مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةدراسات عامة

التجربة الصوفية بين مدرسة الجمع ومدرسة الفرق

التجربة الصوفية بين مدرسة الجمع ومدرسة الفرق[1]

اهتم أرباب التصوف في تنشئة تلامذتهم ومريديهم بنقلهم من تعلم العلم والعمل، إلى تحصيل الإخلاص في العلم والعمل، فتجاوزوا بذلك التحصيلَ العلمي النظري المجرد، لأنه أمر يسهل اكتسبابه بالتحصيل والـمُدارسة، وقد عبر زمرة من العلماء عن هذا المعنى في كثير من أقوالهم، من ذلك: قول الإمام ابن وهب: «صحبت الإمام مالك عشرين سنة، أخدت العلم كله في سنة واحدة، وأخدت الأدب والأخلاق في تسعة عشر سنة، ووددت لو كانت العشرين سنة كلها أخلاق»[2].

وقد كان الإمام مالك أيضا -كما يحكي عن نفسه- إذا وجد في قلبه قسوة يأتي محمد بن المنكدر، فينظر إليه نظرة فيتعظ بنفسه أياما[3]، فمجالسته لأستاذه وصحبته له كان لها الأثر الفعال في إصلاح حاله قبل قاله ولو بنظرة منه إليه، وهذا منهج نبوي تربوي أصيل افتقدناه في أساليب تلقينا المعاصرة، قال عبد الله بن المبارك: «طلبت الأدب ثلاثين سنة وطلبت العلم عشرين سنة، وكانوا يطلبون الأدب قبل العلم»[4].

ومسلك التجربة الصوفية شهد منذ وقت مبكر تنوعا بين مدرستين صوفيتين، اختلفت تسميتهما من لدن الدارسين، فمن سماهما بالمدرسة الأخلاقية في مقابل المدرسة الإشراقية، ومن سماهما بمدرسة الكتم في مقابل مدرسة البوح، ومن سماهما بالمدرسة المغربية في مقابل المدرسة المشرقية، ومن سماهما بمدرسة الصحو في مقابل مدرسة السكر[5].

ولنسمهما بمدرسة الفرق في مقابل مدرسة الجمع[6]، وقد نحى بعض الدارسين في هذه المقابلات وفي هذه التقسيمات الإجرائية بين المدرستين، منحى نسبوا فيه لمدرسة الجمع شبهة زيغ عن متعلقات الشريعة؛ -وذلك بالنظر إلى ما بثه أرباب هذا المنهج في كتبهم من حقائق وكشوفات تبدو في ظاهرها مخالفة لمضامين الشرع، في مقابل المدرسة الثانية التي اتخذت منهج الفرق ومخاطبة الناس على قدر عقولهم مسلكا لها لتنزيل ولتحصيل أخلاق التصوف-.

 والحق أن الأصل في كلا المدرستين استمدادهما من متعلقات الشرع، وما اختلافهما إلا اختلاف في المشرب المتبع، والكل يُجمع تحت مظلة الشرع الحكيم.

وفي هذا السياق يقول الشيخ ابن عجيبة الحسني المغربي رحمه الله تعالى: «إن أهل الباطن لما استشرفوا على بحار زواخر من التوحيد الخام، راح بعضهم للتعبير عن تلك الأسرار فضاقت عباراتهم عن ذلك ففهم منها غير ما أرادوه، فرموا بالحلول والاتحاد مع تنزههم عن ذلك (…) ومنهم من عبر عنها بإشارة رقيقة وعبارة دقيقة غطاها بنوع من التشريع فقبل منه، وأقر في محله (…) فسلموا من الانتقاد عليهم، وكلهم أولياء رضي الله عنهم أجمعين»[7]

أما النزاع المفتعل الذي يُبث في ثنايا الكتب، بين الصوفية وخاصة صوفية مشرب الجمع مع أرباب الفقه، فالأصل فيه أنه قد ولد خصاما من جهة واحدة على التحقيق، وهي جهة الفقهاء الذين توزعوا بين مقتصد في الحكم عليهم، وبين متشدد أوصل الحكم إلى درجة الإفتاء بالقتل، وحرق تراث عرفاني عظيم حُرمنا الاستفادة منه، وأن وصف الأمر بأنه تنازع للسلطة العلمية وربما السياسية بين الصوفي والفقيه، أمر مستبعد لأربع جهات؛

الجهة الأولى سهولة تفسير الأحداث التاريخية التي وقعت بين الصوفية والفقهاء خاصة، بعزوها إلى أسباب بسط السلط العلمية والسياسية على المخالف، وما يستتبع ذلك من فتح باب المؤامرات.

والجهة الثانية أن التصوف بما هو أخلاق؛ لا بغية ولا طموح لأربابه في التسلط على الخلق، فالصوفي كما قيل هو الذي لا يملك[8] شيئا ولا يملكه شيء، فهو لله وبالله.

أما الجهة الثالثة لأنهم لم يخوضوا تجربة صوفية تجعلهم يتفكرون في تلك المعاني بعد أن يتذوقوها وتستأنس بها قلوبهم.

أما بالنسبة للجهة الرابعة فبحكم أن الفقه عام في العموم لأن مقصده إقامة رسم الدين، وحكم التصوف خاص في الخصوص لأنه معاملة بين العبد وربه، صح إنكار الفقيه على الصوفي ولم يصح إنكار الصوفي على الفقيه[9].

إذا فتحصيل ذلك المنهج التربوي الأخلاقي الأصيل وسبيل معالجته لا يكون إلا باقتفاء ما قرره علماؤنا الأجلاء، وقد تقدم بعض منهم، فالناظر في سيرهم ليستوقفه ذاك الحضور القوي لتلك العلاقة بين سلوكهم العلمي والأخلاقي والانسجام الحاصل بينهما.

الهوامش

[1] نقصد بمدرسة الجمع المدرسة التي نهج أربابها منهجا يعبرون فيه عن كشوفاتهم والحقائق التي وصلوا إليها تعبيرا يخالف مألوف الناس في تعابيرهم وخطاباتهم، فنفر الناس منهم بسبب ذلك، ونقصد بمدرسة الفرق المدرسة التي نهج أربابها منهجا مخالفا للمدرسة الأولى؛ فخاطبوا الناس على قدر عقولهم وفصلوا بين ما وقر في صدورهم من حقائق وما حصل لهم من كشوفات وبين التعبير عنها لعامة الناس، فقبل ذلك منهم خلاف المدرسة الأولى.

[2] “الديباج الـمُذهَّب” لابن فرحون، مكتبة الثقافة الدينية، 2002م، 2/ 332.

[3] “سير أعلام النبلاء” للذهبي، مؤسسة الرسالة، 2001م، 5/ 360.

[4] “الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع” للخطيب البغدادي، مكتبة المعارف 1403هـ، 1/ 3.

[5] مصطلح صوفي يقصدون به “النشوة العَارمة التي تفيض بها نفس الصوفي وقد امتلأت بحب الله حتى غدت قريبة منه كل القُرب”، أنظر: “الشعر الصوفي حتى أفول مدرسة بغداد وظهور الغزالي” لعدنان حسين العَوادي، دار الشؤون الثقافية العامة، 1967م، ص:199.

[6] على اعتبار أن كلا المدرستين يجمعهما منهج الجمع في القلب لكنهما في التعبير عن الحقائق يفترقان بين الفرق والجمع.

[7] “اللطائف الإيمانية الملكوتية والحقائق الإحسانية الجبروتية” في رسائل الشيخ ابن عجيبة الحسني دار الكتب العلمية، ص: 72.

[8] عدم التملك يمكن النظر إليه من منظورين اثنين؛ الأول: من جهة الحس؛ فالصوفي قد يملك شيئا لكنه لا يتعلق به تعلق أرباب الدنيا بملذاتها، لأنه يرى فيما تملكه استخلافَ الله تعالى له فيه، فليس له أصالة، والمنظور الثاني: من جهة المعنى؛ لأن أهل الله تعالى يتبرؤون من طاعتهم ومقاماتهم كما يتبرأ أهل المعصية من معاصيهم فهم ينفون عنهم كل تلك اللطائف والخيوط النورانية التي يفتح الله تعالى عليهم بها، فلا يبقى في قلبهم سواه سبحانه.

[9] أنظر قواعد التصوف، للشيخ زروق، القاعدة 26، ص: 32، دار الكتب العلمية، ط3/ 2007، تحقيق: عبد المجيد خيالي.

Science

ذ. محمد المنصوري

باحث بمركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصة بالرابطة المحمدية للعلماء

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق