مركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصةشذور

التشوف إلى مقامات التصوف (14) درر من تفسير ابن جزي الغرناطي (مقام الشكر «جـ»)

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده

وبعد فما تمهد ـ فيما سلف في «الشكر بـ» ـ من أصول النعم المستوجبة للشكر على المستويات الثلاث: الحضاري، والجماعي، والفردي، المستمدة من حديث: ﴿من أصبح آمنا في سربه، معافى في بدنه، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها﴾([1]) سبيل العامة والخاصة كما سيأتي في درة أبي القاسم؛ إذ خاصة الخاصة في فناء في ذي النعم عن شهودها؛ المقتضي اتحاد نسبة الأخذ والعطاء، ولما فيه من ملاحظة الرسم بدعوى المكافأة به، وتلك مناقضة للشهود، على ألا كفاء بين الحادث والقديم، والخالق والمخلوق، والعبد والمعبود شكر ما شكر، بل مجرد الخاطرة في شأن المكافأة قد يخدش عند القوم جوهر العبودية، وخالص الاستسلام، فآل الأمر في مطلوبية الشكران، وارتضائه من الرحمان إلى ما أسلفناه من هناء العبد بما أوتي، ورضاه بما أعطي، وصرفه فيما أرشد، وفي الحديث القدسي: (يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على ‌أتقى ‌قلب رجل واحد منكم، ما زاد ذلك في ملكي شيئا..) ([2])  

فهؤلاء القوم بفنائهم في المعبود، وشهودهم للمنعم، تساوى عندهم الأخذ والعطاء، ولا يغترن أحد بما درج عليه مما ألف من عادته فيبادر بالنكران على القوم وما هم فيه من الشأن مدعيا إعمال التعقل والنظر، والحال أنه أسير عادته، رهينة إلفه، كما في كثير من تخرصاته بمقتضى استحكام العادة الملتبس بالتعقل، ولو عقل لما أسرع في النكير، ولعلم أن الإمكان واسع، وجنس الوقوع يؤيده؛ لحديث: (يا سارية الجبل) ([3])، وفي البخاري: (لقد كان فيما قبلكم من الأمم محدثون، فإن يك في أمتي أحد فإنه عمر) ([4]) وفي رواية: (سيكون بعدي محدثون فإن يكن فعمر) ([5]) وللعوالم أيضا أسرارها، وللعباد مقامات وأحوال من الترقي والتسفل كما للوجود مراتب فيهما؛ إذ كان جزأ من هذا  الخلق والتكوين، المنسوج على منوالهما مبتدئا على سبيل من التدرج «من المعادن ثم النبات ثم الحيوان على هيئة بديعة من التدريج: آخر أفق المعادن متصل بأول أفق النبات مثل الحشائش و ما لا بذر له، وآخر أفق النبات مثل النخل و الكرم متصل بأول أفق الحيوان مثل الحلزون والصدف، و لم يوجد لهما إلا قوة اللمس فقط.. واتسع عالم الحيوان وتعددت أنواعه، وانتهى في تدريج التكوين إلى الإنسان صاحب الفكر والروية، ترتفع إليه من عالم القردة الذي اجتمع فيه الحس و الإدراك، و لم ينته إلى الروية والفكر بالفعل، و كان ذلك أول أفق من الإنسان بعده، و هذا غاية شهودنا»، وبعد الشهود عوالم لايستطاع اقتحامها إلا بالخبر اليقين من بارئها، ومن ذلك عالم الملائكة.

ومن هذا الترتيب في الخلق هبوطا وعروجا يتبدى أن«.. للنفس استعدادا للانسلاخ من البشرية إلى الملكية؛ لتصير بالفعل من جنس الملائكة وقتا من الأوقات في لمحة من اللمحات، وذلك بعد أن تكمل ذاتها الروحانية بالفعل .. ويكون لها اتصال بالأفق الذي بعدها، شأن الموجودات المرتبة كما قدمناه..» ([6]) لكنها مرتبة في ذلك عجزا وقدرة على أصناف ثلاثة:

«صنف عاجز بالطبع عن الوصول إلى الإدراك الروحاني، فينقطع بالحركة إلى الجهة السفلى نحو المدارك الحسية والخيالية، وتركيب المعاني من الحافظة والواهمة على قوانين محصورة و ترتيب خاص يستفيدون به العلو م التصورية والتصديقية التي للفكر في البدن، وكلها خيالي منحصر نطاقه؛ إذ هو من جهة مبدإه ينتهي إلى الأوليات ولا يتجاوزها، وإن فسد فسد ما بعدها، وهذا هو في الأغلب نطاق الإدراك البشري الجسماني، و إليه تنتهي مدارك العلماء، وفيه ترسخ أقدامهم. قال سفيان الثوري رحمه الله: «الناس نيام فإذا ‌ماتوا ‌انتبهوا».([7])

وصنف متوجه بتلك الحركة الفكرية نحو العقل الروحاني والإدراك الذي لا يفتقر إلى الآلات البدنية بما جعل فيه من الاستعداد لذلك، فيتسع نطاق إدراكه عن الأوليات التي هي نطاق الإدراك الأول البشري، ويسرح في فضاء المشاهدات الباطنية، وهي وجدان كلها لا نطاق لها من مبدإها و لا من منتهاها، وهذه مدارك العلماء والأولياء أهل العلوم اللدنية والمعارف الربانية، كما مر في أثر (ياسارية الجبل)، وهي الحاصلة بعد الموت لأهل السعادة في البرزخ، وفي الحديث: (والله ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه هذه – وأشار يحيى بالسبابة – في اليم، فلينظر بم ترجع؟)([8]).

وصنف مفطور على الانسلاخ من البشرية جملة: جسمانيتها و روحانيتها إلى الملائكة من الأفق الأعلى؛ ليصير في لمحة من اللمحات ملكاً بالفعل، ويحصل له شهود الملإ الأعلى في أفقهم وسماع الكلام النفساني والخطاب الإلهي في تلك اللمحة، وهؤلاء الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، جعل الله لهم الانسلاخ من البشرية في تلك اللمحة، وهي حالة الوحي فطرةً فطرهم الله عليها، وجبلة صورهم فيها، ونزههم عن موانع البدن وعوائقه ما داموا ملابسين لها بالبشرية، بما ركب في غرائزهم من القصد والاستقامة التي يحاذون بها تلك الوجهة، وركز في طبائعهم رغبةً في العبادة تكشف بتلك الوجهة وتسيغ نحوها، فهم يتوجهون إلى ذلك الأفق بذلك النوع من الانسلاخ متى شاءوا بتلك الفطرة التي فطروا عليها لا باكتساب ولا صناعة.. ([9])

وعلى هذا التقرير يتنزل قول أبي إسماعيل في شأن الشكر «وهو.. من سبل العامة»([10]) ؛ إذ خاصة الخاصة في فناء الشهود عن الشهود: فنوا في شهود المنعم عن شهود النعم؛ ولذلك جعل القوم الشكر على درجات ثلاث: أسماها الثالثة: «أن لا يشهد العبد إلا المنعم: فإذا شهد المنعم عبوديةً استعظم منه النعمة، وإذا شهده حبا استحلى منه الشدة، وإذا شهده تفريدا لم يشهد منه شدة ولا نعمة»([11]): وأقصى الثلاث في الترقي عند القوم شهود التفريد؛ لأنه يفني الرسم، وتلك حال الفناء: المستغرق فيه لا يشهد نعمة ولا بلية؛ لكونه يغيب بمشهوده عن شهوده له، ويفنى به عنه، فكيف يشهد معه نعمة أو بلية، وذلك مقام الجمع عندهم، وبعضهم يحرم العبارة عنه. وحقيقته: اصطلامٌ يرفع إحساس صاحبه برسمه، فضلا عن رسم غيره؛ لاستغراقه في مشهوده وغيبته به عما سواه، وهذا غاية مطلوب القوم([12])، لكنه مناقش عند غيرهم من أهل الظواهر ـ على التفصيل الذي مر في شأن النفوس وترقيها ـ لاحتكامهم إلى الرسوم، واحتكام القوم إلى الحقائق المدركة عبر مكابدة  وذوب فؤاد، أثمرت عرفانا بالمعبود، ووجدانا لحقائق الوجود، فأكثر أحوالهم وعباراتهم في هذا الشأن وجدانية، «وفاقد الوجدان عندهم بمعزل عن أذواقهم فيه، واللغات لا تعطي دلالة على مرادهم منه؛ لأنها لم توضع إلا للمتعارف، وأكثره من المحسوسات.. ومن رزقه الله فهم شيء من هذه الكلمات والأحوال على وجه محتمل لظاهر الشريعة، فأكرم بها سعادة»([13]).

 و الحاصل  أن الإنصاف في شأن القوم أنهم أهل غيبة عن الحس، والواردات تملكهم حتى ينطقوا عنها بما يستوعر فهمه، وينبو عن العامة مقصده([14])، (ذلك فضل الله يوتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم) [الجمعة:4]. وإلى درة أبي القاسم، قال رحمه الله:

الفائدة الثالثة: الحمد أعمّ من الشكر؛ لأنّ الشكر لا يكون إلا جزاء على نعمة، والحمد يكون جزاء كالشكر، ويكون ثناء ابتداء، كما أنّ الشكر قد يكون أعم من الحمد؛ لأن الحمد باللسان، والشكر باللسان والقلب والجوارح، فإذا فهمت عموم الحمد: علمت أنّ قولك: +الحمد لله) يقتضي الثناء عليه لما هو من الجلال والعظمة والوحدانية والعزة والإفضال والعلم والمقدرة والحكمة وغير ذلك من الصفات، ويتضمن معاني أسمائه الحسنى التسعة والتسعين، ويقتضي شكره والثناء عليه بكل نعمة أعطى ورحمة أولى جميع خلقه في الآخرة والأولى، فيا لها من كلمة جمعت ما تضيق عنه المجلدات، وتقف دون مداه عقول الخلائق، ويكفيك أن الله جعلها أوّل كتابه، وآخر دعوى أهل الجنة.

الفائدة الرابعة: الشكر باللسان هو الثناء على المنعم والتحدث بالنعم، قال رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم: +التحدّث بالنعم شكر) ([15]) 

والشكر بالجوارح هو العمل بطاعة الله وترك معاصيه، والشكر بالقلب هو معرفة مقدار النعمة، والعلم بأنها من الله وحده، والعلم بأنها تَفضُّل لا باستحقاق العبد.

 واعلم أن النعم التي يجب الشكر عليها لا تحصى، ولكنها تنحصر في ثلاثة أقسام:

 نعم دنيوية: كالعافية والمال.

 ونعم دينية: كالعلم والتقوى.

 ونعم أخروية: وهي جزاؤه بالثواب الكثير على العمل القليل في العمر القصير.

والناس في الشكر على مقامين: منهم من يشكر على النعم الواصلة إليه خاصة، ومنهم من يشكر الله عن جميع خلقه على النعم الواصلة إلى جميعهم.

 والشكر على ثلاث درجات: فدرجات العوام الشكر على النعم، ودرجة الخواص الشكر على النعم والنقم وعلى كل حال، ودرجة خواص الخواص أن يغيب عن النعمة بمشاهدة المنعم، قال رجل لإبراهيم بن أدهم: «الفقراء إذا منعوا شكروا، وإذا أعطوا آثروا»

ومن فضيلة الشكر أنه من صفات الحق، ومن صفات الخلق؛ فإنّ من أسماء الله: الشاكر والشكور..

التسهيل لعلوم التنزيل لأبي القاسم محمد بن جزي:1/178.


([1]) الترغيب والترهيب للمنذري: 2/45. ن شعب الإيمان للبيهقي:7/،3352.

([2]) صحيح مسلم كتاب البر والصلة باب تحريم الظلم.

([3]) الجامع الكبير للسيوطي:15/692،  وحسنه الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة:3/101.

([4]) صحيح البخاري كتاب أصحاب النبي ﷺ باب مناقب عمر بن الخطاب أبي حفص القرشي العدوي

([5]) ن الاستذكار لابن عبد البر:4/123.

([6]) ن مقدمة ابن خلدون: 1/404..

([7]) حلية الأولياء:7/52.

([8]) صحيح مسلم كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها باب فناء الدنيا وبيان الحشر يوم القيامة.

([9]) ن مقدمة ابن خلدون: 1/408

([10]) منازل السائرين:53.

([11]) منازل السائرين:53

([12]) ن مدارج السالكين:2/245.بتصرف

([13]) ن مقدمة ابن خلدون: 3/1113.

([14]) ن مقدمة ابن خلدون: 3/1113. مع تصرف في عبارته.

([15]) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان:6/516.

د. عبد الهادي السلي

  • باحث بمركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق