعرِفُ قدرَه ويُوفي حقَّه؟ فقال لهم: أراد شراءَ مُلكٍ يُحَسِّنُ له ما يريدُ بناءه، فلم تَسْعَوْا له في تملُّكِه، فقالوا: إنّ مالكَه اشتَطَّ في ثمنِه كثيرًا؛ فقال: يُشتَرَى له بما عَزَّ من الثمنِ وهان ويُرضَى صاحبُه وتُقضَى حاجةُ الفَهْميّ؛ فقالوا: إنه لا ينقا(3) إلى شرائه بالثمنِ الذي عَيَّنَه مالكُه، فقال: يا لَلعجَب! أتُحوِجُونُه إلى دَفْع ثمنِه من تِلقاءِ نفسِه وصُلبِ مالِه؟ هلّا دفَعتُم ثمنَه من أموالِكم وتقرَّبتُم بذلك إلى مَرْضاةِ أبي الحَسَن وتَقَمُّن مسَرّتِه، فذلك الذي يَسُرُّنا ويُرضينا؟ فانفَصلوا عن المجلِس وابتاعوا ذلك المالَ من ربِّه بما أرضاهُ وحازه أبو الحَسَن وحَسَّنَ به ما كان قد قَصَدَ إلى تحسينِه من ذلك البناء. وإنّما أراد الناصرُ بهذا كلِّه تبيينَ مكانتِه عندَه والإشادةَ بتمكُّن حُظوتِه لديه، وإلّا فقد كان يكِلُه إلى شرائه لنفسِه أو يأمُرُ له بثمنِه من مالِه؛ وتحصَّلَ له بالِهبة من بني المنصُور وحاشيتِه ووُزرائه وعُمّالِه من الأموال والكُتُب النَّفيسة والذّخائرِ ما لا يُحصَى كثرةً، فإنهُ كان شديدَ الكدية كثيرَ إعمالِ الحِيَل في ذلك، مُصانعًا، لتمكُّنِه من جانبِ أُولي الأمر واختصاصِه بهم.
وكان من عادتِه أنه متى بَلَغَه أنّ أحدًا صارت إليه فائدةٌ من جانب السُّلطان أو وَلِيَ ولايةً أو استُعمِلَ في خُطّه قَصَدَ إليه أو بَعَثَ رسُولًا نحوَه يلتمسُ منه إسَهامَه في عِمالتِه أو منافعِها، فلا يَسَعُه إلّا إسعافُه بذلك.
وحَكَى الشّيخُ أبو الحَسَن بن قُطْرال، قال: كانت كُبرى ديارِ أبي الحَسَن الفَهميِّ القريبةِ من حَمّامِه قبلَ تملُّكِه إيّاها لبعض ذوي قَرابةِ أبي الفَضْل ابن مَحْشَرةَ الكاتب، وإنه كان قاعدًا يومًا عند بابِها، فاجتازَ به أبو الحَسَن الفَهْميُّ وتكفَّفَه فلم يُجْرِ اللهُ له على يدِه شيئًا، وانصَرفَ من عندِه خائبًا؛ ثم دارتَ الأحوالُ وتَرِبَ رَبُّ تلك الدار واضْطُرَّ إلى بيعِها، فتداوَلَها المُلّاكُ إلى أنْ صارت إلى أبي الحَسَن الفَهْمي؛ وبينَا هو قاعدٌ يومًا بمَدخلِها وبعضُ العَطّارينَ يزِنُ هنالك فُلفُلًا كان قد ابتاعَه أبو الحَسَن منه أو باعَهُ له، فعَرَضَ له ذلك الذي كان رَبَّ الدار بالسؤال، فعَرَفَ أبو الحَسَن صوتَه، فقال: لعلّك فلان! فقال: نعم، فتناوَلَ بيدِه المِلَتَّ الذي يستعملُه العَطّارونَ في اغترافِ أكثرِ سِلعِهم وحَثَا له من ذلك الفُلفُل حَثَياتٍ كثيرة لها قيمةٌ صالحة ودفَعَها إليه، فانصرَفَ بها، وحمِدَ الله أبو الحَسَن على ما خَوَّله من نِعَمِه، ثم ذكَرَ سؤالَه إياه قبلَ ذلك ببابِ تلك الدار وتخييبَهُ إياه وصَرْفَه على الوَجْه الذي كان قد صَرَفَه عليه حسبَما ذكَرَ، فسبحانَ مُديلِ الأمور الفَعّال لِما يريد.
ولهُ إلى الآنَ عقِبٌ بأغماتِ وريكةَ خامِلون. وتوفِّي بمَرّاكُشَ سنةَ سبعَ أو ثمانِ عشْرةَ وست مئة، وتخَلَّف من الكُتُبِ ما بِيع في زمنِ المجاعة الشديدة بمئة ألفِ درهم.
(1) الذيل والتكملة: 3/336-339.
(2) في هامش إحدى النسخ الخطية: «لعله: المحج».
(3) قال المحقق: لعلها: ينقاد.

ذ.سمير بلعشية

  • باحث بمركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق