مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةقراءة في كتاب

الانتصارُ للشعر والشعراء في كتاب “نَضْرة الإغْرِيض في نُصْرة القَرِيض” للمظفر بن الفضل العلوي المتوفى سنة (656 هـــ) ( الحلقة2)

رابع الآلاتِ الحقيقةُ والمجازُ:

ذَكَرَ المظفَّر أن الحقيقةَ ما أُقِر على أصل وضعه في اللغة عند استعماله، والمجازُ ما كان بضدِّ ذلك، وساقَ كلاماً لعلي بن عيسى الرماني مفادُه أن الحقيقةَ هي الدلالةُ على المعنى من غير جهة الاستعارة، والمجاز تجاوز الأصل إلى الاستعارة، وإنما يُعدَل عن الحقيقة إلى المجاز لمعانٍ ثلاثةٍ، وهي الاتِّساعُ والتّوكيدُ والتّشبيه، فإن عُدِمت هذه الأوصافُ كانت الحقيقة أولى بالاستعمال، قال الله تعالى: «وَأَدْخَلْنَاهُ في رَحْمَتِنَا»، فهذا مجازٌ وفيه الأوصاف الثلاثة. أما السعة فإنه زاد في أسماء الجهات، والمحلُّ اسمٌ وهو الرحمة، وأما التشبيه فإنه شَبَّه الرحمة بما يَجوزُ دُخولُه، فوضعَها مَوضعَه، وأما التوكيدُ فإنه أخبر عن العَرَض بما يُخبَر به عن الجوهر. [1]

 واستشهد على المجاز ببيتٍ لطَرفةَ يقول فيه:[2]

وَوَجْهٌ كَأَنَّ الشَّمْسَ أَلْقَتْ رِدَاءَهَا /// عَلَيْهِ، نَقِيُّ اللَّوْنِ لَمْ يَتَخَدَّدِ

فقد جعل للشمس رداءً وهو جوهرٌ لأنه أبلغُ من النور الذي هو عَرَضٌ، وكلُّ ما كانَ من هذه الاستعارات فإنه داخل تحت المجاز.

وخامسُ الآلاتِ الصَّنعةُ والمصنوع:

فَرَّقَ بين كَلمَتَي الصَّنعة والمصنوع فذكَرَ أن الصنعةَ في الشعر عبارةٌ عن النَّظم الذي خَلَّصَه من النثر وجمعَ أشْتاتَه بعد التبدُّد والصَّدْع، وأنّ المصنوعَ هو الشعرُ الذي عُنصرُه الكلامُ المنثور، والمصنوعُ لا يسمَّى مَصنوعاً حتى يَخرُجَ من العَدَم إلى الوُجود، فإذا كانَ مَوجودا سُمِّيَ مَصنوعا لمشاهدته والعلم به، ثُم يَعتوِرُه بعد ذلكَ النّقدُ فيُقالُ فيه كاملٌ وناقصٌ، وحَسَنٌ وقبيحٌ، وسَقيمٌ وصحيحٌ، وجيّد ورَديءٌ، ولكنّ قوماً من المُصنِّفينَ خَلطوا الصنعةَ بالنقدِ والنقدَ بالصنعةِ ولم يفرقوا بين المصنوع الصنعة.

وسادسُ الآلاتِ إقامةُ الوزن:

 فهو عبارة عن ذَوقٍ طبيعيّ حَفِظَ فُصولَه مِن الزيادةِ والنقصانِ وعَدَّلها تَعديلَ القِسطِ بالميزان، وذكرَ المؤلفُ أن العَروضَ هي ميزانُ الشعر يُستخرَجُ بها صحيحُه من مَكسوره، والشعرُ كلُّه مُركَّبٌ مِن سَبَبٍ ووَتِد وفاصلة، والسببُ سَببان والوَتدُ وَتدان والفاصلة فاصلتان، وكلُّ حَرف مُشَدَّدٍ بحرفين: الأولُ ساكنٌ والثاني متحرك. والفرقُ بينهما أن الساكنَ تتعاقبُ عليه الحركاتُ الثلاثُ، والمتحرك قد اختصَّ بإحداهُنّ، والأمثلةُ التي يُقَطَّعُ بها الشعرُ ثمانيةٌ؛ اثنان خُماسيان وهما فَعُولُنْ فاعِلًنْ وستةٌ سُباعيةٌ وهي مَفاعيلُن مُستفعلُن فاعلاتُن مُفاعَلَتُن مُتَفاعِلُن مَفعولاتُ.  وأشار إلى التصريع وأنّ كلَّ بيتٍ مُصَرَّع، وإذا خلا البيت من التَّصريع سُمِّيَ المصْمَت.

وسابعُ الآلات القوافي:

ذَكَر المؤلفُ أنّ القافيةَ مُختَلَفٌ فيها وعَرَضَ تَعريفَ كثير من اللغويينَ المتقدّمينَ، ولكنّه اطمأنَّ إلى قول الخليل بنِ أحمدَ: أنّ القافيةَ من آخرِ البيتِ إلى أولِ ساكنٍ يَليه مع المتَحرِّك الذي قبل الساكن[3]، وذَكَر أنّ القافيةَ يَعرِضُ فيها أربعةُ عيوبٍ هي الإكفاءُ والإقواءُ والإيطاءُ والسِّنادُ وأضاف خامساً هو التضمينُ وهو أن البيتَ لا يتم إلا بالذي يليه وهو من عيوبِ الشعر المكروهة، وخَلصَ إلى أن القَوافيَ خواتيمُ على عنوانِ الشعر جامعةٌ لأطراف معانيه، قابضةٌ على أزِمَّةِ مَهاريه.

وثامنُ الآلاتِ الألقابُ:

 وهي تنقسمُ إلى أقسامٍ ولكلِّ قسمٍ منها بابٌ، فمنها: الإشارةُ وهي من محاسنِ البديعِ ومعناها اشتمالُ اللفظِ القليلِ على المعاني الكثيرةِ وإنْ كانَ بأدنى لمحٍ يُستدلُّ على ما أُضْمِرَ من طويل الشرح[4]، كقَولِ امرئ القيس:[5]

عَلَى هَيْكَلٍ يُعْطِيكَ قَبْلَ سُؤَالِهِ /// أَفَانِينَ جَرْيٍ غَيْرِ كَزٍّ وَلَا وَانِ

ومِن هذه الألقابِ الكِنايةُ: وتُسَمّى التتبيعَ لأن الشاعرَ يقولُ معنىً ويأتي بلفظٍ تابعٍ له، فإذا دلَّ التابعُ أبانَ عن المتبوع، فمن ذلك قوله تعالى: «وَبَلَغَتِ القُلُوبُ الحَنَاجِرَ»، كنايةٌ عن شِدّةِ الأمر والحربِ، ومعنى ذلك أن القلوبَ ارتفعت عن مواضِعِها فنَفَرَت كأنها تُريدُ الخروجَ عن الأجسام مُفارِقَةً لها.

وتاسعُ الآلاتِ الموازنةُ:

 وهي المماثلةُ وتَكونُ في البيتِ بتَساوي أجزاءِ الشَّطْرَيْن، حيثُ عددُ كلماتِ النصفِ الأولِ كعدد كلماتِ النصفِ الأخيرِ، مَعَ تَساوي الأجزاءِ.

والعاشرُ التجنيسُ: وهو الإتيانُ بكلمتَيْن مُقترنَتَيْن مُتقاربتَيْن في الوزنِ غيرِ مُتباعدَتيْن في النّظمِ ولا نافرَتَيْن عَن الفَهمِ. ومنه المحضُ الخالصُ، ومنه المطلقُ وهو تجنيسُ اللفظ، ومعنى المحض الخالص وكأنه من أصل واحد في مسموع حروفه، وسمي اللبن الحليب محضا لأنه لم يخالطه الماء، قال أبو حَيَّةَ البَجَليّ:[6]

يُعِدُّهُا لِلْعِدَى فِتْيَانُ عَادِيَةٍ /// وَكُلُّ كَهْلٍ رَحِيبِ البَاعِ صِهْمِيمِ

قوله: العِدى وعادِيَة تجنيسٌ محض، وقوله: يُعِدُّها للعِدى تجنيسٌ مشابه. والصِّهميمُ الذي لا يُثْنَى عن مُرادِه.

وأما التجنيس المغايرُ فهو أن يأتيَ الشاعرُ بكلمتين إحداهُما اسم والأخرى فعلٌ، كقوله تعالى:

«وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ»، و«إنّي وَجَّهتُ وَجْهي»

 وفي الحديثِ عن التَّجنيسِ المحض نَجدُ المظفَّرَ لا يُوافقُ ابنَ المعتز، في البيت الذي أدخله ابن المعتز في بابِ التجنيس المحض، وهو قولُ زُهير بنِ أبي سلمى:[7]

كَأَنَّ عَيْنِي وَقَدْ سَالَ السَّلِيلُ بِهِمْ /// وَجِيَرةٌ مَا هُمُ لَوْ أَنَّهُمْ أُمَمُ

قالَ المظفر: وأنا ما رأيتُه من ذلك البابِ؛ لأن السليلَ من الانسلال وهو الخروج من الشيء، كما تقول انسل الرجل من ثوبه إذا خرج منه، وسال الماء يسيل من السيلان وهو الجري، ومنه السيل وهو الماء المتدافع. وهذا التجنيس متقارب متشابه غير محض. [8]

أمّا المُجنّسُ المُقارِبُ فهو أن يُقارِبَ التّجنيسَ وليسَ بتجنيسٍ، كما قالَ محمدُ بنُ عبدِ المالكِ الأسديّ:

رَدَّ الخليطُ أيانِقاً وجِمالا /// وأرادَ جيرَتُك الغَداةَ زِيالا

 وفي حديثه عن المجنس المختلف ذكر أن الشعرَ في هذا البابِ كثير، ونرى المؤلِّفَ يوافق رأي أبي تمام الأعرابيّ في بيت حمُيد بنِ ثور الذي يقولُ فيه:

نَضَعُ الزِّيَارَةَ حَيْثُ لَا يُزْرِي بِنَا /// شَرَفُ الملُوكِ وَلَا يَخِيبُ الزُوَّرُ

  حيث قيل  للأصمعي إن أبا تمام الأعرابي قال: إنما هو سرف الملوك بسين غير معجمة، قال الأصمعي: أخطأ الرجل، أما تعلم أنه يكون شرف دون شرف  أزرى بنا، قلت هذا شرح كما تراه، والذي ذهب إليه أبو تمام الأعرابي وجه مقبول[9]. ومن أجود ما يروى في هذا الباب قول أبي تمام:[10]

بِيضُ الصَّفَائِحِ لَا سُودُ الصَّحَائِفِ في /// مُتُونِهِنَّ جَلَاءُ الشَّكِّ وَالرِّيبِ

وعدَّد أنواعاً كثيرةً من التجنيس، كجناسِ المَعْنى دون ذكرِ اللفظ، والجناس المُطْمِع، والجِناسِ المُبدِل، وتَجنيس الخطّ، وتَجنيس التبعيض، والمجنّس المُتمَّم، وتَجنيس القَوافي، والتَّجنيس المُماثِل.

  ومن الآلات الطباقُ:

وهو أن يأتي الشاعرُ في البيتِ بالشيءِ وضدِّه، نحو عبدِ الله ابنِ الزُّبَيْن الأسَديّ:

رَمَى الحَدَثانُ نِسوةَ آلِ حَربٍ /// بِمقْدارٍ سَمدْنَ له سُمودا

فرَدَّ شُعورهُنّ السّودَ بيضاً /// ورَدَّ وُجوهَهُنّ البيضَ سودا

 ومن الآلاتِ التصديرُ:

 وهو ردُّ أعجازِ الكلامِ على صُدوره، وهو أن يبتدئَ الشاعرُ بكلمةٍ في البيتِ ثُمّ يُعيدُها في عَجزِه، أو نِصفِه ثُمّ يردُّها في النّصفِ الأخير، وإذا نُظمَ الشعرُ على هذه الصفةِ تَيَسَّرَ استخراجُ قَوافيه قبلَ أن تطرُقَ أسماعَ مُستَمِعيه، ومِن حَسَنِ التَّصدير قولُ عامرِ بنِ الطُّفَيْلِ:

فكُنتَ سَناماً في فَزارةَ تامِكاً /// وفي كلِّ حيٍّ ذروةٌ وسَنامُ

   ومِن الآلاتِ الالتفاتُ: وهو انصرافٌ عَن مُخاطبةٍ إلى إخبارٍ وعن إخبارٍ إلى مُخاطبةٍ قَد عَدَّه المؤلِّفُ من بديع البديع.

ومنها الاستطرادُ:

وهو خُروجُ الشاعِرِ مِن ذمٍّ إلى مَدحٍ أو من مَدحٍ إلى ذمٍّ، وللمُحدَثين في هذا البابِ أشعارٌ كثيرةٌ؛ قالَ زُهيرٌ:

إنّ البَخيلَ مَلومٌ حيثُ كانَ ولــــ /// ـــكنَّ الجوادَ على عِلّاتِه هرِمُ

وذكَروا أنّ جريراً حَثا التُّرابَ في وَجه السابقِ إلى هذا المَعنى فَضلاً عَمّن تَلاه؛ فإنّه استطردَ باثنَيْن في بيتٍ واحدٍ:

لَمّا وضعتُ على الفرزدقِ مِيسَمي /// وضَغا البَعيثُ جَدَعْتُ أنفَ الأخطلِ

ومن الآلاتِ التّقسيمُ:

كقول نُصَيب بنِ رَباح:

ولَم أرضَ ما قالَت، ولَم أُبدِ سَخطةً /// وضاقُ بما جَمْجمتُ من حُبِّها صَدري

وقولِ كعب بن سعد:[11]

لَقَدْ كَانَ  أمَّا حِلْمُهُ فَمُرَوَّحٌ /// عَلَيْنَا وَأَمَّا جَهْلُهُ فَعَزِيبُ

لما رأوا ذكر الحلم والجهل، ومروح وعزيب، جعلوه في المطابق، ولم يكن ببعيد منه، ولكنه إلى باب التقسيم أقرب. [12]

ومن الآلات التَّسهيمُ:

والمسَهَّم هو الذي يسبقُ السّامعُ إلى قوافيه قبلَ أن ينتهيَ إليها راويه. والتَّسهيمُ في اللغةِ التخطيطُ، والتسهيمُ في الشعرِ التّحسينُ له والتنقيحُ لألفاظه حتّى يكونَ هذا النوعُ من الشعر معناه إلى القلبِ أسرعَ من ألفاظه إلى سَمع السامعِ [13] .

ومن الآلاتِ التّرصيعُ:

ويسمى التفويف وهو في اللغة التركيبُ، والبيتُ المرصَّعُ الذي تتالى في القرائنُ كَما يُرصَّعُ التاجُ بالجواهِر، والتّرصيعُ في الشعرِ أكثرُ من عَدَد القَطر؛ ومن حُسن الترصيعِ قولُ الخنساء:

الحمدُ خُلَّتُه، والجودُ عِلَّتُه، /// والصِّدقُ حوزتُه، إن قِرْنُه هابا

سَدّادُ أوهبةٍ، شهّادُ أنديةٍ، /// قَطّاعُ أوديةٍ، للوِترِ طَلّابا

حَمّالُ ألويةٍ، ضَرّابُ أبنيةٍ، /// وَرّادُ مُسنيةٍ، في الحرب غَصّابا

سُذُ العُداىةِ وفَكّاكُ العُناةِ، إذا /// لاقى لوَغَى لم يَكنْ هيّابا

 ومن آلاتِ الشعرِ أيضاً التّرديدُ:

وهو أن يُعَلِّقَ الشاعرُ لفظةً في البيتِ بمعنىً ثم يردِّدُها فيه بعينها ويُعلِّقها بمعنى آخر[14]، وقد سبقَ أبو حيّةَ النُّميريُّ الشعراءَ بقولِه:

ألا حَيِّ مِن أجلِ الحَبيبِ المَغانيا /// لَبِسْن البلى ممّا لبسنَ اللَّياليا

إذا ما تَقاضى المرءَ يومٌ وليلةٌ /// تَقاضاه شيءٌ لا يَملُّ التّقاضيا

ابتدأ في المصراع الأول فأحسنَ الابتداءَ وردَّد في المصراعِ الثاني فأحسن التّرديدَ.

ومن آلات الشعرِ أيضاً المقابلةُ:

وهو أن يضعَ الشاعر معاني يعتمدُ التوفيقَ بين بعضها وبعض، أو المخالفةَ، فيأتي بالموافق مع ما يوافقه، وفي المخالف بما يخالفه على الصِّحّة، أو يشترط شروطا، ويعدد أحوالا في أحد المعنيين، فيجب أن يأتي فيما يوافقُه بمثل الذي شرطَ فيما يخالفُه بأضدادِ ذلك[15]، وأحسن ما قيل في ذلك:[16]

فيَا عَجَبَا كيْفَ اتَّفَقْنَا فَنَاصِحٌ/// وَفِيٌّ وَمَطْوِيٌّ عَلَى الغِلِّ غَادِرُ

جعَلَ بإزاءِ ناصحٍ مَطوياً على الغِلِّن وبإزاءِ وفيٍّ غادراً.

ومن الآلات الاستثناءُ:

وأقربُ الأقوال فيه ما ذكرَه عبدُ الله بن المعتز، حيثُ قالَ: الاستثناءُ في الشعر تأكيدُ مدحٍ بما يُشبه الذمَّ، فمن ذلك قول النابغة: [17]

وَلَا عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أَنَّ سُيُوفَهُمْ /// بهِنَّ فلولٌ منْ قِرَاعِ الكَتَائِبِ

وأما النحويون فالاستثناء في الكلام عندهم هو استخراج بعض من كل في حكم شامل بمعنى إلا.

 ومن الآلاتِ الإيغالُ:

ويُسمّى التبليغ، وهو أن يأتي الشاعرُ بالمعنى في البيتِ تاما قبلَ انتهائه إلى قافيته، ثم يأتي بها لحاجةِ الشعرِ إليها، لأنّ بها يصيرُ الشعرُ شعرا، فيزيد البيتَ رونقاً والمعنى بُلوغا إلى الغاية القُصوى.[18]

 ومن الآلاتِ الاستعارةُ:

وهي عندَه من أشرف صنعةِ الكلام وأجلِّها، والقدماءُ يسمونها الأمثالَ فيقولون: فلانٌ كثيرُ الأمثال، ولَقَبُها بالاستعارة ألزمُ لأنه أعم، ولأن الأمثال كلها ليس تجري مجرى الاستعارة[19]، ومن أبرز ما قيل في الاستعارة عندَ المظفر قولُ ذي الرمة:[20]

أَقَامَتْ بِهِ حَتَّى ذَوى العُودُ في الثَّرَى /// وَسَاقَ الثُّرَيَّا في مُلَاءَتِهِ الفَجْرُ

ومن الآلاتِ التّشبيهُ:

ذكَر فيه المؤلفُ أقوالَ كثير من أهل العلمِ بالشعر، وفصلَ القولَ في التّشبيه، ورأى أنّ أحسنَ التّشبيه ما كان فيه تشبيهان في تشبيهَيْن، كقول امرئ القيس:[21]

كَأَنَّ قُلُوبَ الطَّيْرِ رَطْبا وَيَابِسا /// لَدَى وَكْرِهَا العُنَّابُ والحَشَفُ البَالِي

وإنما خصَّ قلوبَ الطير لأنها أطيبُها، وقيل إن الجارحَ إذا صادَ الطائرَ أتى بقلبه إلى فراخه طُعما دونَ باقي لحمِه، فلا يزالُ في وكرِه من قلوبِ الطيرِ طريٌّ وقديمٌ لكثرة صَيده[22]

فبابُ التشبيه بابٌ واسعُ الأرجاء بعيد الانتهاء، كالبحر لا تحصى أمواجه ولا يستقصى منهاجه.

ومن آلاتِ الشّعرِ الحَشْوُ السَّديدُ في المعنى المفيد، ومَثلَ لذلكَ بقولِ أبي الشّيص الخزاعي:[23]

إِنَّ الثَّمَانِينَ، وَبُلِّغْتُهَا، /// قَدْ أَحْوَجَتْ سَمْعِي إِلَى تُرْجُمَانِ

فقوله: وبُلِّغتُها: حَشوٌ سديدٌ وقد أفادت من الدعاء معنىً جيدًا[24]

ومن آلات الشّعر المتابعةُ:

 في الكلامِ المنثورِ والشّعرِ المنظوم، أن يأتيَ المتكلمُ بالمعاني التي لا يجوز تقديمُ بعضِها على بعضٍ؛ لأن المعاني فيها مُتتالية، فالأولُ يتلوه الثاني والثاني يعقُبُه الثالثُ، إلى أن ينتهيَ المتكلمُ إلى غاية مرادِه. ولا يجوز تقديم الثاني على الأول ولا الثالث على الثاني،[25]، ومثال ذلك قوله تعالى: « هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ، ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخا». وقال تبارك وتعالى: « فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّا وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تساقطْ عَلَيْكِ رُطَبا جَنِيّا فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنَا». فذكَر أنّ هذا مِن أحسنِ صناعة الكلام في هذا البابِ.

ومن الآلاتِ أيضاً المَخْلَصُ المليحُ إلى الهجاء والمديح (أو حُسن التَّخلُّص):

 وفيه ذكر أن عليَّ بنَ المنجم قال: سألتُ أبي وكان من فُرسان العلم بالشّعر عن أحسنِ مَخلَصٍ تَخَلَّصَ به شاعرٌ إلى مَدح أو هَجوٍ، فقالَ: يا بُنيّ هذا مَذهب تَفرَّدَ به المحْدَثون، فَقلَّما يَتَّفقُ الإحسانُ فيه لمتقدمٍ، فأمّا ما وجدتُ أهلَنا مُجمِعين عليه مِن ذلك فَقولُ محمد بن وُهَيبٍ:[27]

مَا زَالَ يُلْثِمُنِي مَرَاشِفَهُ /// ويَعَلُّني الإِبْرِيقُ والقدَحُ

حَتَّى اسْتَرَدَّ اللَّيْلُ خِلْعَتَهُ /// وَبَدَا خِلَالَ سَوَادِهِ وَضَحُ

وَبَدَا الصَّبَاحُ كَأَنَّ غُرَّتَهُ /// وَجْهُ الخَلِيفَةِ حِينَ يُمْتَدَحُ

وللمُحدَثين في هذا الباب أشعار ٌكثيرة.

ومن آلات الشّعرِ التضمينُ:

ويُسمّى التّسميط والتوشيح، (ذَكَرَه ابنُ رشيقٍ في العُمدَة وعرَّفه بأنّه قَصدُكَ إلى البيتِ من الشعرِ فتأتي به في آخِرِ شعرِك أو في وَسطِه كالمُتمثِّل)، وهو في أشعار العرب قليلٌ جدا كما ذكَرَ المؤلفُ، وقد استعمله المحدثون بكثرة، قال الأخطل: [28]

وَلَقَدْ سَمَا لِلْخُرَّمِيِّ فَلَمْ يَقُلْ /// بَعْدَ الوَنَى لَكِنْ تَضَايَقَ مُقْدَمِي

وضَمَّنَ قول عنترة:[29]

إِذْ يَتَّقُونَ بِيَ الأَسِنَّةَ لَمْ أَخِمْ /// عَنْهَا وَلكنِّي تَضَايَقَ مُقْدَمِي

ومن الآلات أيضا تجاهلُ العارف:

 وهو كثير في أشعار العرب وخُطَبهم كما أشار إلى ذلك المؤلف، ومعناه أن الشاعرَ أو الناثرَ يسألُ عن شيءٍ يَعرفُه سؤالَ مَن لا يَعرِفُه ليعلمَ أنّ شدةَ الشَّبه بالمشبّه قد أحدثَت عندَه ذلك. ومثل لذلك ببيت لذي الرمة:[30]

أَقُولُ لأُدْمَانِيّةٍ عَوْهَجٍ جَرَتْ /// لَنَا بَيْنَ أَعْلَى عُرْفَةٍ فَالصَّرَائِمِ

أيا ظبْيَةَ الوَعْساءِ بَين جُلاجِلٍ /// وبَين النَّقا آ أنتِ أم أُمُّ سالِم

ومن ذلك قوله تعالى: « وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى قَالَ هِيَ عَصَايَ»، فالمراد بهذا السؤال مع العلم به إظهارُ المُعجِز الذي لم يكنْ  موسى بَعلَمُه في العصا.[31]

ومن الآلات المــُماتَنة والإنفادُ والإجازةُ،

 أما المماتَنةُ فهي تنازُعُ الشّاعِرَيْنِ بينهما بيتاً، يقولُ أحدُهما صدرَه والآخَرُ عَجُزَه، وأما الإنفاد والإجازة فالإنفاد بالدال غير المعجمة هو من قولهم: خصم مُنافِدٌ إذا خاصَم حتى تَنْفَدَ حُجتُه، وتقولُ: نافدتُ الرجلَ، مثل حاكمتُه، وهو أن يقولَ الشاعرُ بيتا تاما ويقولُ الآخر بيتا.[32]. وأمّا المُماتَنَةُ أن ينبغَ فَتىً في الشعرِ فيُماتنَ شُعراءَ قومِه حتّى يَغلِبَهُم أو يَغلبوه، وهو نوعٌ من التّحدّي .

ومن الآلاتِ معرفةُ السَّرقات:

والسرقةُ في الأشعارِ فيها المحمود والمذمومُ، وقد أوردَ المؤلفُ نَماذجَ من الأبيات المسروقة سرقةً قبيحةً وعلَّقَ عليها، فَبَيَّن وجهَ القُبح الذي آلت إليه ووجه الملاحة التي كانت له. وأتى بأنواع السرقة المحمودَة التي تُحسنُ ما كان قبيحاً أو تولّدجُ منها مَعانيَ جديدةً أوتختصرُ ما كان طويلاً [33]

وآخرُ تلك الآلات النقدُ:

وهو في الشعر يدلُّ على فطنة العالِمِ وضِياءِ حِسِّه وتَوَقُّدِ ذَكائِه. وللعلماء في ذلك أقوالٌ حسنةٌ وكلام مفيدٌ وهو كثيرٌ غزير، وقد ساقَ المؤلِّفُ لذلكَ مثالا من شعرٍ لِعلْقمَةَ الفَحل وامرئ القيسِ حيثُ تنازعا في الشعر أيهما أشعَرُ من الآخر، فقالَ علقمة: قد رضيت بزوجتك أم جندب حَكَما بيني وبينك، فقالت أم جندب: قولا شعرا وصِفا فيه فَرَسَيْكُما على قافيةٍ واحدة ورَويٍّ واحد، فقال امرؤ القيس:[34]

خَلِيلَيَّ مُرَّا بِي عَلَى أُمِّ جُنْدبِ/// نُقَضِّ لُبَانَاتِ الفُؤَادِ الـمُعَذَّبِ

وقال علقمة:[35]

ذَهَبْتَ مِنَ الِهجْرَانِ في غَيْرِ مَذْهَبِ /// وَلَمْ يَكُ حَقّا طُولُ هَذَا التَّجَنُّبِ

وأنشداها القصيدتين فقالت لامرئ القيس: علقمة أشعر منك، قال لها: وكيف ذلك؟ فقالت: لأنك قلت:

فَلِلزَّجْرِ أُلْهُوبٌ وَلِلسَّاقِ دِرَّةٌ /// ولِلسَّوْطِ مِنْهُ وَقْعُ أَخْرَجَ مُهْذِبِ

قالت: فجهدْتَ فرسَك بزجرك ومَرَيْتَه فأتعبتَه بساقِك وسَوطِك، وقال علقمةُ:[36]

فَأَدْرَكَهُنَّ ثَانِيا مِنْ عِنَانِهِ/// يَمُرُّ كَمَرِّ الرَّائِحِ الـمُتَحَلِّبِ

فأدركَ فرسَه ثانيا من عنانه لم يضربْه بسوط ولم يُتعبْه، فغَضِبَ عليها امرؤُ القيس وطلقها، فتزوَّجَها علقمةُ فسُمّيَ الفَحْل لميزتِه على باقي الشُّعراء كميزةِ الفَحل على باقي الإبل.[37]

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

[1]نضرة الإغريض في نصرة القريض، ص: 23-24

[2]ديوان طرفة بن العبد، تحقيق: مهدي محمد ناصر الدين، ص: 20

[3]نضرة الإغريض في نصرة القريض، ص: 30

[4]نفسه، ص: 33

[5] ديوان امرؤ القيس، اعتنى به  عبد الرحمن المصطاوي، 1: 160

[6]نضرة الإغريض في نصرة القريض، ص: 52

[7]ديوان زهير بن أبي سلمى، شرحه وقدم له: علي حسن فاعور، ص: 114، ويُروى “وَعَبْرَةٌ” بَدَلَ “جيرة”.

[8]نضرة الإغريض في نصرة القريض، ص: 69

[9] نفسه، ص:  79-80

[10]شرح ديوان أبي تمام للخطيب التبريزي، ص: 32

[11]الأصمعيات، الأصمعي، تحقيق: أحمد محمد شاكر، وعبد السلام محمد هارون، ص: 95

[12]نضرة الإغريض في نصرة القريض،ص: 99

[13]نفسه، ص: 116-117

[14]نفسه، ص:  123

[15]نفسه، ص: 126

[16]العمدة في محاسن الشعر وآدابه، تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد، 2: 15

[17]ديوان النابغة الذبياني، شرح وتقديم، عباس عبد الساتر، ص: 32

[18]نضرة الإغريض في نصرة القريض، ص: 131

[19]نفسه، ص: 133

[20]ديوان  ذي الرمة شرح أبي ناصر الباهلي، تحقيق: عبد القدوس أبو صالح، 1: 561

[21]ديوان امرئ القيس، 1: 139

[22]نضرة الإغريض في نصرة القريض، ص: 150-151

[23]العمدة في محاسن الشعر وآدابه، 2: 45

[24]نضرة الإغريض في نصرة القريض، ص: 180 -181

[25]نفسه، ص: 183-184

[26]نفسه، ص: 188-189

[27]عيار الشعر، ابن طباطبا العلوي، تحقيق: عبد العزيز بن ناصر المانع، ص: 188

[28]الصناعتين: الكتابة والشعر، أبي هلال العسكري، تحقيق: علي محمد البجاوي ومحمد أبو الفضل إبراهيم،  ص: 36

[29] ديوان عنترة بن  بشرح الخطيب التبريزي، قدم له مجيد طراد، ص:181

[30]ديوان  ذي الرمة، 2: 766

[31] نضرة الإغريض في نصرة القريض، ص: 193-194

[32]نفسه، ص: 194

[33]نفسه، ص:  211- 213

[34]ديوان امرئ القيس، 1: 74

[35]شرح ديوان علقمة بن عبدة الفحل، الأعلم الشنتمري، ص: 52

[36] نفسه، ص: 62

[37]نضرة الإغريض في نصرة القريض، ص: 226-227

تحت إشراف الدكتور عبد الرحمن بودرع

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق