مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةدراسات عامة

التصوف ومبدأ التكامل بين العلوم الإسلامية

تعتبر العلوم الإسلامية وحدة مترابطة ومتكاملة فيما بينها، مما يحتم على الباحثين الكشف عن آليات الاستدلال، و الاشتغال العملي الذي يجلي هذا الترابط الوثيق بين العلوم، والاستفادة منها بغية معرفة النسق المعرفي الذي يجمع بينها، وخلق الترابط المثمر بينها لأجل بناء معرفة منسجمة ومتكاملة تسهم في بناء صرح حضاري قوي ومتوازن.

فالحديث عن تكامل علوم الإسلام له اعتباره الخاص، فالعلوم يكمل بعضها البعض ويبني عليه، ويستثمر بعضها آليات منهجية يقعدها البعض الآخر، ويوظف علماء كل فن من فنون العلم نتائج انتهى إليها غيرهم في باب آخر. فصار للعلوم الإسلامية بناء نسقي شامخ، يدل على ذلك المدونات التي رتبت العلوم بعضها ببعض، مما حقق مهمتين أساسيتين تهم تاريخ العلوم الإسلامية، أحدهما: ترسيخ التكامل والتفاعل بين الفروع العلمية المختلفة، والثاني: تدوين التراث العلمي والتأريخ له، لأن أغلب تصنيفات العلوم وردت في مؤلفات تؤرخ للعلم والعلماء كالفهرست لابن النديم وغيره. هذا، ولم يمنع الخلاف المذهبي ذلك التفاعل بل زاده حركية وقوة.

  ولكن أفول عصور الاجتهاد والتجديد، وجنوح القوم إلى التقليد، وهيمنة سلطة التخصص التي فرضتها مقتضيات العصر، وضمور الأهمية التي كانت تولى للعلم والبحث العلمي، قد جعل عرى التكامل بين العلوم الإسلامية توشك أن تنقض عروة عروة، وتحل محلها لضيق الأفق في نفوس الباحثين أكثر من نزوة: ويكفي من ذلك أن كل تخصص يحسب أنه قد جمع العلم كله، وأنه الأصل الذي يُتبع ولا يَتبع، ويُقصد ولا يَقصد، وأسقطت علوم بكاملها، أو قُلل من شأنها فيها، بل وأقصي بعضها وأخرج من دائرة مسمى العلم كالتصوف، بدعوى أنه غير شرعي، والحق أن التصوف من العلوم الشرعية، يقول ابن خلدون: “هذا العلم ـ يعني التصوف ـ من علوم الشريعة الحادثة في الملَّة؛ وأصله أن طريقة هؤلاء القوم لم تزل عند سلف الأمة وكبارها من الصحابة والتابعين ومَن بعدهم طريقة الحق والهداية، وأصلها العكوف على العبادة والانقطاع إلى الله تعالى، والإعراض عن زخرف الدنيا وزينتها، والزهد في ما يقبل عليه الجمهور من لذة ومال وجاه، والانفراد عن الخلق، والخلوة للعبادة، وكان ذلك عامَّاً في الصحابة والسلف. فلما فشا الإقبال على الدنيا في القرن الثاني وما بعده وجنح الناس إلى مخالطة الدنيا اختص المقبلون على العبادة باسم الصوفية والمتصوفة”.[1]

إن إقصاء علم مثل علم التصوف ترك آثارا سلبية في مفهومنا عن العلوم الإسلامية، وفي طرق تعاملنا مع أسسها ومضامينها المعرفية وغاياتها العملية، وفي طرق الاستفادة منها، واستثمارها فيما يخدم تقدم الأمة وازدهارها.

لذلك نجد الصوفية يسعون في مدوناتهم إلى توضيح منزلة التصوف بين العلوم الإسلامية، ويبينون أهميته المعرفية في نسق منسجم ومتكامل مع فنون العلم الأخرى، فمن المعلوم أن العلوم الإسلامية وإن اختلفت في مادتها ووجوه إعمالها وفضائلها وفوائدها، وأن منها ما يرادُ لذاته: علوم الغاية، ومنها ما يطلبُ لغيره: علوم الوسيلة، وأنها تشرف وتضعف بحسب موضوعاتها، وأنها تتفاوت في الشرف باعتبار متعلّقها ومقاماتها… ونحو هذا من الاعتبارات المعلومة، فإن العلوم الإسلامية جميعا تستمد أصولها من الوحي المنزل، وتتحد أهدافها في جعل المكلف يتحقق بالعبودية الخالصة لله تعالى إختيارا، وإسعاد الناس في العاجل والآجل، وإن إختلفت في وسائلها وطرقها،  يقول أحمد زروق: “وأصل التصوف مقام الإحسان، الذي فسره رسول الله صلى الله عليه وسلم ب (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)… كما دار الفقه على مقام الإسلام، والأصول على مقام الإيمان”.[2]

  لأجل ذلك صارت الحاجة ملحة على كل دعاة الإصلاح والتجديد أن يعمقوا النظر في العلاقات المتعددة بين العلوم الإسلامية، تجديدا لذلك التكامل المعرفي بين فروعها مهما تباينت، وبحثا عن نسقية فاعلة بين تخصصاتها مهما ظهر لنا من تباعد بينها، ولا يتأتى ذلك إلا بتبيان أهمية التصوف باعتباره أحد العلوم الإسلامية التي تهتم بالجانب الروحي والتزكوي، وإصلاح المنظومة القيمية والأخلاقية للفرد والمجتمع والأمة، يقول مصطفى النشار: “إن التخلف العلمي لدى العرب والمسلمين ارتبط بتوقف الاجتهاد في ميدان الدين، ولما كان التجديد والاجتهاد الديني يمثل إحدى القوى الدافعة للإبداع في العلم الإسلامي فقد أدى إغلاق باب الاجتهاد إلى ضعف علمي ملحوظ وإلى تخاذل واضح من العلماء في بقية التخصصات، إذ إن الازدهار في علوم العقل كل لا يتجزأ، فالتخلف عن ركب التقدم العلمي في أي علم من العلوم دينية كانت أو رياضية أو طبيعية أو اجتماعية أو إنسانية، وليس أدل على صحة ما نقول إلا النظر في تاريخ الحضارات، قديمها وحديثها، فسنجد أن مظاهر التقدم تتكامل كلها حينما تتوافر لها البيئة والمناخ الملائمان”.[3]

 كما يجب أن لا يتكرر منطق الإقصاء والتهميش، لأن ذلك مما يعطل التجديد والإصلاح، فلا تجديد ولا إصلاح بدون الوقوف على هندسة شاملة لخريطة العلوم التي تبني كيان المجتمع وتقوم حضارته، وتحدد خريطة الاشتغال في تناسق تام ومنسجم مع جميع المكونات وجميع التخصصات حتى يكون البناء مستجمعا لجميع عناصره، لذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: « إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا »[4] فخصص القول بالدين وهو عام وشامل لجميع التخصصات ومن قيد فعليه الدليل، لذلك فإن أي عملية إصلاحية لا تضع في برنامجها التكامل بين العلوم والتخصصات واستثمارها بالطرق المثلى فإن هذه العملية ستكون قاصرة غير مكتملة البنيان.

الهوامش:

[1] مقدمة ابن خلدون، عبد الرحمن بن محمد بن خلدون، دراسة وتحقيق: علي عبد الواحد وافي، نهضة مصر للطباعة والنشر، الطبعة الرابعة، 2006م، 3/ 989.

[2] قواعد التصوف، أحمد زروق البرنسي الفاسي، تحقيق وتقديم: عثمان الحويمدي، عني به: حسن السماحي سويدان، دار وحي القلم، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 1425هـ/2004م، 24، 25

[3] العقلية العربية بين إنتاج العلم واستيراد الثقافة، مصطفى النشار، مجلة “المستقبل العربي” العدد رقم: 200، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، أكتوبر، 1995م، ص: 119.

[4] رواه أبو داود، كتاب الملاحم، باب: ما يذكر في قرن المائة، حديث رقم: 4291، 4/ 1835، وجاء في عون المعبود، “قال العلقمي في شرح الجامع الصغير: اتفق الحفاظ على أنه حديث صحيح” 1845، رقم الحديث: 4290.

Science

د.مصطفى بوزغيبة

باحث بمركز الإمام الجنيد التابع للرابطة المحمدية للعلماء

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق