وحدة الإحياءدراسات محكمة

الاصطفاء والاختيار الإلهي للرسول، صلى الله عليه وسلم.. غاياته ومقاصده

لقد اقتضت حكمة الله تعالى أن يصطفي ويختار رسله من الملائكة ومن الناس، وليس لأحد هذا الحق إلا الله، عز وجل، لأنه المنفرد بالخلق والاختيار، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، فالأمور كلها خيرها وشرها بيده سبحانه، ومرجعها إليه؛ ﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [القصص: 68].

كما أن الاصطفاء والاختيار الإلهي لحمل الرسالة وإبلاغها إلى الناس لا ينال ويعطى بسؤال من يسأله، وإن كان يرى في نفسه أنه أهل لذلك، لأن الرسالة ليست مما ينال بالأماني وبالطلب والتشهي، ولكن الله، عز وجل، هو الذي يعلم من يصلح لها ومن لا يصلح، ولذلك يزكي من يشاء، ويعد لهذه المهمة العظيمة من يصطفيه ويجتبيه ويختاره خلقا وخلقا، فيأتي مهيئا ومعدا لمراد الله من إرساله، لأنه سبحانه وتعالى حين خلقه عالم بأنه سيرسله، ويشهد لذلك قوله سبحانه: ﴿اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾ [الأنعام: 124].

وقد اختار الله، سبحانه وتعالى، محمدا بن عبد الله أمينا على وحيه، واصطفاه من خيرة خلقه، وجعله سفيرا بينه وبين عباده، وبعثه بالدين القويم، والمنهج الرباني المستقيم، وأرسله رحمة للعالمين، وإماما للمتقين، وحجة على الخلائق أجمعين، وجعل طاعته من طاعته، واتباعه هو الطريق الوحيد الموصل إلى جنته، ورفع الله ذكره، ووضع عنه وزره، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمره.

مفهوم الاصطفاء والاختيار الإلهي

الاصطفاء لغة مأخوذ من فعل (صفا يصفو صفوا وصفاءً) وصفوة كل شيء، خالصه، والصفو نقيض الكدر، والصفوة بالكسر خيار الشيء وخلاصته، وما صفا منه، والصفي من الغنيمة ما اختاره الرئيس من المغنم، واصطفاه لنفسه.

واستصفى الشيء واصطفاه: اختاره، والاصطفاء: الاختيار افتعال من الصفوة، ومنه النبي، صلى الله عليه وسلم، صفوة الله من خلقه ومصطفاه، والأنبياء المصطفون، وهم من المصطفين إذا اختيروا، وهم المصطفون إذا اختاروا، هذا الأخير بضم الفاء[1].

فيكون مفهوم الاصطفاء هو الاختيار والاجتباء، فقال تعالى: ﴿اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ﴾ [الحج: 75]؛ أي هو أعلم بمن يختص للرسالة فيختاره ويصطفيه لذلك، قال لموسى: ﴿إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آَتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ﴾ [الأعراف: 144]،

وقال له أيضا: ﴿وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى. إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي﴾ [طه: 13-14]، وقال عن الرسل: ﴿وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ.وَآَتَيْنَاهُمْ مِنَ الْآَيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُبِينٌ﴾ [الدخان: 32- 33]، وأما الاجتباء فورد متكررا في القرآن ومنه: ﴿ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ﴾ [آل عمران: 179]، ﴿وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [الأنعام: 87]، وقال عن يونس: ﴿ فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ [القلم: 50]، وقال عن إبراهيم وممن اصطفى من ذريته: ﴿ وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ﴾ [ص: 47].

وجاء في صحيح الإمام مسلم من حديث واثلة بن الأسقع أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: "إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل، واصطفى من بني إسماعيل بني كنانة، واصطفى من بني كنانة قريشا، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم"[2].

وثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر"[3]، ولن يكون سيد ولد آدم يوم القيامة إلا إذا أثبتت له السيادة الشرعية والتزكية الربانية في الدنيا والآخرة، كيف وأن الله أخذ له ميثاق النبيئين بأن أعلمهم بأن رسولا يجيء مصدقا لما معهم ويأمرهم تعالى بالإيمان به وبنصره، والمقصود من هذا الإعلام أمم أولئك الأنبياء ليكون هذا الميثاق محفوظا لدى سائر الأجيال، وهو زيادة تنويه برسالة، محمد صلى الله عليه وسلم[4]، وبمقدار درجته في الاصطفاء بين سائر المصطفين الأخيار، وإلى هذا المعنى يرجع ما ورد في القرآن من دعوة إبراهيم عليه السلام ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [البقرة: 129]، ولذلك قال، صلى الله عليه وسلم: "أنا دعوة أبي إبراهيم"[5]،.. واستجاب الله عز وجل دعاء الخليل إبراهيم وهو يضع الحجر الأساس للبيت الحرام، وفي سياق دعائه الجامع المانع الذي لا يصدر مثله إلا عن عباد الله الصالحين المصطفين، ورد طلبه بعثة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وهذا يدل على أن أمة الصلاح أمة واحدة ﴿يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ. وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ﴾ [المؤمنون: 51- 52].

وقد تطاول المشركون على المنزلة الخاصة بالرسول، صلى الله عليه وسلم، عند ربه، جل وعلا، فقالوا: ﴿لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْءانُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ﴾ [الزخرف: 31]، فرد عليهم كتاب الله بالإنكار والإقحام: ﴿أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ [الزخرف: 32].

الغايات والمقاصد من هذا الاختيار

لقد أصبح من الواجب على المسلمين اليوم، أكثر من أي وقت مضى، أن يصححوا فهمهم لأمور دينهم ودنياهم، إن هم أرادوا أن يتجاوزوا سلبيات المرحلة الراهنة التي يجتازونها، وألا يكثروا التشبث بالقشور دون اللباب، حتى لا يكونوا كالذين طال عليهم العهد والأمد، وخفي عليهم نور الوحي الإلهي الذي أوضحه نبي الرحمة والهدى، صلى الله عليه وسلم.

ومن التصحيح الواجب في هذا المضمار، عدم تصيير الشرائع والأوامر الإلهية مجرد رسوم  تقدم عارية عن المقاصد والأهداف والحكم، فإن حقائق الشريعة إذا لم تفهم وفق مقاصدها وغاياتها لم تجن ثمرتها، ولن يسري في الأفراد والمجتمع مفعولها وتبقى عبارة عن صورة تزين بها الأرجاء، ويحتفى بها في المناسبات، فإذا زال جو المناسبة والاحتفال زال معه كل شيء وكل أثر، وعادت الإبل إلى مباركها.

ومن ذلك مناسبة الاحتفال بمولد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وما للمسلمين فيها من اهتبال واهتمام فالمناسبة، في حد ذاتها، جليلة وعظيمة لأنها تؤرخ لحدث عظيم في تاريخ البشرية جمعاء، وهو ميلاد محمد بن عبد الله، صلى الله عليه وسلم، الذي انبثق معه نور الهداية في مجاهل البدو ومعالم الحضر، وكأنما هتف بميلاده هاتف من الغيب ينادي بأن العبادة والعبودية لا تكون إلا لله وحده، والقدوة لا تكون إلا لرسوله، صلى الله عليه وسلم، مصداقا لقوله تعالى: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ﴾ [آل عمران: 19]، وألا فضل لعربي على عجمي ولا أبيض على أسود إلا بالتقوى: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ [الحجرات: 13].

وإذا كان هذا الأمر قد تقرر منذ خمسة عشر قرنا من الزمن، وهو المعتمد إلى الآن، لارتكازه على معجزة القرآن والسنة النبوية القائمة حجة في الإفهام والبيان، فهل المجتمعات الإسلامية أفرادا وجماعات في مستوى استنباط العلاج النافع لأدوائهم من هذا الحدث، والاستفادة من غاياته ومقاصده وفق ما تدعو إليه نصوص الشريعة السمحة الغراء؟ أم أننا نحتفل لأننا تعودنا الاحتفال، دون إدراك معاني هذا الاحتفال ومراميه؟

إننا نجد بعض المستنيرين من علماء المسلمين الأجلاء يرفعون أصواتهم مدوية لإيقاظ الهمم والنفوس من السبات، وينبهون على تصحيح المفاهيم ويوضحون الوجه الشرعي المطلوب من الاحتفال وأنه لا ينبغي الوقوف عند مظهر إحياء الذكرى والتفنن في ذلك، تقليدا للآخرين وجريا على عادات السابقين، إذ لا معنى لإحيائها دون إحياء شريعة وسنة صاحب الذكرى وما تقتضيه، وفي ذلك يقول العلامة المصلح السيد عبد الله كنون، رحمة الله عليه: "وقد ظن المسلمون في هذا العصر أن الاحتفال بمولد الرسول، صلى الله عليه وسلم، بإقامة التجمعات التي تتلى فيها الأمداح النبوية وتعطيل العمل يوم المولد الشريف، هو إحياء لذكرى هذا الحدث العظيم الذي أخرج الله به البشر من ظلمة الجهل والضلال إلى نور الإيمان والعرفان، وهو ظن خاطئ، وعمل إن لم يبعدهم عن الغاية من إحياء هذه الذكرى فهو لا يقربهم منها بحال، ولن تحيى ذكرى مولد نبي الهدى والنور بمثل إحياء شريعته، والعمل بسنته، والتخلق بأخلاقه، والاهتداء بهديه، والرجوع إلى نبيه، والسير على طريقه، كما قال تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ﴾ [آل عمران: 31].

ويضيف، رحمه الله، متحدثا عن حال المسلمين اليوم: "إن الشيطان سول لنا أن الاتباع ضلال، والابتداع سنة وصرنا ندور مع الباطل حيث دار".

ونحن لا ننكر أن هذا حال كثير من المسلمين اليوم، فحينما تحاول إظهار الحق له من غيره في باب الشرع والدين، يكون ذلك أشد عليه، ويشعر بالعزة ويتخيل نفسه أنه محل تهمة.

وهناك فريق آخر من الناس أصابهم من مكر الشيطان ما هو أدهى وأمر: "فقد رأى بعض الناس يستعصي عليه قيادهم، فزين لهم من الأعمال ما جعلهم يستظهرون بأنهم أهل السنة، وأنهم مستقيمون على الطريق، واتخذهم وسيلة يفرق بها كلمة الأمة ويمزق وحدتها، إذ صار شغلهم هو المجادلة بالمسائل الخلافية، وإحياء الثغرات المذهبية، التي جاهد المصلحون الدينيون الحقيقيون في إماتتها والقضاء عليها، والحال أن العدو جاثم على أرض الإسلام ومتحكم في رقاب الأمة"[6]، والكل مطالب بتوحيد الصفوف وجمع الكلمة، ولم الشمل بدلا من التباغض والتحاسد والتنابز بالأسماء والألقاب، والرسول، صلى الله عليه وسلم، صاحب الذكرى يقول: "ولا تومنوا حتى تحابوا..."[7]. ويقول تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا﴾ [الأحزاب: 58].

وإذا كنا قد احتفلنا بمولد الهدى والنور وأحيينا ذكرى ميلاده، صلى الله عليه وسلم، فما لنا لا نجعلها مناسبة نصحح فيها نهجنا في الاتباع والاقتداء بالرسول، صلى الله عليه وسلم، ويحاول كل منا رد الاعتبار لارتباطه بالرسول، صلى الله عليه وسلم، ونتفق في ذلك على منهج واحد هو الرجوع إلى الكتاب والسنة وتحكيمهما في كل أحوالنا الخاصة والعامة، ونصحح بتعاليمهما السمحة ما بنا من وهن وكسل وتثاقل، ولاشك أننا إن فعلنا ذلك سنكون قد أدينا حقوق المصطفى، صلى الله عليه وسلم، فالاصطفاء الإلهي للرسول، صلى الله عليه وسلم، هو في حد ذاته دواء شاف وكاف للعديد مما نتخبط فيه من مشكلاتنا اليومية، فلو أننا حكمنا معايير ومقاييس الاصطفاء الإلهي للرسول، صلى الله عليه وسلم، منهاجا لنا في الاصطفاء والاختيار للمهام والمسؤوليات الجسام في الأمة، لكنا موفقين في أمورنا وأهدى إلى الصواب من الأمم كلها، والله تعالى يقول لنا مؤكدا حقيقة مطلقة في حق نبينا، صلى الله عليه وسلم: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ [الأحزاب: 21]، ويقول لنا عن أخلاقه صلى الله عليه وسلم؛ ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ [القلم: 4]، ويقول عن لطفه وحدبه وعطفه ورأفته ورحمته بالمؤمنين: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ [التوبة: 128].

فهذه الخصال المعنوية التي خص بها رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وغيرها مما لا يسع المقام لاستعراضه، هي خصال لا تلتقي مع ما نحكمه نحن اليوم من معايير مادية عند الاختيار والاصطفاء، مثل المال، والجاه، والحسب، والتي هي معايير قد تسقط المعتمد عليها في إسناد الأمور إلى غير أهلها.

فلننظر إلى منهج الله، فهو قد اختار الرسول، صلى الله عليه وسلم، يتيما من قريش ومن بني هاشم، وفي هذا تكريم له وتعليم ﴿فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ﴾ [الضحى: 9] من جهة، وتوفير نجاح دعوته من جهة أخرى، حتى لا يقال عنه إنه وارث لمجد أو لزعامة. وعند الاتباع والاقتداء بالرسول، صلى الله عليه وسلم، نكون أمام نموذج بشري كامل.

أ. في الخلق والخلق

ولو لم يكن كذلك لما انقاد الناس له، لأن الناس لا ينقادون لمن كثرت نقائصه، وقلت فضائله، ومن ثم فإن لأخلاقه، صلى الله عليه وسلم، أثرا كبيرا في هداية الناس وتربيتهم، فهذا صفوان بن أمية يقول: "لقد أعطاني رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ما أعطاني، وإنه لأبغض خلق الله إلي، فما زال يعطيني حتى إنه من أحب الناس إلي"[8].

ب. في خيار النسب

كما في حديث الاصطفاء المتقدم والحديث الذي يرويه الإمام البخاري يقول الرسول، صلى الله عليه وسلم: " بعثت من خير قرون بني آدم قرنا فقرنا حتى كنت من القرن الذي كنت منه"[9].

وفي هذا الحديث ما يشير إلى أعلام نبوته، صلى الله عليه وسلم، فقد وصلت البشرية إلى مستوى أن يخاطب عقلها وضميرها لا أحاسيسها ومداركها القاصرة التي لا تتأثر إلا بما يرى ويشاهد، "وهذا إيذان من الله عز وجل بأن الإنسانية قد بلغت رشدها أو كادت، فحق لمن يخاطبها من قبل الحق سبحانه أن يضعها أمام مسؤولياتها الفردية والجماعية الآتية والمصيرية..."[10].

ج. في المواهب والقدرات

لقد منح رسول الله، صلى الله عليه وسلم، مستوى عاليا من الذكاء والحفظ والعقل الراجح، واللسان المبين، والبديهة الحاضرة، والقدرة العالية على الإبلاغ والمتابعة والتوجيه والتربية وغير ذلك مما لابد منه لتحمل الرسالة الخالدة وإبلاغها للكافة.

د. في تحقيق العبودية لله وحده لا شريك له

وهذا نوع آخر من الكمال المقصدي والمعنوي، وفق الله رسوله، صلى الله عليه وسلم، لتحصيله "وهو تحقيق العبودية لله في نفسه، إذ كلما كان الإنسان أكثر تحقيقا للعبودية لله تعالى، كلما كان أكثر رقيا في سلم الكمال الإنساني، وكلما ابتعد عن تحقيق العبودية لله كلما هبط وانحدر"[11].

ولذلك يثني الله عز وجل على خاتم الرسل وسيد المرسلين في أشرف المقامات بالعبودية، فيصفه في مقام الوحي: ﴿فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى﴾ [النجم:10]، وفي مقام إنزال الكتاب وعموم الرسالة: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا﴾ [الفرقان: 1]، وفي مقام الدعوة: ﴿وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا﴾ [الجن: 19]، وفي مقام الإسراء: ﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ﴾ [الإسراء: 1].

وبهذه العبودية استحق، صلوات الله وسلامه عليه، التقديم على الناس في الدنيا والآخرة.

ﻫ. في تلقي الوحي

فقد تلقى، صلى الله عليه وسلم، للوحي عن الله عز وجل بواسطة ملك الوحي جبريل، عليه السلام، وتم إطلاعه، صلى الله عليه وسلم، على شيء من عالم الغيب سواء في معراجه أو في ما يخبر به من دلائل النبوة عن الماضي والحاضر والمستقبل..

و. في العصمة

فهو، صلى الله عليه وسلم، معصوم في تحمل الرسالة فلا ينسى شيئا مما أوحى إليه ولا يكتم منها شيئا، كما أنه معصوم من الذنوب والمعاصي، ومن هنا يأتي التلازم بين الاصطفاء والقدوة من جهة، وبين القدوة والعصمة من جهة أخرى، فالقدوة المراد اتباعه مصطفى اصطفاء مطلقا ومزكى تزكية ربانية سرمدية لا اعتراض عليها، وذلك لأمر تجتمع عليه كلمة المسلمين وينتظم به أمر الدنيا والدين، فهذا يستلزم عصمة القدوة والمختار للإبلاغ والاتباع، والعصمة تستلزم النموذج البشري الكامل الذي يتساوى مظهره وصلاح مخبره، ويستحيل في حقه الوقوع فيما حرم الله والتهاون والاستهانة بما أنزل الله، وهذا لن يكون إلا من مستوى الأنبياء والمرسلين، فرسول الله هو سيدهم، وخاتمهم، فلذلك كانت قدوته مستوعبة، وجامعة، ومانعة وكافية، ومستندة إلى العصمة النبوية، وإلى عموم الرسالة الإسلامية، ليس للعرب وحدهم، ولا للعجم وحدهم، وإنما هي رسالة العالمين من رب العالمين.

وإن ما نراه، اليوم، من تقارب العالم، ما هو إلا مؤشر على أنه يسير نحو وعي الرسالة الإلهية الخالدة، رسالة الإسلام، المستندة إلى هدي خير الأنام، والتي لا خلاص للبشرية من المحنة في هذا الكون، إلا بالدخول تحت ظلها، والأخذ بكل ما جاء فيها، من هدي رباني حكيم، كفيل بضمان السعادة في الدنيا والآخرة.

وختاما

فإن موضوع الاصطفاء والاختيار الإلهي للرسول، صلى الله عليه وسلم، من المواضيع التي لا ينبغي الإغفال عنها والتخلي عن الاستفادة من دلالاتها ومقاصدها، لأن بسبب هذا الاصطفاء الإلهي نال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، مكانته العظمى عند ربه عز وجل، وبسببه نالت أمته مكانتها السامقة بين الأمم، فكانت خير أمة أخرجت للناس، مما يؤهلها إلى الفوز بالجنان والرضوان، إن هي اتبعت هدي رسول الله، صلى الله عليه وسلم، والتزمت بما جاء به من خلق ودين، وحكمت شرع كتاب رب العالمين ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ﴾ [آل عمران: 31-32].

انظر العدد 20 من مجلة الإحياء

الاصطفاء والاختيار الإلهي للرسول، صلى الله عليه وسلم.. غاياته ومقاصده

الهوامش

  1. اللسان، لابن منظور، مادة صفا.
  2. مسلم، فضائل1. الترمذي، مناقب1. أحمد 4/107.
  3. البخاري، أنبياء 3. مسلم، إيمان 337- 338، فضائل 3. الترمذي، قيامة 10، تفسير 17. الدرامي، مقدمة 8. أحمد ج 1، ج 2، ج 3.
  4. التحرير والتنوير، 3/299.
  5. المسند، 4/127- 128، 5/262.
  6. منطلقات إسلامية، لعبد الله كنون، مطبعة سوريا، طنجة، د. ت، ص90.
  7. رواه مسلم.
  8. رواه مسلم في صحيحه.
  9. فتح الباري، 6/566.
  10. عبد الله كنون، منطلقات إسلامية.
  11. الرسل والرسالات، عمر الأشقر، ط 3، مكتبة الفلاح، الكويت، 1405- 1985، ص83.
Science
الوسوم

د. إبراهيم الوافي

أستاذ التعليم العالي

كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة ابن زهر-أكادير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق