مركز الدراسات والأبحاث وإحياء التراثقراءة في كتاب

الجامع لمسائل المدونة والمختلطة لابن يونس

المدونة من أعظم دواوين المالكية بعد الديوان الأول الموطإ، لذا اتجه اهتمام المالكية إليها اتجاها كليا منقطع النظير، فكم من حافظ لها عن ظهر غيب، وكم من شارح ومختصر ومعلق ومبسط لألفاظها، بل كانت يوما ما حين عزَّ  المذهب المالكي ـ من العزة  لا الندرةـ هي معيار العلم عند أهل العلم والفضل والسلطان، فلا يولى أحكام القضاء إلا من أجادها بل حفظها وأجاد مسائلها، وليس هذا غلواء، إنما هو اعتزاز ودلالة على تمكن هذا الفقه من واقع الناس ومعاشهم.

 لذا كان من بين أحسن وأفضل وأجمل من اعتنى بالمدونة العلامة الفهامة: أبو بكر محمد بن عبد الله بن يونس التميمي الصقلي (ت:451هـ) رحم الله الجميع بمنه وكرمه، فقد اختصرها اختصارا رائعا غير مخل بمسائلها، وشرحها شرحا وافيا شاملا، جامعا لمسائلها المفرقة، موردا الآثار تدليلا، مقتبسا زيادتها ونظائرها الموزعة، شارحا ما أشكل من لفظها، باسطا لفظها تيسيرا، موجها له توجيها يتسق مع مضامينها، مبينا وجوهها وتأويلها من غير المدونة، ومفرقا بين متماثلاتها حتى لا يلتبس بعضها ببعض.

وعنوان الكتاب دال على ذلك: «الجامع لمسائل المدونة والمختلطة وآثارها وزياداتها ونظائرها وشرح ما أشكل منها وتوجيهه والفرق بينه وبين ما شاكله»

فهو كما ترى في عنوانه وكما يرى من يطالع الكتاب مغن عن غيره، بما حواه واشتمل عليه من مسائل المدونة.

ولا غرو فهو نتاج عالم جهبذ دراك حاز السبق في العلوم، وشهرته في المذهب المالكي قديما وحديثا تغني عن ذكر ترجمته.

وسبب تأليفه كما جاء في مقدمة كتابه: «أما بعد: يسرنا الله لهدايته، وهدانا إلى توفيقه، فقد انتهى إلي ما رغب فيه جماعة من طلبة العلم ببلدنا في اختصار كتب المدونة والمختلطة ….»

وقد تحدث العلامة ابن يونس وأبان عن منهجه في كتابه في مقدمته التي وضع فقال:

«وتأليفها على التوالي، وبسط ألفاظها تيسيرا، وتتبع الآثار المروية فيها عن النبي ﷺ وعن أصحابه j وإسقاط إسناد الآثار، وكثير من التكرار، وشرح ما أشكل من مسائلها، وبيان وجوهها وتأويلها من غيرها من الكتب».

وقد ساق الإمام ابن يونس مقدمة؛ في فضل العلم والحث عليه وأصوله، ورغب في الصبر على تحصيله، وأنه لا يتأتى إلا بالعناية والمثابرة والمباحثة والملازمة، مع شرط هو آخية الأواخي؛ توفيق الله وتسديده، وملازمة طاعته.

ثم بفصل تحدث فيه عن أصل هذا العلم بقوله: « اعلم وفقنا الله: أن الأصل في هذا العلم اتباع الكتاب والسنة وإجماع الأمة، ثم النظر والاستدلال، والقياس على ذلك» ، فهو r يبين عن الأدلة في كتابه وأن ترتيبها عنده هي نفسها كما أجمع عليها الأئمة المعتبرون.

وهو في كتابه قد أتى على جميع كتب المدونة، متبعا في ذلك ترتيبها إلا ما اقتضى تقديما أو تأخيرا لدواع اقتضت ذلك، إلا أن الذي طبع من الكتاب هو ربع العبادات أي إلى كتاب الحج، ولعل ما تبقى يصدر تباعا لحاجة الفقهاء إلى هذا الكنز الثمين.

وعليه فإن الناظر في الكتاب يعلم أن الشيخ r يسرد الأدلة سردا، ويتتبعها تتبعا دالا على حظ وافر من العلم، وهو متوسع في الأدلة قرآنا كانت أو سنة، وأسلوب الشيخ r سهل سلس ماتع، ليس فيه تعقيد ولا تشقيق اللفظ.

ومادته العلمية سار فيها على غرار ترتيب المدونة، إنما يضيف إليها ما دعت إليه الضرورة، كما أشار إلى ذلك في مقدمة كتابه.

وقد اعتمد الإمام على أهم مصادر الفقه المالكي كابن القاسم وابن المواز ، وابن العتبي، وعن ابن وهب وابن حبيب والأبهري وابن القصار وابن خويزمنداد وأبي إسحاق بن شعبان وأبي بكر بن اللباد، ومرة يستخدم مثل: قال غير واحد من البغداديين، وقال بعض أصحابنا،  ومعظم جبال الفقه المالكي وأعمدته ممن كانوا قبله.

وربما صرح بأسماء المؤلفات دون أصحابها وهو تقليد جار عند أهل العلم لاشتهارها عندهم اشتهار المؤلف نفسه، كالنوادر والزيادت والواضحة والعتبية.

وأهمية الجامع لابن يونس في الفقه المالكي كبيرة وبالغة، فعليه معتمد المالكية في القديم، بل كان يطلق عليه مصحف المذهب، وذلك تشبيها له بالمصحف الشريف المبين فيه كل شيء، وأنه من كان عنده الجامع استغنى به عن غيره، وهي في الحقيقة تسمية طابقت مسماها.

 يقول القاضي عياض r مبينا قيمة الكتاب: “عليه اعتماد الطالبين في المغرب للمذاكرة”، ترتيب المدارك:(8/114).

 ويقول الحجوي: “عليه اعتمد من بعده وكان يسمى مصحف المذهب لصحة مسائله ووثوق صاحبه”، الفكر السامي:(2/210).

 والجامع من الكتب المعتمدة في المذهب المالكي، كما في المعيار للونشريسي، المعيار المعرب (11/109).

  وهو من كتب المالكية التي اعتمدها الشيخ أبو المودة خليل في مختصره للترجيح. مقدمة مختصر خليل: (ص:11).

 وقد تداوله الناس شرقا وغربا ونقلوا منه، بل لا تكاد تجد كتابا مالكيا فقهيا أو حديثيا أو تفسيرا إلا ونقل عن ابن يونس، وهذا وحده كاف في إثبات قيمة الكتاب، فضلا عن أن بعضهم كان يحفظه عن ظهر غيب، ويجيب عن المسائل منه.

وعبر  الشيخ الغلاوي الشنقيطي في البوطليحية عن ذلك نظما بقوله:

واعتمدوا الجامع لابن يونس      وكان يدعى مصحفا لكن نسي.

الكتاب: الجامع لمسائل المدونة والمختلطة وآثارها وزياداتها ونظائرها……..

المؤلف: أبو بكر محمد بن عبد الله بن يونس الصقلي.

المحقق: الدكتور: أحمد بن عبد الكريم نجيب.

الناشر: مركز نجيبويه، توزيع: المكتبة التوفيقية.

الطبعة الأولى: 1433هـ/ 2012م.

مصادر الترجمة: ترتيب المدارك: (8/114)، من طبعة وزارة الأوقاف المغربية. الديباج المذهب: (2/240). الفكر السامي: (2/210).  شجرة النور الزكية: (ص: 111) ط دار الفكر. كتاب العمر : (2/676) من طبعة دار الغرب.

إنجاز: ذ.سعيد بلعزي.

Science

الدكتور سعيد بلعزي

باحث مؤهل متعاون مع مركز الدراسات والأبحاث وإحياء التراث، التابع للرابطة المحمدية للعلماء بالرباط

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق