مركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصةدراسات عامة

الجمع القرآني والإرهاصات الأولية لتقنين نقطه وضبطه

بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وآله وصحبه
        لا يخفى عن المهتمين المراحل التي مر منها جمع الحرف القرآني، وكذا المحطات الكبرى التي مر منها ضبط حرفه،  بداءة من الجمع الأول في إمرة  أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وما لابس الإقدام على جمعه من تهيب الصحابة رضوان الله عليهم وترددهم في ذلك، ولكن داعي الجمع  كان قويا، خصوصا بعد المقتلة العريضة في صفوف القراء يوم وقعة اليمامة، وكان قد استحر القتل فيها بزهاء سبعمائة من قراء الصحابة، نقل صاحب التبيان في شرح مورد الظمآن عن “أبي محمد الفراء  في شرح السنة حديثا أسنده وأوقفه على زيد بن ثابت الأنصاري من بني خزرج رضي الله عنه قال: بعث إلي أبو بكر لما قتل أهل اليمامة، وعنده عمر بن الخطاب، فقال أبو بكر إن عمر أتاني فقال: إن القتل استحر يوم اليمامة بقراء القرآن، وإني أخشى أن يستحر القتل بقراء القرآن في المواطن كلها فيذهب قرأة كثيرون، وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن قلت كيف أفعل شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال عمر هو والله خير، فلم يزل عمر يراجعني في ذلك حتى شرح الله صدري للذي شرح صدره له، رأيت في ذلك الذي رأى عمر، قال أبو بكر وإنك رجل شاب عاقل، لا نتهمك، قد كنت تكتب الوحي للنبي صلى الله عليه وسلم، فتتبع القرآن واجمعه، قال زيد: والله لو كلفني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل علي مما كلفني من جمع القرآن…فتتبعت القرآن أجمعه من العسب والرقاع واللخاف وصدور الرجال”  
وفي ذلك يقول الخراز:
جمعه في المصحف الصديــــقُ    كما أشار عمر الفــــــاروقُ
وذاك حين قتلوا مسيلمــــــه       وانقلبت جيوشه منهزمـــه
فكان متغيى الجمع الأول حفظ مجموع القرآن عن الضياع، لكن اعتماد الناس في تلقي القرآن والحذق به  كان قائما على المشافهة و الرواية.
              ثم كان الجمع الثاني  بإيعاز من ذي النوريين؛ عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه، وتذكر المصادر أن سببه هو فشو الخلاف بين الناس في تأدية الحرف القرآني، وتفاضلهم في فيما تحملوه ورووه، خصوصا من كان نائي الدار، بعيدا عن موطن تنزل الوحي، فوكل مهمة جمعه لصفوة من الكتاب الذين باشروا كتابة الوحي على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، “ذكر ابن شهاب أن أنس بن مالك حدثه أن حذيفة ابن اليمان قدم على عثمان وكان يغازي في فتح أرمينية وأذريبجان مع أهل العراق، فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة، فقال حذيفة لعثمان رضي الله عنهما،  يا أمير المومنين أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى، فأرسل عثمان إلى حفصة أن أرسلي إلينا المصاحف ننسخها ثم نردها إليك، فأرسلتها حفصة إلى عثمان، فأمر زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام فنسخوها في المصاحف”   ثم بعث بنسخ منه إلى الأمصار، على خلف بين العلماء في عدة النسخ  المنتسخة و المبتعثة. و مما توافق فيه التدوينان أن كلاهما كان مجردا عن الضبط والشكل، اعتمادا على ما لقنوه وما أخذوه عن الشيخة –تسعفهم في ذلك سليقتهم العربية- ثم تشوفا لاحتمال المرسوم أكثر  من رواية إن كان خلوا عن النقط والضبط ، يقول الشاطبي في العقيلة:
فجردوه كما يهوى كتابتــــه       ما فيه شكل ولا نقط فيحتجرا
          لكن ما حصل بعد ذلك من اختلاف الناس في تأدية الحرف القرآني -نتيجة تفشي اللحن وابتعاد الجماء عن السليقة العربية- أحوج الناس إلى وضع ضابط يقام به حرفه، و يُأمن به من تسرب اللحن إليه، وما كان يتصور أبدا أن يأتي يوم يحتاج فيه العربي إلى قواعد تنير له مسلك التخاطب وتجنه فحش مسترذل اللحن، ولكنه تدبير الملك العلام، الذي تكفل بحفظ كتابه.. فهيأ له من يذب عن حياضه من أقحاح العرب وصفوتها بما ينير سواده ويهدي قارئه، ثم من جهة أخرى تبريز مكانة من تنزل عليهم بداءة، كيف هُدوا إلى إقامة حرفه وهو المجرد عن النقط المسعف للنطق؛ نعم قد يقال: إنهم تلقوه رواية من في النبي عذبا طريا، فما أُحوجوا بعدها إلى ضبط أو شكل، فيجاب أن ذلك إنما يتجه في مجلس الإقراء والتلقي، أما بعد مبارحة المجلس  فيحتاج تاليه إلى من يعيِّن له الحرف عن شبيهه، فإن له تكن له سليقة متوقدة، وهاد من فهم سديد اشتبهت بين يديه الأحرف، فزايل مراد الله من المقرو، وهذا ما بدت بوادره في أوائل العهد الأموي، فاحتاج الناس إلى رفع الحرج عن الكتاب، وتقويم الألسن في التداول والخطاب، نقارب هذه الحقبة وما واكبها في المقال التالي بحول الله.
والله الموفق والهادي إلى السواء

د.عبد الجليل الحوريشي

  • باحث بمركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق