مركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة العطرةدراسات عامة

معان ودلالات من شهوده ﷺ حلف الفضول

بسم الله الرحمن الرحيم

 تمهيد:

الحَمد لله رَبِّ العَالمين، والصَّلاة والسَّلام على سيِّد الأوّلين والآخِرين، وعَلى آل بيْته الطَّيبين الطَّاهِرين، وَصَحْبه الغُرِّ المَيامِين، ومن سَار على نهجهم من العُلماء العاملين إلى يوم الدين.

وبعد؛

فإن السِّيرة النبوية الشريفة بمثابة النَّبع الصافي، الذي تنساب منه المعارف والعلوم رقراقة لتروي ظمأ العطشى، وتكشف غُمَّة الحيارى، وتُنير درب السالكين، في تخوم هذه الحياة الشاقة، فتضع عن كاهلهم إِصْرها، وأثقالها، وآلامها.

فالسيرة النبوية بما تحمله من أبعاد معرفية، ووجدانية، وأخلاقية حري بها أن تكون موردا للاستمداد في معالجة أمراض المجتمع وآفاته ، ومنهجا للاتساء في سلوكنا اليومي على  حد سواء؛ بحيث ما من حادثة وقعت فيها، إلا وتنبيك بمعانيها الغزيرة، وأسرارها العميقة، قال تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) [1].

ومن بين تلك الوقائع الخالدة التي وردت في سيرته ﷺ، والتي تركت معان عميقة، ودلالات بعيدة حادثة شهوده حلف الفضول.

قال ابن هشام:” تداعت قبائل قريش إلى حلف، فاجتمعوا في دار عبد الله بن جدعان .. لشرفه وسنه، فكان حلفهم عنده: بنو هاشم، وبنو المطلب، وأسد بن عبد العزى، وزهرة بن كلاب، وتيم بن مرة، فتعاقدوا وتعاهدوا على أن لا يجدوا بمكة مظلوما من أهلها وغيرهم ممن دخلهما من سائر الناس إلا قاموا معه، وكانوا على من ظلمه حتى ترد عليه مظلمته. فسمت قريش ذلك الحلف حلف الفضول” [2].

ولأهمية هذا الحلف لم يتوان النبي ﷺ في مشاركة قومه في مجرياته فقال: «لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا، ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو أدعى به في الإسلام لأجبت»[3].

ووقع هذا الحلف بعد الفجار، وذلك أن حرب الفجار كانت في شعبان، وكان حلف الفضول في ذي القعدة قبل المبعث بعشرين سنة [4]، وكان النبي حين شهده  غلاما قال: “شهدت حلف المطيبين مع عمومتي وأنا غلام، فما أحب أن لي حمر النعم، وأني أنكثه “[5].

وحلف الفضول أكرم حلف سمع به، وأشرفه في العرب، وكان أول من تكلم به ودعا إليه الزبير بن عبد المطلب، وكان سببه أن رجلا من زبيد قدم مكة ببضاعة، فاشتراها منه العاص بن وائل فحبس عنه حقه، فاستعدى عليه الزبيدي فأبيا أن يعينوه وزبروه- أي: انتهروه- فلما رأى الزبيدي الشر أوفى على أبي قبيس عند طلوع الشمس، وقريش في أنديتهم حول الكعبة فنادى بأعلى صوته:

يا آل فهر لمظلوم بضاعته *** ببطن مكة نائي الدار والنفر

ومحرم أشعث لم يقض عمرته *** يا للرجال وبين الحجر والحجر

إن الحرام لمن تمت كرامته *** ولا حرام لثوب الغادر الفجر

فقام في ذلك الزبير بن عبد المطلب وقال: ما لهذا مترك. فاجتمعت هاشم، وزهرة، وتيم في دار عبد الله بن جدعان فصنع لهم طعاما، وتحالفوا في ذي القعدة في شهر حرام، فتعاقدوا وتعاهدوا بالله ليكونن يدا واحدة مع المظلوم على الظالم حتى يؤدي إليه حقه .. ثم مشوا إلى العاص بن وائل فانتزعوا منه سلعة الزبيدي فدفعوها إليه[6].

إن هذا الحدث – حلف الفضول – يحيلنا على معاني ودلالات يمكن اختصار بعضها في الآتي:

1-أن على المؤمن أن يشارك أمته آلامها، وآمالها، وتطلعاتها، لا أن يبقى في برجه العاجي ينظر من بعيد، ولهذا ترى النبي صلى الله عليه وسلم شارك في هذا الحلف وهو غلام لم يبلغ الحلم بعد.

2-أن أهل الجاهلية على الرغم من جاهليتهم فقد حفظ لنا القرآن والحديث والسيرة جانبا مشرقا من أخلاقهم: من  مروءة، ونجدة، وإغاثة المظلوم، والأخذ على يد الظالم .

3- مشاركة النبي ﷺ في هذا الحلف مع قومه وهم على كفرهم، دليل على أن الوقوف مع المحق في مواجهة الظالم ولو كان من الأقربين مطلوب شرعا قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِين) [7].

قال القرطبي :”قال العلماء: فهذا الحلف الذي كان في الجاهلية هو الذي شده الإسلام وخصه النبي عليه الصلاة والسلام من عموم قوله: “لا حلف في الإسلام” والحكمة في ذلك أن الشرع جاء بالانتصار من الظالم وأخذ الحق منه وإيصاله إلى المظلوم، وأوجب ذلك بأصل الشريعة إيجابا عاما على من قدر من المكلفين، وجعل لهم السبيل على الظالمين فقال تعالى: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [8].  

4 -نصرة المظلوم، والوقوف بجانبه مطلب شرعي، وجب المصير إليه، فالأمة التي تنصر المظلوم حتى يأخذ حقه من الظالم أمة حية لا تزال بخير، أما إذا هابت الظالم، وتنكرت للمظلوم فهي أمة ميتة لا خير فيها، ومصيرها الهوان والعذاب قال النبي ﷺ:” إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقابه”[9].

قال الغزالي رحمه الله:” إنّ حمية النبي ﷺ للحق ضدّ أي ظالم مهما عزّ، ومع أي مظلوم مهما هان؛ هي روح الإسلام الآمر بالمعروف، الناهي عن المنكر، الواقف عند حدود الله. ووظيفة الإسلام أن يحارب البغي في سياسات الأمم، وفي صلات الأفراد على سواء”[10]

5-أكد هذا الحلف مبدأ التعاون، والتآزر، والأخوة على فعل الخير، وهي مبادئ إنسانية نبيلة تدعو إلى حب الخير ونشر الفضائل، وقد جاءت الشريعة السمحة لتقررها وتدعو إليها قال تعالى: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [11].

  هذا ما تيسر لي ذكره في هذا الموضوع ، فأسأل الله تعالى أن يتقبل مني هذا العمل بقبول حسن، وأن يجزي كاتبه، ومصححه، وناشره، وقارئه.

والحمد لله رب العالمين.

مراجع المقال:

الروض الأنف في شرح السيرة النبوية لابن هشام: لأبي القاسم عبد الرحمن بن عبد الله بن أحمد السهيلي، ت: عمر عبد السلام السلامي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط1، 1421هـ/ 2000م.

 سلسلة الأحاديث الصحيحة وشيء من فقهها وفوائدها: لمحمد ناصر الدين الألباني، مكتبة المعارف، الرياض، ط1، 1422هـ/2002م.

سنن البيهقي الكبرى: لأحمد بن الحسين بن علي بن موسى أبو بكر البيهقي، ت: محمد عبد القادر عطا، مكتبة دار الباز – مكة المكرمة ، 1414 – 1994م.

السيرة النبوية: لعبد الملك ابن هشام، بيروت: دار إحياء التراث العربي،الطبعة الثانية،1391هـ ـ 1971م.

صحيح الجامع الصغير وزيادته: لمحمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، ط2، 1408هـ/1988م.

 فقه السيرة: لمجمد الغزالي، دار القلم – دمشق، تخريج الأحاديث: محمد ناصر الدين الألباني، ط1، 1427 هـ.

  المسند: لأبي عبد الله أحمد بن حنبل الشيباني، ت: شعيب الأرنؤوط ،  وعادل مرشد، مؤسسة الرسالة ، ط1، 1416هـ/1995م.

[1]–  الأحزاب: 21.

[2]–  السيرة النبوية لابن هشام (1/ 134).

[3]–  أخرجه  البيهقي في سننه (36008) من طريق ابن إسحاق. قال الألباني:” إسناده صحيح؛ لكنه مرسل، وله شواهد مرسلة تقويه” فقه السيرة (ص: 75).

[4]–  السيرة النبوية لابن هشام (1/ 134)

[5]–  أخرجه أحمد في المسند (1655) من حديث عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه. وصححه الألباني في الصحيحة (1900).

[6]–  الروض الأنف للسهيلي (1/ 155- 156).

[7]–  النساء: 135.

[8]–  الشورى: 42.

[9]–  أخرجه أحمد في المسند (30) من حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه وصححه الألباني في صحيح الجامع (1973).

[10]–  فقه السيرة (ص: 77).

[11]–  آل عمران : 104.

د. محمد بن علي اليــولو الجزولي

  • أستاذ باحث مؤهل بمركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة النبوية العطرة بالعرائش، التابع للرابطة المحمدية للعلماء بالرباط.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق