مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوكأعلام

الإمام القرطبي عالم الأندلس ومفخرتها

 

1-: تحقيق اسم القرطبـي وكنيته ونسبه.

هو الإمام أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح[1] الأنصاري الخزرجي القرطبي الأندلسي، وقد اتفقت كتب التراجم – فيما اطلعت عليه – على هذا الاسم والكنية والنسب.

فأما الاسم فأمره معلوم محسوم، وأما كنيته ففيها احتمالان:

أحدهما: أنه كني بأبي عبد الله جريا على عادة العرب الذين يكنون بأسماء أولادهم، ولكن هذا الاحتمال لم يرد في كتب التاريخ والسير ما يشهد بصحته، إذ لم يثبت أن الإمام القرطبي كان له ابن يسمى بعبد الله.

ثانيهما: يحتمل أنه كني بهذه الكنية لأن اسم محمد من الأسماء التي اختصتها العرب بهذه الكنية، وهذا ما أرجحه وأميل إليه، لأن أبا عبد الله من باب الكنى الاصطلاحية لاسم محمد، وذلك كقولهم لأحمد أبو العباس، ولعلي أبو الحسين، وليوسف أبو عمر.[2]

وأما نسب الإمام القرطبي فينتهي إلى الأنصار الأبرار، وعلى وجه التحديد إلى خزرجهم، ولذلك قيل له الأنصاري الخزرجي. والخزرج لا تعدو أن تكون بطنا من بطون الأنصار، وفضلهم على الإسلام والمسلمين معروف مشهور، وهو في كتاب الله تعالى مذكور، قال سبحانه (وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) التوبة: 100.

وسموا بالأنصار لأنهم عاهدوا رسول الله   قبل الهجرة بالنصرة، وأوفوا بعهدهم بعدها. ومن أراد تفصيل الكلام في أنساب الأنصار فلينظر كتاب جمهرة أنساب العرب[3] لابن حزم الأندلسي (ت456هـ) فقد أجاد في ذكر تفاصيل حياتهم وأنسابهم وأفاد.

وأكثر ما اشتهر به الإمام القرطبي من تلك الألقاب والكنى قرطبيّته، حتى إذا أطلق لفظ “القرطبي” انصرف إليه وحده، دون غيره من كبار علماء قرطبة العامرة بالعلماء.

وقرطبة مدينة عظيمة عزيزة، قديمة عتيقة، مخضرّة زاهية، تذكّر المسلمين بأيام الأندلس العالمة ، وتوقظ في نفوس أهل الغيرة ذكرياتها الحزينة، يقول الإمام المقري:” وماذا عسى أن نذكر من محاسن قرطبة والزاهرة والزهراء، أو نصف من محاسن الأندلس التي تبصر بكل موضع منها ظلا ضافيا ونهرا وزهرا، ويرحم الله تعالى أديبها المشهور، الذي اعترف له بالسبق الخاصة والجمهور، إذ قال:

يا أهل الأندلس لله درّكم    //    ماء وظل وأنهار وأشجار

ما جنّة الخلد إلا في دياركم    //    ولو تخيّرت هذا كنت أختار

لا تحسبوا في غد أن تدخلوا سقرا    //    فليس تدخل بعد الجنة النار.[4]

وأما عن قرطبة بالذات، فقد قيل فيها من الأقوال، ونظم فيها من الأشعار الكثير، وقد انتقيت من ذلك أربعة من أبيات شعر الإمام ابن عطية الغرناطي الأندلسي[5] (ت542هـ)، قال رحمه الله:

بأربع فاقت الأمصار قرطبة    //    هن قنطرة الوادي وجامعها

هاتان اثنتان والزهراء ثالثة    //    والعلم أكبر شيء وهو رابعها

وقال مودّعا أهلها:

أستودع الله أهل قرطبة    //    حيث عهدت الحياة والكرما

والجامع الأعظم العتيق ولا    //    زال مدى الدهر مأمنا حرما[6]

2-: مولد القرطبي ونشأته.

كثيرة هي الكتب التي أرّخت لحياة الإمام القرطبي، فمن أصحابها من توسع ومنهم من اختصر، ولكنها على كثرتها لم تستقص تفاصيل حياة القرطبي، فقد فات مؤلفيها – حسب اطلاعي – إثبات أمور عظيمة، ولا أدل على ذلك من خلوها مثلا من ذكر موطن ولادة هذا الإمام العظيم وتاريخه!!

ومع هذه الندرة في المعلومات طفق أهل العلم المهتمين بسيرة القرطبي الشخصية وآثاره العلمية يحققون في ما تحصل لهم من المعلومات ويدققون، وهرول غيرهم إلى ذات النصوص يتأولون ويستنطقون، وقد لمحت في كلام بعضهم ما بلغ في ذلك حد المجازفة، فمنهم من يجزم في غير موضع الجزم، وآخر يرجّح بين ما يتعذّر بينه الترجيح، وثالث يطمس الحقائق التاريخية من حيث يظن أنه بها يلمس، ورابع يتجاسر على الارتجال والتلفيق …إن هذا لهو التكلّف بعينيه .

ومثال ذلك: قول الدكتور مفتاح بلقم جازما بتحديد موطن ولادة القرطبي:” ولد الإمام القرطبي –رحمه الله –بقرطبة، إحدى مدن الأندلس الكبرى”[7] وهذا الأمر لم يرد له ذكر في الكتب التي ترجمت للإمام القرطبي – فيما اطلعت عليه وأوفيت- ! فيبقى كلامه مجرّد افتراض وتخمين عار عن البينة والدليل، لأنه لم يحل على أي كتاب من كتب التراجم أو التاريخ أو السير…وظاهر كلامه أن الأمر معروف متداول، لا مخالف فيه ولا مجادل! مع أن حاصل الأمر عكس ذلك. يقول الدكتور محمد بن شريفة:” لم يذكر الذين ترجموا له – يقصد القرطبي – مكان ولادته ولا تاريخها.”[8] ويؤكد ذلك الباحث الحسين ازكيت قائلا:” ولم يذكر أحد من مترجميه – رحمه الله – لا زمان ولادته ولا مكانها.”[9]

وأما عن زمن ولادة الإمام القرطبي فقد كثرت فيه الأقوال وتعددت، وتخالفت واضربت، فهذا محمود زلط يرجح أن يكون ذلك قد حصل ما بين 580هـ و590هـ[10]. بينما يرى محمد الدسوقي أن يكون ذلك حصل في أوائل القرن السابع الهجري[11]. وأما مفتاح بلقلم فيجمع بين القولين قائلا:” وعلى العموم فالذي نستطيع أن نؤكده أن صاحبنا القرطبي قد ولد في مستهل القرن السابع الهجري أو أواخر القرن السادس على الراجح.”[12] وإلى هذا ذهب الباحث الحسين ازكيت[13].

والذي أراه، والله أعلم، ترك التكلّف في هذا الشأن، لأن تحديد مكان وزمان ولادة الرجال أمران لا تجود بهما إلا المصادر التاريخية الموثوقة.

ولعل من جود القرطبي وكرمه، وذكائه ونباهته، أنه تولى الكشف عن بعض معالم شخصيته بنفسه، فقد حصل له ذلك عَرَضًا وهو يخوض في ثنايا قضايا الفقه والتفسير والعقائد وغيرها، فيصل به الحديث عن واقع حاله، وأوصاف أهل زمانه، فيحكي عن ذلك بأبلغ العبارات وأدق الأوصاف، مما يحصل للقارئ فوائد جمة عن الأوضاع النفسية والأحوال الاجتماعية والأحداث التاريخية لشخصية الإمام القرطبي ومعاصريه، فقد تحدّث في كتابه  ( التذكرة ) عن أيام شبابه الكادح، ومزاولته لأبسط الأعمال وأشقها، فقال رحمه الله:” ولقد كنت في زمن الشباب أنا وغيري ننقل التراب على الدواب من مقبرة عندنا تسمى بمقبرة اليهود خارج قرطبة، وقد اختلط –يقصد التراب- بعظام من هناك ولحومهم وشعورهم وأبشارهم إلى الذين يصنعون القرمد للشقف.”[14]

من خلال هذا النص إذن يتبين أن القرطبي قد نشأ في رحاب بيت فقير سكتت كتب التاريخ عن عدّ أفراد أهله، ووصف أحواله، ومتّسعه أو ضيقه، وقربه من الحاضرة أو بعده…فلا نكاد نعلم شيئا عن والدته وإخوته – إن كان له إخوة – اللهم إلا ما كان من أمر أبيه، فقد حدث القرطبي أنه كان رجلا فلاحا لا همّ له – بعد الإلمام بمبادئ الإسلام العامة – إلا حرث الأرض، وزرعها وتشجيرها.[15]

كما أن القرطبي قد حكى لنا – في تفسيره – نبأ استشهاد والده، وعبّر عن ذلك بأسلوب بديع حزين، حيث قال:”…أغار العدو – قصمه الله- صبيحة الثالث من رمضان المعظم، سنة سبع وعشرين وستمائة والناس في أجرانهم على غفلة، فقتل وأسر، وكان من جملة من قتل والدي رحمه الله.”[16]

3-: أخلاق القرطبي وزهده.

كان القرطبي رحمه الله من عبّاد الله العارفين، وعلماء الإسلام الورعين العاملين، زاهد في الدنيا، مشغول بما يعينه على أمور الآخرة، أوقاته معمورة ما بين توجّه وعبادة وتصنيف، وكان طارح التكلف، يمشي بثوب واحد على رأسه طاقية[17].

غير أن القرطبي وإن كان رجل زهد وعبادة، وتواضع جمّ وبساطة، إلا أنه لم يكن معرضا عن الدنيا وما فيها، بل راغبا في حلالها، مبتغيا لطيب كسبها، فقد ذكرنا قبل قليل اشتغاله بحمل التراب على الدواب، وتحمله في ذلك المشاق والعذاب، وأن أباه كان رجلا فلاحا يتعب وينصب…بل ” ألف القرطبي نفسه كتابا يحثّ فيه المسلمين إلى كسب الحلال، والعمل والسعي وراء الرزق، أسماه: الحرص على قمع الحرص بالزهد والقناعة، وردّ السؤال بالكسب والصناعة.”

ومن يطالع كتب القرطبي يتبين له أن دعوته هذه كانت محكومة بشرط عدم الإفراط، وتلافي الانقياد مع شهوات الدنيا على حساب أمور الآخرة، ولقد حكى الإمام القرطبي عن غرائب ما يصنعه المال بعباده أمورا عجيبة، نذكر منها:

 قال:” لقد حُكي لنا أن بعض السماسرة جاء عند الموت فقيل له: قل لا إله إلا الله، فجعل يقول: ثلاثة ونصف، أربعة ونصف، غلبت عليه السمسرة.

ولقد رأيت بعض الحساب وهو في غاية المرض يعقد بأصابعه ويحسب.

وقيل لآخر: قل لا إله إلا الله، فجعل يقول: الدار الفلانية أصلحوا فيها كذا، والجنان الفلاني اعملوا فيه كذا…

وقيل لآخر: قل لا ّإله إلا الله، فجعل يقول: البقرة الصفراء، غلب عليه حبّها، والاشتغال بها. نسأل الله السلامة والممات على الشهادة بمنّه وكرمه.”[18]

4-: شيوخ القرطبـي وتلامذته.

إن لأخذ العلم من أفواه الرجال لشأنا عظيما، بل هو المنهج القويم في تكوين الطالب الفذ والعالم النحرير، ولا ينكر هذا إلا متعصّب جاهل، أو متخاذل متحايل، وقديما قيل:

إذا طلبت العلوم بغير شيخ    //    ضللت عن الطريق المستقيم

وتلتبس الأمور عليك حتى    //    تصير أضل من توما الحكيم

وقد يسّر الله تعالى للإمام القرطبي ثلة من العلماء الأفاضل الذين أثروا معارفه، ووسعوا مداركه، وقد ساعده على ذلك ترحاله الدائم، سواء في بلاد الأندلس – موطن نشأته – أو ببلاد مصر – موطن مماته – أو غيرهما من البلاد التي دخلها.

ومن أبرز شيوخ الإمام القرطبي نذكر ما يلي:

  • الإمام أحمد بن عمر القرطبي: وهو أبو العباس أحمد بن عمر بن إبراهيم بن عمر الأنصاري القرطبي المالكي، أحد كبار مشايخ الأندلس وعلمائها المحققين، واشتهر بابن المزين، وكان قد رحل إلى بلاد المشرق رفقة أبيه طلبا للعلم، وتأدية لفريضة الحج، فسمع كثيرا بمكة والمدينة والقدس ومصر…وغيرها من بلاد الإسلام العريضة، إلى أن استقر به المقام بالإسكندرية يحدّث بها ويدرس[19]. وقد استفاد القرطبي من علمه الواسع مشافهة، ثم من كتبه مطالعة ومدارسة، حتى كان كثير الإحالة عليه في كتبه – وخاصة الجامع والتذكرة –
  • الإمام ابن أبي حجّة: وهو أبو جعفر أحمد بن محمد بن محمد التيسي، أحد أقطاب قرطبة العتيقة، ووافدي إشبيلية، تصدّى لإقراء القرآن وتعليم العربية، استفاد القرطبي من علمه أيما استفادة، وابن أبي حجّة لقب غلب على جدّه، ثمّ صار في عقبه، ويكنى أبا جعفر.[20]
  • الإمام أبو الحسن علي بن قطرال: وهو العلامة الفهامة أبو الحسن علي بن عبد الله بن محمد بن يوسف الأنصاري القرطبي المالكي، كان علمه غزيرا، وفضله عظيما، ولي القضاء ببلدة صغيرة في الأندلس، وقد أحال القرطبي عليه في تفسيره عند ذكره لقصة استشهاد والده[21].
  • الإمام أبو محمد بن رواج:

 وهو ظافر بن علي بن فتوح الأزدي القرشي، أخذ عنه القرطبي أصنافا من العلوم، وسمع منه بمسجد بثغر[22].

  • الإمام أبو عامر الأشعري:

وهو أبو عامر يحيى بن عبد الرحمن بن أحمد بن ربيع الأشعري، كان من العلماء الفحول، والقضاة العدول، أخذ القرطبي من علمه، ونال من فضله وحسن خلقه[23].

  • الإمام أبو علي الحسن البكري:

وهو أبو علي الحسن بن محمد البكري الشيعي النيسابوري ثم الدمشقي، من العلماء المحققين، والعارفين المطلعين، له رحلات عظيمة في طلب العلم، وأخذ عنه القرطبي في مصر[24].

  • الإمام أبو الحسن علي اللخمي:

وهو أبو الحسن علي بن هبة الله اللخمي، الشهير بابن الجيزي، كان رجلا عالما، وفقيها جليلا، شهد بالعلم له أقرانه، وأذعن له الخاص والعام، اقتبس القرطبي من سمته وهديه وفيض علمه في مصر[25].

هؤلاء سبعة من أشهر مشايخ القرطبي، والقائمة  بذكر غيرهم تطول، ولكن نكتفي بهؤلاء على سبيل المثال لا الحصر، ولنسق الكلام عن تلامذة القرطبي، طالبيه ومحّصلي علمه، فنقول وبالله التوفيق:

إن من شأن العلماء الكبار والفضلاء العظام – والقرطبي منهم – أن يلتف حولهم طلبة العلم في كل حين، ويقصدونهم من كل حدب وصوب، وتشغلهم حلقات العلم أيما شغل، وتأخذ منهم الفتوى مأخذها، والإمامة نصيبها…وكذلك كان شأن الإمام القرطبي، فقد كان حريصا على تبليغ ما حصّل من أدب وعلم، وأمثاله لا يخفى عليهم أن العلم:

يزيد بكثرة الإنفاق منه    //    وينقص إن به كفا شددت.

وعلى هذا يكون تلامذة القرطبي قد بلغوا العدد الوفير، والجمع الغفير، غير أن الذين اشتهروا منهم بذلك قلائل[26]، ومنهم:

  • ابنه شهاب الدين أحمد: تلقى من أبيه العلوم، وروى عنه بالإجازة، وكان عالماً مشاركاً بالفنون[27].
  • إسماعيل بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الصمد الخراستاني: كان ذا خلقٍ جم ومعرفة غزيرة، توفي سنة (709ﻫ)[28].
  • أبو جعفر أحمد ابن إبراهيم بن الزبير الثقفي، الغرناطي: شيخ القراء والمحدثين في الأندلس، كان حافظاً حجةً، له مصنفات كثيرة منها “الإعلام بمن ختم به القطر الأندلسي من الأعلام”. توفي عام (708ﻫ).[29]
  • أبو بكر محمد ابن الإمام كمال الدين أبي العباس أحمد بن أمين الدين بن محمد ابن الحسن بن الميمون القسطلاني المصري: كان فقيهاً على مذهب الإمام مالك بن أنس، أخذ العلم عن كثير من الأئمة توفي عام (686ﻫ)[30].
  • ضياء الدين أحمد بن أبي السعود بن أبي المعالي البغدادي المعروف بـ (السطربجي): أصلهمن بغداد، أجازه القرطبي بمناولة كتاب التذكرة[31].

5-: مؤلفات الإمام القرطبي وما أُلف حولها من الدراسات:

أما عن مؤلفات القرطبي وآثاره العلمية فوفيرة مفيدة، فقد كان رحمه الله من المكثرين في التأليف، وقد أجاد في ذلك وأفاد، ويكفيه فخرا شهادة العلماء العظام له بذلك، يقول عنه الإمام الذهبي:” إمام متقن متبحر في العلم، له تصانيف مفيدة، تدل على إمامته وكثرة اطلاعه، ووفور فضله.”[32]

وقال فيه ابن فرحون:” أوقاته معمورة ما بين توجّه وعبادة وتصنيف.”[33]

ومن أشهر مؤلفات القرطبي نذكر ما يلي:

  • الجامع لأحكام القرآن المبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان:

وهو ذلك الكتاب النفيس المشهور المتقن المفيد، من أبرع كتب التفسير وأجودها، قال عنه ابن فرحون:” وهو من أجل التفاسير، وأعظمها نفعا، أسقط منه القصص والتواريخ، وأثبت عوضهما أحكام القرآن، واستنباط الأدلة…”[34]

ولقيمة هذا المصنف العلمية، ومكانة صاحبة السامية، ارتأينا أن نجعله محلا للبحث والدرس، وذلك بالعكوف على استخراج ما فيه من قواعد أصولية وتطبيقاتها الفقهية، والله تعالى نسأل التوفيق والسداد.

  • التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة:

وقد قام بتحقيقه الدكتور أحمد حجازي السقا، ونشرته دار إحياء الكتب العربية بالقاهرة، ودار الفكر ببيروت، وهو كتاب مفيد في بابه، غزير الأحاديث، عامر بالحكم والعظات والأحكام، أحال عليه القرطبي كثيرا في تفسيره[35].

  • التذكار في أفضل الأذكار:

وقد حققه وخرّج أحاديثه عبد القادر الأرناؤوط في في جزء واحد، بإشراف إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد 1979م الرياض. كما حققه ثروة محمد نافع – دار التوحيد 1979م. قال الداودي عنه في طبقاته:” وضعه – يقصد القرطبي – على طريقة التبيان للنووي، لكن هذا أتم منه وأكثر علما.”[36]

  • قمع الحرص بالزهد والقناعة وردّ السؤال بالكسب والشفاعة.

ألفه القرطبي قصد حث الناس على الكسب الحلال، وعدم التخاذل والرضا بالذل والسؤال. حققه وعلّق عليه مسعد محمد السعدي، ونشرته دار الكتب العلمية ببيروت، ويقع في جزء واحد.

  • يوم الفزع الأكبر: مشاهد يوم القيامة وأهوالها.

وقد نشرته مكتبة القرآن بالقاهرة سنة 1985م، وقدم له وعلق عليه محمد إبراهيم، ويقع في جزء واحد.

  • الأسمى في شرح أسماء الله الحسنى.

قام بتحقيقه محمد حسين جبل وطارق أحمد محمد، ونشرته دار الصحابة بطنطا بمصر عام 1995م، وقد أحال عليه القرطبي غير ما مرة في تفسيره.[37]

  • الإعلام بما في دين النصاري من الأوهام، وإظهار محاسن الإسلام، وإثبات نبوة محمد :

قام بتحقيقه أحمد حجازي السقا، ونشرته دار التراث العربي – القاهرة عام 1980م.

  • الإعلام بمولد النبي عليه السلام:

خلص الباحث الحسين ازكيت إلى أن القرطبي قد أحال عليه في موضعين من جامعه[38].

  • المقتبس في شرح موطأ مالك بن أنس.

وقد أحال عليه القرطبي في تفسيره[39]، والظاهر –حسب اطلاعي – أنه لم يحقق.

  • أرجوزة في أسماء النبي .

وقد نسبها له ابن فرحون في ديباجه[40].

هذه جملة من كتب ومؤلفات القرطبي، ولعل القيمة العلمية للموجود منها يوحي بجودة المفقود…

ونظرا لقوة عارضة القرطبي في علوم الآلة والشريعة، أقبل الناس في القديم والحديث على مصنفاته، فاشتغلوا عليها بكل أشكال الدراسات العلمية، إما تحقيقا لها وهو الغالب، وإما شرحا وبيانا، وإما إيجازا واختصارا، وإما جمعا لاختياراته وتصنيفا، وإما استخلاصا لفوائدها واستجلاء لقواعدها…ومما وقفت عليه من ذلك:

  • الإعراب والاحتجاج للقراءات في تفسير القرطبي:

لعبد القادر بن محمد بن محمود الطفيل، تحت إشراف الدكتور إبراهيم عبد الله رفيدة بطرابلس – ليبيا، منشورات كلية الدعوة الإسلامية 1977م، وعدد صفحاته 457 صفحة.

  • مختصر تذكرة القرطبي:

للإمام الشعراني، وراجعه عبد العزيز سيّد، مطبعة الحسين المشهد – القاهرة.

  • مختصر تفسير القرطبي” اختصار ودراسة وتعليق “:

للشيخ محمد كريم راجع، دار الكتاب العربي 1987م، وهو في خمسة أجزاء.

  • جامع الأحكام الفقهية للإمام القرطبي” جمع وتصنيف”:

لفريد عبد العزيز الجندي، دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان، 1414هـ/1994م.

  • التفسير الفقهي عند الإمام القرطبي:

للباحث بوشعايب محمدي، تحت إشراف الدكتور الشاهد البوشيخي، جامعة سيدي محمد بن عبد الله، كلية الآداب والعلوم الإنسانية بفاس، وهي عبارة عن رسالة علمية لنيل دبلوم الدراسات الإسلامية العليا لعام 1410/1411هـ.

  • مفهوم المخالفة عند القرطبي:

للباحث الحسين ازكيت، تحت إشراف الدكتور علال الهاشمي الخياري، وهو رسالة علمية لنيل دبلوم الدراسات الإسلامية العليا بدار الحديث الحسنية – الرباط، مرقون برمز: أصول: أ. 1505. 55 – 1419هـ.

  • القرطبي ومنهجه في التفسير:

للدكتور أقصبي محمود زلط، ، المركز العربي للثقافة والعلوم، بيروت – لبنان.

  • القرطبي حياته وآثاره العلمية ومنهجه في التفسير:

للدكتور مفتاح السنوس بلقلم، منشورات جامعة خان يونس ببنغازي، نشر دار الكتب العلمية 1998م.

  • تسهيل الوصول إلى معرفة أسباب النزول الجامع بين روايات الطبري والنيسابوري وابن الجوزي والقرطبي وابن كثير والسيوطي:

لخالد عبد الرحمن العك، دار المعرفة – بيروت 1998م، عدد صفحاته 407 صفحة.

6-: ظروف حياة القرطبي الثقافية والاجتماعية والسياسية.

تُقدم لنا الأندلس خلال القرنين الرابع والخامس الهجريين النموذج الحضاري الأمثل، فقد سايرت التشريعات الفقهية تفاصيل الحياة العصرية ومستجداتها بالأندلس، وما فتئت النوازل والقضايا والمرافعات تعرض على المحاكم وأهل الفتيا، وهم يتعهدونها بالنظر والاستدلال والمدارسة والسؤال، مما يؤكد على أن الأندلس كانت تمر بحمى اجتهاد خلال هذين القرنين.

ولقد كان من آثار ذلك ظهور ثروة عظيمة من التشريعات والقوانين، الشيء الذي ساعد على خلق أسس جديدة تزكي المناظرة الحسنة، وتحفز الجدال المؤسس على العلم، وتعمق البحث في أصول وقواعد الاستنباط[41].

ومع حلول القرن السادس الهجري تبدأ الأمور بالتغيّر، فقد تسلم الموحدون زمام الحكم بالأندلس، وأقاموا دولتهم على أنقاض دولة المرابطين، وكان ذلك عقب معركة حادة دامية انتصروا فيها عام 516م.

وفي هذه الحقبة كتب المهدي بن تومرت رسالته المعروفة إلى المرابطين، يدعوهم فيها إلى الدخول في طاعته، وامتثال أوامره، ويحذرهم نقمته وبطشه، فعظمت آنئذ دولتهم، واتسعت رقعتهم، حتى صارت أطراف بلادهم تمتد من شبه الجزيرة الإيبيرية شمالا إلى مشارف الصحراء الإفريقية جنوبا، ومن طرابلس الغرب شرقا حتى شواطئ الأطلنطي غربا، واتخذوا من إشبيلية عاصمة للأندلس[42].

وفي القرن السابع – وهو عصر القرطبي – تعيش الأندلس على إيقاع البطش والنهب، والضيق والكرب، لما أصاب المسلمين بها من التمزق والضياع إثر احتلال النصارى أوطانهم، واستيلائهم على ديارهم، وسبيهم نساءهم وعيالهم، وسلبهم أموالهم، والاستعانة بهم على قتل بعضهم، حتى انتهى الأمر بسقوط الحكم الإسلامي بقرطبة الحزينة سنة 633هـ [43]، وولّت أمور المسلمين القهقرى، ولا حول ولا قوة بالله العلي العظيم.

وقد عبّر القرطبي عن هذه المأساة بلسان حزن فقال:”…لبسنا العدو في ديارنا، واستولى على أنفسنا وأموالنا مع الفتنة المستولية علينا، بقتل بعضنا بعضاً واستباحة بعضنا أموال بعض …)[44].

ثم يبيّن القرطبي الحالة النفسية التي صار عليها أهل الأندلس من المسلمين إبان استصغارهم أنفسهم واستكبارهم عدوّهم فيقول:” ولجهلنا وغلبة شهواتنا علينا وظفر العدو اللعين بنا صرنا أحقر من الفِراش وأذَّل من الفَراش، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم)[45].

ولقد كان الإمام القرطبي جريئا عند تشهيره ببعض أسباب هذا التصاغر والتقاصر أمام العدوّ، فصرّح  أن أهل الأندلس ” تركوا الجهاد، وجبنوا عن القتال، وأكثروا من الفرار، فاستولى العدو على البلاد وأي بلاد!! وأسر وقتل وسبى واسترق…)[46].

ومن أبشع صور التمزق الاجتماعي والتفكك الأسري الذي عانت منه الأندلس ما حدّث به القرطبي سماعا عن شيخه ابن أبي حجّة، أنه سمع غيرما واحد يتحدث عن أشراط الساعة فيقول بأن من جملتها:” استيلاء الكفار على بلاد المسلمين كما في هذه الأزمان التي قد استولى فيها العدو على بلاد الأندلس وخراسان وغيرهما من البلدان، فتسبى المرأة وهي حبلى أو ولدها صغير، فيفرق بينهما، فيكبر الولد فربما يجتمعان ويتزوجان، كما وقع من ذلك كثير، فإنا لله وإنا إليه راجعون.”[47]

ويقول القرطبي في موضع آخر من تذكرته:” ولقد أخبرني صاحبنا أبو القاسم رحمه الله أخو شيخنا أبي العباس أحمد بن عمر رحمه الله أنه ربط نحوا من خمسين امرأة، واحدة بعد أخرى في حبل واحد، مخافة سبي العدو لهن حتى خرجوا من قرطبة – أعادها الله – “[48]

وأما إذا تحدثنا عن مستوى الأخلاق والآداب، والأعراف الاجتماعية، والقيم الإنسانية لبلاد الأندلس ومصر – حيث قضى بهما القرطبي أغلب أطوار حياته – فليس لنا إلا أن نسِمها بالتدني ورداءة الحال، مما جعل صيحات القرطبي في كل حين ترتفع، وشكواته من كل صوب تندلع، فلا يجد مناسبة إلا لوّح بذلك وشهّر، أو تبرأ منه وأنكر، ومن عبارات القرطبي الدالة على هذه المعاني ما يلي:

قال رحمه الله عن تبرج نساء عصره:” إن قلّة الحياء قد غلبت عليهن، حتى ترى المرأة في القيساريات وغيرها قاعدة متبرجة بزينتها، وهذا من المنكر الفاشي في زماننا، نعوذ بالله من سخطه.”[49]

وقال عن أحوال حمّامات أهل زمانه:” أمّا دخول الحمّام في هذه الأزمان، فحرام على أهل الفضل والدين، لغلبة الجهل على الناس، واستسهالهم إذا توسطوا الحمام…حتى يرى الرجل البهي ذو الشيبة قائما منتصبا وسط الحمام وخارجه باديا عن عورته، ضاما بين فخذيه، ولا أحد يغير عليه! هذا أمر بين الرجال فكيف بين النساء؟ سيما بالديار المصرية، إذ حماماتهم خالية عن المطاهر، التي هي عن أعين الناس سواتر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.”[50]

ومن الأعراف الفاسدة التي استمسكت بأفراد مجتمع الأندلس ” الاستكبار ” وما يتبعه من أنفة واستعلاء، ومهانة للناس واستذلال، قال القرطبي عند تفسيره لقوله سبحانه ( وخرّوا له سجدا ) يوسف: 100- ” هذا الانحناء والتكفي الذي نسخ عنا قد صار عادة بالديار المصرية وعند العجم، وكذلك قيام بعضهم إلى بعض، حتى إن أحدهم إذا لم يقم له وجد في نفسه كأنه لا يؤبه به، وأنه لا قدر له، وكذلك إذا التقوا انحنى بعضهم إلى بعض ! عادة مستمرة! ووراثة مستقرة! ولا سيما عند التقاء الأمراء والرؤساء، نكبوا عن السنن وأعرضوا عن السنن.”[51]

وقال عن حكام عصره:” فالحكام اليوم عين الرشا لا مظنته، ولا حول ولا قوة إلا بالله.”[52]

ومثل هذه النصوص التي تفيض بالوقائع الاجتماعية، وتفوح بأوصاف الحالة السياسية والثقافية لعصر القرطبي غزيرة وفيرة، تستحق الجمع والتصنيف، والبحوث المستقلة، وقد سبق إلى بعض ذلك الدكتور محمد بنشريفة[53]، فعسى أن يوقظ الله تعالى همما تقوم بهذا العمل تاما كاملا.

7-: محنة القرطبي ورحلته ووفاته.

لم يكن الإمام القرطبي نفسه ليسلم من ويلات نصارى الأندلس وجبروتهم، فزيادة على قتلهم أبيه، اضطر شخصيا إلى النزوح بعيدا عن بلاد الأندلس، فرارا بدينه، وخوفا على نفسه، ولولا ما جرت به محاسن الأقدار لكان من شهداء تلك الدار؛ وبيان ذلك أن النصارى لما استحكموا مقاليد الحكم بالأندلس وأخذوا بزمام الأمور جميعها، عزم القرطبي على مغادرتها مضطرا لا مختارا، وأخذا بمبدأ (من لا يحسن الفرّ لا يحسن الكرّ).

ولم تكن رحلة القرطبي هذه مفروشة بالزهور، بل ملغومة بكيد أهل الضلال والشرور، حتى أنجاه الله تعالى من الموت المحق، وكان ذلك إثر حادث غريب عجيب، يثير دهشة القارئ، ويشهد على رسوخ إيمان القرطبي وصلاح عقيدته، ومدى ثقته بعَظَمَة ربه، وفيما يلي حكاية هذا الحدث بلسان القرطبي ذاته:

قال القرطبي رحمه الله عند تفسيره قول الله تعالى ( وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يومنون بالآخرة حجابا مستورا ) الإسراء: 45.:” ولقد اتفق لي ببلاد الأندلس بحصن منثور من أعمال قرطبة مثل هذا؛ وذلك أني هربت أمام العدو، وانحزت إلى ناحية عنه، فلم ألبث أن خرج في طلبي فارسان وأنا في فضاء من الأرض قاعد، ليس يسترني عنهما شيء، وأنا أقرأ سورة (يس) وغير ذلك من القرآن، فعبرا عليّ ثم رجعا من حيث جاءا، وأحدهما يقول للآخر: هذا (ديبله) – يعنون شيطانا – وأعمى الله عز وجل أبصارهم فلم يروني، والحمد لله كثيرا على ذلك.”[54]

وهكذا أفلت القرطبي – برحمة الله – من قبضة العدو، وتابع المسير إلى أن نزل به المقام ببلاد مصر، حيث وجد فيها مرتعه ومستقره، غير أن الكتب التي ترجمت لحياة القرطبي لم تذكر شيئا عن تفاصيل هذه الرحلة وأطوارها – فيها اطلعت عليه – ولا عن مسالكها ومذاهبها،…ولازلت متشوفا لذلك، مرتقبا له، حتى عثرت على كلام للدكتور مفتاح بلقلم جاء فيه:” كان الإمام القرطبي من الأئمة والعلماء الأندلسيين الذين فروا من بلادهم إبان وقوع الأندلس تحت سيطرة النصارى، وكان البعض منهم قد اتجه شرقا كالإمام القرطبي، الذي رحل إلى أرض الكنانة، مارا في هذه الرحلة العلمية المباركة بالمغرب والجزائر وتونس وليبيا …معلما ومتعلما.”[55]

والعجب أني لم أجد لهذا الكلام سلفا ولا إحالة ولا سندا، فآثرت التوقف في هذه المسألة دون الجزم فيها بشيء، لاحتمال أن يكون القرطبي قد وصل بلاد مصر بحرا لا برا، أو غير ذلك من الاحتمالات الممكنة.

وقد أطبق من ترجم للقرطبي على أنه استقر بمصر بمدينة منية بني خصيب[56]، وهي مدينة حسنة، تقع على شاطئ النيل، في الضفة الغربية منه، وقد تيسر للرحالة الشهير ابن بطوطة زيارتها، فأبدى إعجابه بشساعة مساحتها، وعظيم مساجدها، فقال:”…هي مدينة كبيرة الساحة، متسعة المساحة، مبنية على شاطئ النيل، وحقيق حقيق لها على بلاد الصعيد التفضيل.”[57]

بهذه المدينة الرحبة الواسعة – كمداركه – استقر الإمام القرطبي، ومن عجيب أخباره بها فيما اطلعت عليه، ما رواه الإمام الصدفي بسنده المتصل قال:” أخبرني من لفظه الشيخ فتح الدين محمد بن سيد الناس اليعمري قال: ترافق القرطبي المفسر والشيخ شهاب الدين القرافي في السفر إلى الفيوم، وكل منهما شيخ فنه في عصره، القرطبي في التفسير والحديث، والقرافي في المعقولات، فلما دخلا ارتادا مكانا ينزلان فيه، فدُلا على مكان، فلما أتياه قال لهما إنسان: يا مولانا، بالله لا تدخلاه، فإنه معمور بالجان، فقال الشيخ شهاب الدين للغلمان ادخلوا ودعونا من هذا الهذيان، ثم إنهما توجها إلى جامع البلد إلى أن يفرش الغلمان المكان، ثم عادا فلما استقرا بالمكان سمعا صوت تيس من المعز يصيح من داخل الخرسان، وكرر ذلك الصياح، فامتقع لون القرافي وخارت قواه وبهت، ثم إن الباب فتح وخرج منه رأس تيس وجعل يصيح، فذاب القرافي خوفا.

وأما القرطبي فإنه قام إلى الرأس وأمسك بقرنيه، وجعل يتعوذ ويبسمل، ويقرأ (آ الله أذن لكم أم على الله تفترون) – يونس: 59-ولم يزل كذلك حتى دخل الغلام ومعه حبل وسكين، وقال: يا سيدي تنحّ عنه، وجاه إليه وأخرجه وأنكاه وذبحه. فقالا له: ما هذا؟ فقال: لما توجهتما رأيته مع أحد فاسترخصته واشتريته لنذبحه ونأكله، وأودعته في هذا الخرسان، فأفاق القرافي من حاله وقال: يا أخي لا، جزاك الله خيرا، ما كنت قلت لنا وإلا طارت عقولنا! أو كما قال.”[58]

نستشف من هذه القصة الشريفة مدى رزانة الإمام القرطبي ورباطة جأشه، وصبره وحلمه، وإقدامه وشجاعته، واصطحابه معاني التنزيل في كل مكان وحين.

وهكذا قضى القرطبي آخر حياته في منية بني خصيب إلى أن قبضت روحه بها، فانتقل إلى جوار ربه، وكان ذلك ليلة الاثنين، التاسع من شوال، سنة إحدى وسبعين وستمائة[59].

 

أصل هذه الدراسة مقال منشور بمجلة الغنية العدد المزدوج 3/2

 

الهوامش:


[1] – اختلف في ضبط هذا الاسم ” فرح” فقيل هو بإسكان الراء والحاء المهملة (انظر طبقات المفسرين للداودي-ت945هـ-: 2/65-66.) وقيل “فرج” بجيم في الآخر (انظر شذرات الذهب لابن عماد: 5/335.)

[2] – مفهوم المخالفة عند الإمام القرطبي، ص: 4، وهو رسالة علمية نال بها صاحبها الحسين ازكيت دبلوم الدراسات الإسلامية العليا من دار الحديث الحسنية بالرباط، لموسم: 1419/1420هـ، وكان ذلك تحت إشراف الدكتور علال الهاشمي الخياري.

[3] – انظر جمهرة أنساب العرب من ص: 353 إلى 366.

[4] – نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب: 1/680.

[5] – هو أبو محمد عبد الحق بن غالب بن عطية المحاربي، من أهل غرناطة، كان واسع العلم والمعرفة، قوي الأدب، متفننا في العلوم، توفي رحمه الله عام 542ه، (انظر ترجمته كاملة في كتاب الصلة لابن بشكوال: 1/386.)

[6] – انظر الأبيات الأربعة في نفح الطيب: 1/615-616.

[7] – القرطبي: حياته وآثاره العلمية، ص: 85 لمفتاح بلقلم.

[8] – مجلة ” دار الحديث الحسنية ” العدد 16، ص: 141. ضمن المقال المعنون ب” الإمام القرطبي المفسر: سيرته من تآليفه.” لمحمد بن شريفة.

[9] – مفهوم المخالفة عند القرطبي، ص: 5.

[10] – القرطبي ومنهجه في التفسير، ص: 8

[11] – مجلة ” الأمة ” العدد 58، ص: 28، لعام 1985م.

[12] – القرطبي حياته وآثاره العلمية، ص: 86-87.

[13] – مفهوم المخالفة عند القرطبي، ص: 5-6.

[14] – التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة.” للقرطبي، ص: 37.

[15] – انظر: القرطبي حياته وآثاره العلمية، ص: 85.

[16] – الجامع: 4/209.

[17]  – الديباج المذهب: 2/308.

[18] – التذكرة، ص: 50-51.

[19]  – الديباج المذهب، ص: 69.

[20]  – انظر الذيل والتكملة للمراكشي: 1/484، وشجرة النوار الزكية لابن مخلوف،ص: 182، والأعلام للزركلي: 1/219.

[21]  – الجامع: 4/209.

[22]  – له ترجمة في ” شذرات الذهب ” 5/242.

[23]  – له ترجمة في ” الذيل والتكملة ” 5/318.

[24]  – له ترجمة في ” شذرات الذهب ” 5/242.

[25]  – له ترجمة في ” شذرات الذهب ” 5/246.

[26]  – الجانب اللغوي عند الإمام القرطبي: تأليف الشيخ مثنى علوان الزيدي  إشراف الأستاذ الدكتور  عبد العزيز حاجي  1429ﻫ – 2008م ، انظر الرابط: http://www.saaid.net/book/13/5301.doc.

[27]  – انظر: طبقات المفسرين، للسيوطي، (ص 79 وما بعدها)، وقد قال القصبي زلط في كتابه “القرطبي ومنهجه في التفسير” (ص 42) إن ابن القرطبي هو نفسه أحمد بن فرج اللخمي الشافعي، وهذا خلط فإن هذا لا يتفق مع كونه ابن القرطبي ، لأن أحمد اللخمي من إشبيلية،  ونـزل بدمشق إلى غير ذلك. وانظر : كتاب طبقات الشافعية، (8/26).

[28]  – انظر: الدرر الكامنة، (1/379).

 [29]- انظر: الأعلام، (1/83- 84).

 [30]- انظر النجوم الزاهرة، (7/373).

[31]– انظر: الإمام القرطبي، (ص94).

[32]  – انظر ” طبقات المفسرين للداودي ” 2/66.

[33]  – الديباج المذهب: 2/308.

[34]  – الديباج المذهب: 2/309.

[35]  – انظر مثل: 1/167 – 2/61 – 2/184…من الجامع.

[36]  – طبقات المفسرين: 2/66.

[37]  – انظر مثلا: 1/181 – 1/223 – 2/184 – 3/248 – 3/249…من الجامع.

[38]  – انظر الجامع: 15/75 و 15/141 الطبعة الأولى لدار الكتب العلمية 1988م.

[39]  – انظر مثلا 1/122 من الجامع.

[40]  – انظر الديباج المذهب:2/208-209.

[41]  – انظر ” دراسات ومباحث في تاريخ الأندلس ” لأحمد الطاهري، من ص: 93 – 101.

[42]  – راجع ” القرطبي حياته وآثاره العلمية ” من ص: 9- 13. ولمزيد من التفاصيل انظر الكتب التالية:

–  المجمل في تاريخ الأندلس لعبد الحميد العبادي.

–  الدولة العربية في الأندلس من الفتح  حتى سقوط الخلافة للدكتور إبراهيم بيضون.

–  تاريخ المغرب والأندلس في عصر المرابطين للدكتور حمدي عبد المنعم.

– نهاية الأندلس وتاريخ المغرب المنتصرين للأستاذ عبد الله عنان…وغيرها.

[43]  – انظر:  الاستقصاء (2/202). وقرطبة حاضرة الخلافة في الأندلس (1/153).

[44] – انظر الجامع لأحكام القرآن (7/9-10) طبعة دار الكتب المصرية.

[45] – الجامع: 14/122.

[46] – الجامع: 3/39.

[47] – التذكرة للقرطبي: 2/376. وانظر ” مجلة دار الحديث الحسنية ” العدد 16، ص: 143.

[48] – التذكرة: 2/371.

[49] – الجامع: 3/17.

[50] – الجامع: 12/224.

[51] – الجامع: 9/265.

[52] – الجامع: 2/202.

[53] – انظر عمله هذا في مجلة ” دار الحديث الحسنية ” عدد: 16.

[54] – الجامع: 10/270.

[55] – القرطبي حياته وآثاره العلمية، ص: 6.

[56] – راجع: طبقات المفسرين للحافظ السيوطي، ص: 28-29. وطبقات المفسرين للداودي: 2/66. والذيل والتكملة: 5/585. والديباج المذهب: 2/308-309. والوافي بالوفيات للصدفي: 2/122-123…إلخ.

[57] – مجلة دار الحديث الحسنية، العدد: 16، ص: 155.

[58] – الوافي بالوفيات للصدفي: 2/122-123.

[59] – راجع: – نفح الطيب: 2/210-212. – الوافي بالوفيات: 2/122-123. – الديباج المذهب: 2/308-309. – الذيل والتكملة: 5/585. – شذرات الذهب: 5/355. – شجررة النور الزكية، ص: 197. – الأعلام للزركلي: 6/217-218. مدرسة التفسير في الأندلس: لمصطفى إبراهيم المشني، ص: 98-101.

د. هشام تهتاه

جامعة محمد الخامس، كلية الآداب والعلوم الإنسانية/الرباط

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق