مركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصةشذور

التشوف إلى مقامات التصوف (8) درر من تفسير ابن جزي الغرناطي (الدعاء)

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده

وبعد فهذه درة ثامنة اقتبسناها تعقبا من لازم مقام الخوف والرجاء الذي انتزعه الإمام ابن جزي في التسهيل من قوله تعالى: ﴿ وادعوه خوفا وطمعا إن رحمت الله قريب من المحسنين﴾، [الأعراف:55]؛ فقد احتفى رحمه الله بالقيد دون المقيد، وبالصفة دون الموصوف، فآثرنا هـهنا التقدمة للمقامين الواقعين صفة بموصوفهما ـ أعني الدعاء ـ؛ سيرا على مساق الآية الكريمة المقتضية التكليف:

أولا: بالمعارف النفسانية من خلال ذكر الدلائل الدالة على التوحيد وكمال القدرة والعلم: ﴿إن ربكم الله الذي خلق السموت والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش..﴾؛ لتصير تلك الدلائل مقررة لأصول التوحيد وإثبات المعاد؛ إذ مدار أمر القرآن على تقدير مسائل أربعة: التوحيد والنبوة والمعاد والقضاء والقدر

وثانيا: بالأعمال اللائقة بتلك المعارف، وهو الاشتغال بالدعاء والتضرع: ﴿ادعوا ربكم تضرعا وخفية… وادعوه خوفا وطمعا﴾ ([1])

فسيق قوله تعالى: ﴿خوفا وطمعا﴾ منصوبا على الحالية ـ في أصح الأقوال ـ بتقدير: ادعوه متضرعن مختفين خائفين طامعين؛ ليكون قيدا للمأمور به ـ أعني الدعاء ـ، والمأمور ـ أعني الداعي ـ، فكأنه سبحانه قال: «اذكره متضرعا إليه، واذكره ذكر تضرع»، ونظيره قوله تعالى: ﴿إنهم كانوا يسـرعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا﴾ [الأنبياء: 90] أي: ادعه راغبا وراهبا، وادعه دعاء رغبة ورهبة، قال في البدائع: «فتأمل هذا الباب تجده كذلك، فأتى فيه بالمصدر الدال على وصف المأمور به بتلك الصفة، وعلى تقييد الفاعل بها تقييد صاحب الحال بالحال، ومما يدلك على هذا أنك تجد مثل هذا صالحا وقوعه جوابا لـ «كيف»، فإذا قيل: كيف أدعوه؟ قيل: تضرعا وخفية، وتجد اقتضاء «كيف» لهذا أشد من اقتضاء: «لم»، ولو كان مفعولا له لكان جوابا لـ«لم»، ولا تحسن هنا، ألا ترى أن المعنى ليس عليه؛ فإنه لا يصح أن يقال: لم أدعوه؟ فيقول: تضرعا وخفية، وهذا واضح، ولا هو انتصاب على المصدر المبين للنوع الذي لا يتقيد به الفاعل؛ لما ذكرنا من صلاحيته جوابا لـ «كيف»([2]).

وبالجملة فإن الآية سيقت لتقرير وحدانية الله في الخلق والأمر؛ إذ منه سبحانه النفع والضر، وله وحده اللجأ والشكر؛ ولهذا قال البقاعي رحمه الله: «ولما ذكر تعالى تفرده بالخلق والأمر المقتضي لتفرده بالعبادة للتوجيه إلى تحصيل المعارف النفسانية والعلوم الحقيقية، أمر بهذا المقتضى اللائق بتلك المعارف، وهو الدعاء الذي هو مخ العبادة فقال: ﴿ادعوا ربكم﴾ أي: الدائم الإحسان إليكم دعاء عبادة وخضوع..» ([3])

إذا ثبت هذا فاعلم أن المقصود من الدعاء أن يصير العبد مشاهدا لحاجة نفسه ولعجز نفسه، ومشاهدا لكون مولاه موصوفا بكمال العلم والقدرة والرحمة، فكل هذه المعاني دخلت تحت قوله: ﴿ادعوا ربكم تضرعا﴾

 ثم إذا حصلت هذه الأحوال على سبيل الخلوص، فلا بد من صونها عن الرياء المبطل لحقيقة الإخلاص، وهو المراد من قوله تعالى: ﴿وخفية﴾

 والمقصود من ذكر التضرع تحقيق الحالة الأصلية المطلوبة من الدعاء، والمقصود من ذكر الإخفاء صون ذلك الإخلاص عن شوائب الرياء.

 وإذا عرفت هذا المعنى ظهر لك أن قوله سبحانه: ﴿تضرعا وخفية﴾ مشتمل على كل ما يراد تحقيقه وتحصيله في شرائط الدعاء، وأنه لا يزيد عليه البتة بوجه من الوجوه([4])

ثم إذا كان العبد لا يمكنه أن يقطع بكونه آتيا بجميع الشرائط المعتبرة في قبول الدعاء فلا ريب حصل منه خوف عدم الاستجابة، وإذا كان لا يقطع أيضا بفقدانها، فلا شك في كونه طامعا في قبولها، وذلك معنى قوله سبحانه: ﴿وادعوه خوفا وطمعا﴾.

فاشتملت الآية إجمالا على حكم الدعاء وفضيلته، وآدابه وشرائطه، وكفيته سرا وجهرا:

1- فأما حكمه فاستمداده من قوله تعالى: ﴿ ادعوا ربكم تضرعا وخفية.. وادعوه خوفا وطمعا﴾ على أرجحية دعاء المسألة لا دعاء العبادة، أو الجمع بينهما كما رجحه في البدائع([5])، ويؤيده حديث: ﴿إن الله يغضب على من لا يسأله، ولا يفعل ذلك أحد غيره﴾، قال ابن الفرس:« وهذا الأمر بالدعاء أمر ندب، وعبر بعضهم عنه بأنه واجب»([6])

2- وأما فضيلته فيكفي ورود الأمر به في سياق إثبات الوحدانية لله، والفردانية له في الخلق والأمر؛ إذ فيه تتجلى ربوبية الحق سبحانه للمربوبين، وقدرته المطلقة للعاجزين، ورحمته الشاملة للمتذللين؛ إذ في ضمنه إقرار من العبد لمعبوده بالعجز والخضوع، والتذلل والخنوع، والمسكنة والافتقار ؛ ولذلك كان الدعاء هو العبادة؛ لما اشتمل عليه من سمي المعاني له سبحانه خلقا وملكا وقدرة وغنى وعطاء ورحمة وسواها من جزيل الخلال، قال صلى الله عليه وسلم: «الدعاء هو العبادة»([7])

 3- وأما فائدته: فإنه من أقوى الأسباب في دفع المكروه وحصول المطلوب، لا يرتاب في ذلك عاقل، ولا يماري فيه ذو نظر، وأما قول ابن الفرس: «وقد اختلف في الدعاء هل فيه منفعة أم لا على ثلاثة أقوال:

 قيل لا منفعة فيه جملة، ولا يغني عن الإنسان شيئا، وإنما هو عبادة تعبدنا الله تعالى وأوجبها علينا بقوله تعالى: ﴿ادعوا ربكم تضرعا وخفية﴾ ونحو ذلك من الآي كما أمر بالصلاة ونحوها من العبادات. واحتجوا أيضا بقوله صلى الله عليه وسلم: ﴿جف القلم بما هو كائن﴾([8]).

وقيل: الدعاء على الإنسان واجب وهو يرد القضاء، واحتجوا بقوله عليه الصلاة والسلام: ﴿لا يرد على الإنسان واجب القضاء إلا أثر دعاء﴾ ومن حجتهم قوله تعالى: ﴿ادعوني أستجب لكم﴾ [غافر: 60].

وقيل: هو واجب، ولا يستجاب منه إلا ما وافق القدر. وضعف بعضهم هذا القول، وقال: إنه راجع إلى القول الأول. ورجحه أبو سليمان الخطابي وقال: هو الصحيح وهو مذهب أهل السنة والجماعة، وبه يجمع بين الأحاديث الواردة في الدعاء على اختلافها»([9])؛ فإنه آيل إلى مسائل كلامية في القضاء والقدر، وتأثير السبب في مسببه، وذيولها طويلة جدا.

 وبالجملة فإن المقدورات برمتها قدرت بأسباب، ومن أسبابها الدعاء، فلم يقدر مجردا عن سببه ولكن قدر بسببه. فمتى أتى العبد بالسبب وقع المقدور ، ومتى لم يأت بالسبب انتفى المقدور، وهذا كما قدر الشبع والري بالأكل والشرب، وقدر الولد بالوطء، وقدر حصول الزرع بالبذر، وقدر خروج نفس الحيوان بذبحه، وكذلك قدر دخول الجنة بالأعمال، ودخول النار بالأعمال([10])، فلا حجة في القدر على عدم تأثير الدعاء، ولا برهان في السببية على عدميته، بل الدعاء كسائر الأسباب مع مسبابتها: جالب للمنافع بإذن الله، ودافع للمضار بقدره سبحانه؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: ﴿ الدعاء سلاح المؤمن﴾([11])، وقال عليه السلام: ﴿لا يغني حذر من قدر، والدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل، وإن البلاء لينزل فيلقاه الدعاء، فيعتلجان إلى يوم القيامة﴾([12]) وقال صلى الله عليه وسلم: ﴿لا يرد القدر إلا الدعاء﴾([13]) وسواها من طافح الأحاديث الدالة على أثر الدعاء، وفوائده الكبيرة تعبدا وتذللا لله، وجلبا للمنافع، ودرءا للمضار، بل «له مع البلاء ثلاث مقامات:

أحدها: أن يكون أقوى من البلاء، فيدفعه.

الثاني: أن يكون أضعف من البلاء، فيقوى عليه البلاء، فيصاب به العبد. ولكن  قد يخففه، وإن كان ضعيفا.

الثالث: أن يتقاوما، ويمنع كل واحد منهما صاحبه»([14]).

وأما تخلف أثر الدعاء فلأسباب عديدة منها: ضعف الدعاء في نفسه بأن يكون دعاء لا يحبه الله؛ لما فيه من العدوان. أو ضعف صاحبه وعدم إقباله على الله وجمعيته عليه وقت الدعاء، فيكون بمنزلة القوس الرخو جدا؛ فإن السهم يخرج منه خروجا ضعيفا. أو لحصول المانع من الإجابة من أكل الحرام والظلم، ورين الذنوب على القلوب، واستيلاء الغفلة والسهو واللهو وغلبتها عليها، أو لغير ذلك مما نعلمه ومما لا نعلمه، وقد أومأ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بعضها بقوله: ﴿ما من مسلمٍ يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث: إما أن يعجل له دعوته، وإما أن يدخرها له في الآخرة، وإما أن يدفع عنه من السوءِ مثلها. قالوا: إذن نكثر؟ قال: الله أكثر﴾([15])

والحاصل أن أثر الدعاء عجيب، ولعله من ألطاف الله الخفية في دفع البلاء، يوفق إليه الموفقون، ويحرم لذته وأثره المحرومون، وأسرار الله في خلقه كثيرة ﴿وما يعلم جنود ربك إلا هو ﴾ [المدثر:31]: «إن الجراثيم التي تحمل العلل قد تهاجم بعض الأجسام بضراوة، على حين تفقد شراستها حين تتصل بأجسام أخرى، فما تمسها بأذى يذكر. وأحيانا تشتد وطأة الجراثيم الهاجمة، ومع ذلك تستقبلها من الجسم مناعة غريبة، وربما حمل الإنسان أسباب المرض دون أن يعتل به، أو يتألم منه.

ما سر ذلك؟ مَن الذي أفقد الجراثيم قدرتها على الإصابة ابتداء وانتهاء، نحن المؤمنين نقول: الله. ونسأل الشاكين: مَن غيره؟

إن عالم الحس بالنسبة إلى عالم الغيب ضئيل محدود، والتحكم في أسباب المرض والعافية أقله في أيدينا، وأكثره بعيد عن متناولنا.

والتداوي حق، وقد وصفت السُّنة عقاقير وأغذية وأشربة شتى للنجاة من الأمراض، ولكن يبقى قبل ذلك كله، وبعد ذلك كله هذا السبب الخفي الذي يجعل الجراثيم تستأنس حينا، وتفترس حينا آخر، الذي يجعل العدوى تنتقل من الهباء، ولا تنتقل مع طول المخالطة والالتصاق؛ من أجل ذلك يبقى دعاء الرب الأعلى واهب الأسباب قدرتها على العمل إذا شاء، وتاركها صفرا لا أثر لها إذا شاء»([16])، فليلح العبد في الدعاء لرفع البلاء، وليوقن بالإجابة.

 4- آداب الدعاء: وذلك من آداب الدعاء التي أوصلها العلماء إلى عشرة([17]):

الأول: أن يترصد لدعائه الأوقات الشريفة كيوم عرفة من السنة، ورمضان من الأشهر، ويوم الجمعة من الأسبوع، ووقت السحر من ساعات الليل، قال تعالى ﴿وبالأسحار هم يستغفرون﴾ [الذاريات:18]

الثاني: أن يغتنم الأحوال الشريفة كنزول الغيث والآذان وإقامة الصلوات المكتوبة والسجود وسواها، قال صلى الله عليه وسلم: ﴿أقرب ما يكون العبد من ربه عز وجل وهو ساجد، فأكثروا فيه من الدعاء﴾([18])

الثالث: أن يدعو مستقبل القبلة، ويرفع يديه بحيث يرى بياض إبطيه، قال سلمان رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ﴿ إن ربكم حيي كريم يستحي من عبيده إذا رفعوا أيديهم إليه أن يردها صفرا﴾([19])

الرابع: أن لا يتكلف السجع في الدعاء؛ فإن حال الداعي ينبغي أن يكون حال متضرع والتكلف لا يناسبه، وقد قال عز وجل ﴿ادعوا ربكم تضرعا وخفية﴾

الخامس: التضرع والخشوع والرغبة والرهبة، قال الله تعالى ﴿إنهم كانوا يسـرعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا﴾[الأنبياء: 89]

السادس: أن يجزم الدعاء ويوقن بالإجابة ويصدق رجاءه فيه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ﴿لا يقل أحدكم إذا دعا اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت، ليعزم المسألة فإنه لا مكره له﴾([20])

السابع: أن يلح في الدعاء ويكرره ثلاثا قال ابن مسعود كان صلى الله عليه وسلم: «إذا دعا دعا ثلاثا، وإذا سال سأل ثلاثا»([21]).

الثامن: أن يفتتح الدعاء بذكر الله عز وجل فلا يبدأ بالسؤال، قال سلمة بن الأكوع: «ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستفتح الدعاء إلا استفتحه بقول سبحان ربي العلي الأعلى الوهاب»([22])

التاسع: وهو الأدب الباطن وهو الأصل في الإجابة التوبة ورد المظالم والإقبال على الله عز وجل بكنه الهمة، فذلك هو السبب القريب في الإجابة. ويروى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه استسقى بالعباس([23]) رضي الله عنه فلما فرغ عمر من دعائه قال العباس: «اللهم إنه لم ينزل بلاء من السماء إلا بذنب، ولم يكشف إلا بتوبة، وقد توجه بي القوم إليك لمكاني من نبيك صلى الله عليه وسلم، وهذه أيدينا إليك بالذنوب ونواصينا بالتوبة، وأنت الراعي لا تهمل الضالة، ولا تدع الكبير بدار مضيعة، فقد ضرع الصغير ورق الكبير وارتفعت الأصوات بالشكوى، وأنت تعلم السر وأخفى، اللهم فأغثهم بغياثك قبل أن يقنطوا فيهلكوا، فإنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون. قال: فما تم كلامه حتى ارتفعت السماء مثل الجبال»

العاشر: خفض الصوت بين المخافتة والجهر لما روي أن أبا موسى الأشعري قال قدمنا مع رسول الله فلما دنونا من المدينة كبر وكبر الناس ورفعوا أصواتهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ﴿يا أيها الناس إن الذي تدعون ليس بأصم ولا غائب إن الذي تدعون بينكم وبين أعناق ركابكم﴾([24])، وقال عز وجل : ﴿ادعوا ربكم تضرعا وخفية﴾ قال ابن العربي في تفسيرها: «فيها مسألتان:

المسألة الأولى: الأصل في الأعمال الفرضية الجهر، والأصل في الأعمال النفلية السر؛ وذلك لما يتطرق إلى النفل من الرياء والتظاهر بها في الدنيا، والتفاخر على الأصحاب بالأعمال، وجبلت قلوب الخلق بالميل إلى أهل الطاعة، وقد جعل الباري سبحانه في العبادات ذكرا جهرا، وذكرا سرا، بحكمة بالغة أنشأها بها ورتبها عليها؛ وذلك لما عليه قلوب الخلق من الاختلاف بين الحالين.

المسألة الثانية: أما الذكر بالقراءة في الصلاة فانقسم حاله إلى سر وجهر، وأما الدعاء فلم يشرع منه شيء جهرا؛ لا في حالة القيام ولا في حالة الركوع، ولا في حالة السجود..» ([25])

5- وله فوائد كثيرة أوصلها بعضهم إلى عشر([26])

أحدها: أن إخفاء الدعاء أعظم إيمانا؛ لأن صاحبه يعلم أن الله تعالى يسمع

دعاءه الخفي، وليس كالذي قال: «إن الله يسمع إن جهرنا، ولا يسمع إن أخفينا»

وثانيها: أنه أعظم في الأدب والتعظيم، ولهذا لا تخاطب الملوك ولا تسأل برفع الأصوات، وإنما تخفض عندهم الأصوات ويخفى عندهم الكلام بمقدار ما يسمعوه، ومن رفع صوته لديهم مقتوه، ولله المثل الأعلى، فإذا كان يسمع الدعاء الخفي فلا يليق بالأدب بين يديه إلا خفض الصوت به.

وثالثها: أنه أبلغ في التضرع والخشوع الذي هو روح الدعاء ولبه ومقصوده؛ فإن الخاشع الذليل الضارع إنما يسأل مسألة مسكين ذليل، قد انكسر قلبه، وذلت جوارحه، وخشع صوته، حتى إنه ليكاد تبلغ به ذلته ومسكنته، وكسرته  وضراعته، إلى أن ينكسر لسانه، فلا يطاوعه بالنطق فقلبه سائل طالب مبتهل، ولسانه لشدة ذله وضراعته ومسكنته ساكت، وهذه الحال لا يتأتى معها رفع  الصوت بالدعاء أصلا.

ورابعها: أنه أبلغ في الإخلاص.وقد تقدم

وخامسها: أنه أبلغ في جمعية القلب على الله تعالى في الدعاء، فإن رفع الصوت يفرقه ويشتته، فكلما خفض صوته كان أبلغ في صمده وتجريد همته وقصده للمدعو سبحانه وتعالى.

وسادسها: أنه دال على قرب صاحبه من الله، وأنه لاقترابه منه وشدة حضوره يسأل مسألة: أقرب شيء إليه، فيسأله مسألة مناجاة القريب للقريب، لا مسألة نداء البعيد للبعيد؛ ولهذا أثنى الله سبحانه على عبده زكريا بقوله: ﴿إذ نادى ربه نداء خفيا ﴾ [مريم:2]

وسابعها: أنه أدعى إلى دوام الطلب والسؤال، فإن اللسان لا يمل والجوارح لا تتعب، بخلاف ما إذا رفع صوته به، فإنه قد يكل لسانه وتضعف بعض قواه، وهذا نظير من يقرأ ويكرر رافعا صوته، فإنه لا يطول له ذلك بخلاف من يخفض صوته.

وثامنها: أن إخفاء الدعاء أبعد له من القواطع والمشوشات والمضعفات، فإن الداعي إدا أخفى دعاءه لم يدر به أحد، فلا يحصل تشويش ولا غيره..

وتاسعها: أن أعظم النعم الإقبال على الله، والتعبد له، والانقطاع إليه، والتبتل إليه، ولكل نعمة حاسد على قدرها دقت أو جلت، ولا نعمة أعظم من هذه النعمة، فأنفس الحاسدين المنقطعين متعلقة بها، وليس للمحسود أسلم من إخفاء نعمته عن الحاسد، وأن لا يقصد إظهارها له.

وعاشرها: أن الدعاء هو ذكر للمدعو سبحانه، متضمن للطلب منه والثناء عليه بأسمائه وأوصافه، فهو ذكر وزيادة، كما أن الذكر يسمى دعاء لتضمنه الطلب، فسبيل الدعاء سبيل الذكر؛ لقوله تعالى: ﴿واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول﴾ [الأعراف:205].

فهذه قطوف من يوانع ثمار الآية الكريمة، تضمنت حكم الدعاء وفضيلته، وفوائده وآدابه، وكيفيته في الجهر به وإخفائه، وما تناثر من حِكَمه وأسراره، وجماع ذلك ختاما قول ابن عطاء الله رحمه الله: «لايكن أمد تأخر العطاء مع الإلحاح في الدعاء موجبا ليأسك، فهو ضمن لك الاستجابة فيما يختاره لك لا فيما تختاره لنفسك، وفي الوقت الذي يريد لا في الوقت الذي تريد»([27])


([1]) ن مفاتيح الغيب:14/279

([2]) بدائع الفوائد: 3/ 860.

([3]) نظم الدرر في تناسب الآيات والسور :7/ 418.

([4]) ن مفاتيح الغيب: 14/280.

([5]) قال: «هاتان الآيتان مشتملتان على آداب نوعي الدعاء: دعاء العبادة ودعاء المسألة؛ فإن الدعاء في القرآن يراد به هذا تارة وهذا تارة، ويراد به مجموعهما، وهما متلازمان: فإن دعاء المسألة هو طلب ما ينفع الداعي، وطلب كشف ما يضره أو دفعه، وكل من يملك الضر والنفع حقا؛ فإنه هو المعبود حقا، والمعبود لا بد وأن يكون مالكا للنفع والضر..» في كلام ماتع طويل الذيول. ن البدائع:3/835.

([6]) أحكام القرآن لابن الفرس :3/ 53

([7]) رواه أبو داود ح 1479. والترمذي ح 2969.

([8]) رواه الترمذي وغيره: ح رقم: 2516.

([9]) أحكام القرآن:3/53

([10]) ن الجواب الكافي: 28

([11]) ن الترغيب والترهيب:2/390.

([12]) ن الترغيب والترهيب:2/391.

([13]) ن الترغيب والترهيب:2/391.

([14]) ن الجواب الكافي: 12

([15]) مسند الإمام أحمد، ح:11133.

([16])  فن الذكر والدعاء: 89.

([17]) ن إحياء علوم الدين: 1/304 وما بعدها

([18]) صحيح مسلم ح 482

([19]) أبو داود ح 1488

([20]) صحيح البخاري ح 6339.

([21]) صحيح مسلم ح1794.

([22]) مجمع الزوائد للهيثمي:10/159

([23]) أصله في صحيح البخاري: ح 3710.

([24]) صحيح البخاري بلفظ متقارب: ح 7386.

([25]) أحكام القرآن:2/314.

([26]) ن بدائع الفوائد: 3/843

([27]) ن الحكم العطائية شرح وتحليل للعلامة البوطي:1/100

د. عبد الهادي السلي

  • باحث بمركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق