مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوكدراسات محكمة

الإرشاد إلى تقريب الاعتقاد من خلال نظم المرشد المعين على الضروري من علوم الدين

إعداد:

الدكتور عبد الله معصر، رئيس مركز دراس بن إسماعيل

الدكتور مولاي إدريس غازي، باحث بمركز دراس بن إسماعيل.

أولا معالم التقريب العقدي عند العلامة ابن عاشر

      إن من كبريات الحقائق المتصلة بالتراث الإسلامي العربي ، أن أمر تقريب العلم الشرعي تحصيلا وتوصيلا مما يكاد يعد أخص خصائص الكسب المعرفي عند علماء الإسلام، حتى ليجوز معه القول إن أمة الختم هي أمة التقريب بامتياز، “ولقد حاز الكسب المعرفي المغربي النصيب الأوفر من هذه الخصيصة، حيث كان هم التقريب مناط اشتغال علماء المغرب ومحل عنايتهم، في سائر حقول المعرفة الإسلامية، و سائر أنحاء العلم الشرعي، تمهيدا لأصوله، وبيانا لتفاصيله، وكشفا عن تجلياته الفروعية، ووقوفا على مناطاته وموارده التنزيلية الممكنة، كل ذلك بوعي تربوي راسخ، قوامه مراعاة مقتضيات الأحوال، ومقامات المخاطبين، وسياقات التخاطب والتواصل، وأساسه استثمار كافة إمكانات التبليغ، والتدليل، والتوجيه، المفيدة في التحقيق الأمثل لمقاصد التقريب، والتي تتلخص في تحصيل التحقق الأكمل بمكارم الشريعة المحمدية.”[1]

     ولقد كان علم العقيدة الذي برع المغاربة في التأليف فيه، موضوع الاشتغال التقريبي المغربي، يشهد لذلك الاختيار الواعي لعقيدة أهل السنة والجماعة من خلال مذهب الأشعري باعتباره المسلك الأعدل الأوسط، كما يشهد لهذا النفَس التقريبي الراسخ، ذلك الصرح التأليفي الشامخ الذي شيدته قرائح العلماء، وأنتجت مضامينه بنات أفكارهم، فكانت مكونات هذا الصرح بحق مُبدَعات تقريبية تنوعت بين الأنظام والرسائل و الحواشي و الشروح و التقاييد…، كما تنوعت حجما بين الصغر و الكبر و التوسط.

     يعتبر نظم المرشد المعين على الضروري من علوم الدين، للعلامة أبي محمد سيدي عبد الواحد بن عاشر الأندلسي الفاسي(ت1040هـ)، نموذج التأليف التقريبي الذي أطبق المغاربة على العناية به شرحا و مدارسة في حياة مؤلفه وبعد وفاته ، ولقد قصد مؤلفه إلى بيان أمهات المسائل اللازمة في تحصيل الضروري من علوم الدين مما يتصل بالعقائد و الفقه و التصوف، كما اتسمت العناية بالنظم من لدن العلماء بالوفرة و التنوع، إذ منهم من خصه بالشرح المطول لسائر أبواب النظم ، ومنهم من أفرد أحد الأبواب الثلاثة بالشرح المستفيض أي العقيدة أو الفقه أو التصوف ، ومنهم من اكتفى بالشرح المختصر، ومنهم من اتجهت عنايته إلى شرحه شرحا إشاريا على اصطلاح أهل التصوف.

      ولقد خص العلامة ابن عاشر علم الاعتقاد بكتاب مستقل من منظومته المذكورة، قصد فيه إلى بيان أمهات العقائد على مذهب أبي الحسن الأشعري(ت360هـ)، وذلك في سياق تقريبي يمكن إجمال خصائصه الكبرى في ثلاث :

         ـ الإرشاد والتعليم: حيث اتجه القصد فيه إلى مراعاة أدنى مراتب المتعلمين، والمتجلية في الأمي، وهذا واضح من قوله في مطلع النظم :

    وبعد فالعون من الله المجيد   *******    في نظم أبيات للامي تفيد

         قال العلامة محمد الطيب بن كيران (ت1227هـ)في شرحه على توحيد ابن عاشر: ” والأمي الذي لا يعرف القراءة والكتابة، لأنه باق على أصل ولادة أمه له من الجهل بذلك، وأراد به هنا أعم من ذلك من كل من يجهل ما احتوى عليه هذا النظم “. [شرح بن كيران على توحيد ابن عاشر،ص21. مطبعة التوفيق الأدبية ، دون تاريخ].

        والإفادة للأمي تقتضي التماس أيسر الطرق في الفهم والإفهام، كما تنشد تعميم الاستفادة من علم يتهيبه عوام الناس، ويختص به خواص العلماء.

       ـ مراعاة التكامل: وحاصله أن أمر تحصيل علم الاعتقاد، لا يستقيم إلا على شرط الوصل التكاملي بينه وبين سائر علوم الشريعة، وخاصة علمي الفقه والتصوف ، إذ المكلف الكامل من سلمت عقيدته، وصحت أعماله، واستقامت أخلاقه، ولا تدين كامل إلا باستيفاء شرط التكامل بينها، وهذا المنزع التكاملي لائح من مطلع النظم حيث جاء فيه:

            في عقد الأشعري و فقه مالك  *******   وفي طريقة الجنيد الســالك

       كما هو لائح أيضا من إشارته في خاتمة كتاب الاعتقاد إلى مقومات التدين الكامل، أو باصطلاحه ” الإسلام الرفيع” الجامع لمراتب الدين الثلاث حيث قال:

فصل وطاعة الجوارح الجميع            قـــولا و فــعلا هو الإسلام الرفيع

قواعد الإسلام خمس واجبات            وهي الشهادتان شرط البــــــاقيات

ثم الصلاة والزكاة في القطاع            و الصوم والحج على من استطاع

الإيمان جزم بالإله و الكتـب            والرسل والأمــلاك مع بعث قرب

وقدر كــذا صراط ميــــــزان            حوض النبي جنة و نــــــيـــــران

وأما الإحســـان فقال من دراه            أن تعبـــــــــــــد الله كــــــأنك تراه

إن لم تكـــــــن تراه إنه يـراك            والدين ذي الثلاث خذ أقوى عراك

         يقول العلامة محمد الطيب بنكيران مقررا هذا المنزع التكاملي المقوم للتدين و المعارف المبنية عليه: “اعلم أن هذا الدين الذي شرف الله تعالى به المصطفين من عباده، دل عليه قوله تعالى:(ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا)؛ إيمان وإسلام وإحسان؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن بين جبريل عليه السلام الأقسام الثلاثة: (هذا جبريل جاء يعلم الناس دينهم)، قال أبو عبد الله البخاري، فجعل ذلك كله دينا. وكما يطلب العبد بالتصديق بالله ورسله وبما جاؤوا به عن الله، وهو المسمى بالإيمان، وبالأعمال المتعبد بها قولية وفعلية ومركبة منهما كالصلاة، بدنية ومالية ومركبة منهما كالحج والجهاد، وهو المسمى بالإسلام، يطلب أيضا بالآداب اللائقة بالعبد بين يدي مولاه سبحانه وتعالى، وهي أخلاقه صلى الله عليه و سلم التي كان يتخلق بها مع الخالق تعالى ومخلوقاته، حتى قال تعالى:(وإنك لعلى خلق عظيم). والعلم المتكفل ببيان المعتقدات هو علم أصول الدين، والعلم المتكفل ببيان العمليات هو علم الفقه، والعلم المتكفل ببيان الآداب هو علم التصوف، فلا غنى للمكلف عن هذه العلوم الثلاثة، ولايكمل دين العبد إلا بالجري على مقتضاها.” شرح بن كيران على الحكم العطائية، مخطوط الخزانة الحسنية رقم:791 لوحة:2/أ.

  ـ ترسيخ الاشتغال: إذ ليس الغرض من عرض القضايا العقدية تحصيل “النظريات”، وتجريد الأدلة بمعزل عن مقاصدها العملية الحية، والمتمثلة حقيقتها الجامعة في تحقيق كمال العبودية لله عز وجل، نظرا وعملا وحالا، فتعقل المعاني العقدية إنما سبيل تحصيله هو العمل والاشتغال المتمثل في الإكثار من ذكر كلمة التوحيد، وهذا كذلك واضح منجل من قول ابن عاشر إثر الفراغ من بيان عقائد الألوهية والرسالة، الواجبة والمستحيلة و الجائزة:

 وقــــول لا إلـــــه إلا الله               محمـــد أرســـلـــه الإله

    يجمع كل هـذه المعـــــاني              كـانت لذا علامة الإيمــــــان

    وهي أفضل وجـــوه الذكر             فاشغل بها العمر تفز بالـذخر

         وإن الفحص السريع للقضايا المتضمنة في منظومة المرشد المعين، يوضح بجلاء معالم التقريب العقدي لدى العلامة ابن عاشر، حيث جاءت مقاصده معربة عن التوجهات الأصلية الكبرى للمذهب الأشعري، و التي ينتظمها أصل التنزيه والتعظيم مقصدا، وأصل الوسطية والاعتدال منهجا.

إن القول الجامع في مقاصد التقريب العقدي للنظم يتلخص فيما يلي:

محوالأمية العقدية:

       وذلك من خلال الدعوة إلى إحياء داعية النظر والتدبر، وعدم الاكتفاء بالتقليد في أمر الاعتقاد، ومعلوم أن مسألة إيمان المقلد قضية خلافية بين العلماء، حيث تباينت آراؤهم في شأنها، و الناظم رحمه الله اختار رأي أهل التحقيق منهم، والقاضي بلزوم انبناء المعرفة العقدية على الدليل والاستدلال كيفما كانت صوره و مراتبه، وعدم كفاية التقليد في تحصيل العقائد عند إمكان النظر وتحقق موجِب التكليف، وهذا ما أشار إليه الناظم بقوله :

  أول واجب على من كلفا                مـمكنا من نظر أن يعـرفا

   الله و الـرسل بالصفــات                ممـــا عليه نصــب الآيات

قال العلامة أبو عبد الله سيدي محمد ميارة(ت1072هـ)شارحا :

    ” أخبر أن أول ما يجب على المكلف ـ وهو العاقل البالغ حالة كونه متمكنا من النظرـ معرفة الله تعالى ومعرفة رسله عليهم الصلاة والسلام بالصفات التي نصب الله تعالى عليها الآيات، أي أقام عليها البراهين والأدلة، إذ الجهل بالصفة جهل بالموصوف (…)، وكون المعرفة أول واجب هو أحد أقوال في المسألة.قال في شرح الكبرى: ما مررنا عليه في هذه العقيدة من أن أول واجب النظر، هو مذهب جماعة منهم الشيخ الأشعري، وذهب الأستاذ و إمام الحرمين، إلى أن أول واجب القصد إلى النظر، أي توجيه القلب إليه بقطع العلائق المنافية له، ومنها الكبر والحسد والبغض للعلماء الداعين إلى الله سبحانه، وتطهير القلب من هذه الأخلاق أول هداية الله للعبد، وقال القاضي: أول واجب أول جزء من النظر، وقيل: أول واجب المعرفة ويعزى للشيخ أيضا، وهو في الحقيقة غير مخالف لما قبله، لأنه نظر إلى أول ما يجب مقصدا، وغيره نظر إلى أول ما يجب امتثالا و أداء، و إنما اخترنا من هذه الأقوال القول بأن أول واجب النظر، لتكرر الحث على النظر في الكتاب و السنة، حتى كأنه مقصد، بخلاف ما قبله من الوسائل، فإنما أخذ من قاعدة أن الأمر بالشيء أمر بما يتوقف عليه من فعل المكلف.” الدر الثمين و المورد المعين شرح المرشد المعين ص30.دار الرشاد الحديثة الدار البيضاء 2008.

       ثم بين الدليل المقوم للمعرفة اللازمة للاعتقاد الصحيح، وهو الناشئ عن ضرورة أو برهان احترازا عن المعرفة العرية عن الدليل، وهي الحاصلة بمحض التقليد،” فالذي عليه الجمهور و المحققون من أهل السنة(…)أنه لا يصح الاكتفاء به في العقائد الدينية.” نفسه ص31.

إحياء المذهب السني في الاعتقاد:

إن اختيار العلامة ابن عاشر للمتن العقدي الأشعري كمناط للتقريب، هو اختيار قصدي وواع، إذ جاء مترجما للإرادة الجماعية للمغاربة التي لم ترتض من المذاهب علما وعملا وحالا إلا ما كان موصولا بالتدين الأكمل الشاخص في سلوك الرسول صلى الله عليه وسلم، والمُتوارَث عنه بالسند المتصل جيلا بعد جيل إلى زمان الناظم رحمه الله، وهكذا فاختيار المذهب الأشعري في الاعتقاد إنما هو ترجمة لهذا الاختيارالقصدي الكلي الشمولي، خاصة وأن الإمام أبا الحسن الأشعري” لم يبدع رأيا، ولم ينشئ مذهبا، وإنما هو مقرر لمذاهب السلف، مناضل عما كانت عليه صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالانتساب إليه إنما هو باعتبار أنه عقد على طريق السلف نطاقا وتمسك به، وأقام الحجج والبراهين عليه، فصار المقتدي به في ذلك، السالك سبيله في الدلائل يسمى أشعريا.” طبقات الشافعية الكبرى لابن السبكي3/365. تحقيق عبد الفتاح محمد الحلو- محمود محمد الطناحي،دار إحياء الكتب العربية.

        كما يجد هذا الاختيار تفسيره أيضا في كون العقيدة الأشعرية جاءت محققة لمقتضى التكامل المقوم للعلم الشرعي، وذلك من خلال الدعوة إلى تحقيق العلم بالعمل ،وطلب الاتصاف الأكمل، وسلوك طريق الاقتداء في هذا التحقيق وذلك الطلب، ومن هنا لا تجد مالكيا –كما لحظ ذلك تاج الدين السبكي -إلا أشعريا، حيث عد المالكية ” أخص الناس بالأشعري، إذ لا نحفظ مالكيا غير أشعري، ونحفظ من غيرهم طَوَائِفَ  جنحوا إما إلى الإعتزال أو إلى تشبيه”.نفسه 367/3.

   فالمذهب المالكي مذهب عملي بامتياز، إذ انفرد باعتماد عمل أهل المدينة أصلا استدلاليا قائم الذات، واختيار المالكية للمذهب الاشعري دون سواه، إنما هو ارتضاء لمقومات التوجه العملي المطوية فيه، أضف إلى ذلك أن القول العقدي الاشعري يعد أقرب الأقوال العقدية وفاء بمقتضيات القول الصوفي، حيث إن مجاري النظر الأشعري يشهد لها التحقيق الصوفي بالتأييد و الاعتبار، وهذا ما أشار إليه أبو سالم العياشي في رحلته حاكيا عن شيخه الملا إبراهيم أنه قال: ” ما رأيت مذهبا من مذاهب المتكلمين أقرب إلى مذاهب العارفين من مذهب الأشعري، فما قال أهل الكشف في مسألةٍ بخلاف أقوال المتكلمين إلا وجدت قول الأشعري أقرب إلى قولهم، بحيث يمكن رده إلى قولهم، بل المواضع المشكلة من كلامه جارية على ما يقوله أهل الكشف، ولذلك أشكلت على من لم يبلغ مقامه من أهل الظاهر، وقوله في الكسب كل ذلك لا كبير فرق بينه وبين ما اتضح لأهل الكشف، ومن طالع كتب من ألف في عقائد العارفين كالكلاباذي وجدها لاتباين مذاهب أهل السنة فيما اتفقوا عليه، وقريبة من مذهب الأشعري فيما اختلفوا فيه.” انظر النشرالطيب على شرح الشيخ الطيب للعلامة الشريف ادريس بن احمد الوزاني 1/-195-196.المطبعة المصرية ،الأزهر،1348.

ـ تمهيد قواعد العقيدة الأشعرية:

       وهي قواعد ومضامين جاءت مبنية على مقتضى حفظ عقائد السلف، وربطها بمداركها الشرعية وتأييدها بالمدارك العقلية السديدة، علما بأن السلف صحابة وتابعين كانوا يصدرون عن رؤية عقدية تقويمية أساسها التسليم والتنزيه، ولقد حدد الإمام الغزالي معالمها الإجمالية في سبعة أبعاد، وذلك في معرض بيان منهج السلف في التعامل مع الأخبار الموهمة بالتشبيه و التجسيم، وهي:

          ـ تقديس الذات الإلهية عن الجسمية و توابعها.

          ـ تصديق قول رسول الله صلى الله عليه وسلم.

          ـ الاعتراف بالعجز عن الوقوف على كنه معاني حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم المرادة منه.

          ـ السكوت عن السؤال عن الأمور الموهمة بالتجسيم.

         ـ الإمساك عن التصرف في الألفاظ الواردة في أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تفسيرا ولا تأويلا ولا تصريفا ولا جمعا ولا تفريقا ولا تفريعا.

          ـ كف الباطن عن التفكير في هذه الأمور الموهمة بالتجسيم.

    ـ (التسليم لأهل المعرفة. )انظر إلجام العوام عن علم الكلام ص3 وما يليها، دار الكتاب العربي، بيروت 1985.

لقد جاءت هذه القواعد مقررة للمضامين التالية:

    ـ تحديد مسمى الإيمان في التصديق بالجنان، أما القول باللسان والعمل بالأركان فهما فروع لأصل التصديق بالقلب.

     ـ لا تحسين و لا تقبيح إلا بالسمع، إذ لا استقلال للعقل بالقضاء في شيء بمعزل عن الشرع، وإنما هو ينظر من ورائه.

      ـ أن صفات الله أزلية قائمة بذاته دون تعطيل و لا تشبيه.

    ـ أن المدار في متشابه الصفات والأفعال على التسليم بما ورد عن الشارع، وحمله على ظاهره ومعناه الحقيقي دون تكييف، ولا يتعين المصير إلى التأويل إلا عند قيام موجب ذلك من القرائن والأدلة المقتضية للتأويل.

     ـ أن الباري تعالى هوالخالق لأفعال العباد خيرها وشرها، ولكن للإنسان استطاعة و اختيار بقدرة حادثة هي مناط الثواب والعقاب. يقول العلامة محمد الطيب بن كيران مبينا معنى الكسب الأشعري:  ” وأما الكسب الذي أثبته الأشاعرة للعبد في أفعاله الاختيارية، فليس معناه اختراعه لتلك الأفعال كما تدعيه المعتزلة، ولا أن قدرته الحادثة أضيفت إلى القدرة القديمة في إيجاد الفعل فوجد بمجموع القدرتين، كما يعتقده من لا خبرة له بمذهب أهل السنة، بل معناه مقارنة القدرة الحادثة للفعل و ملابستها له من غير تأخير لها أصلا، فليست علة ولا جزء علة الإيجاد.” شرح الطيب بن كيران على توحيد ابن عاشر، ص56.

     ـ أن مآخذ القول العقدي الصحيح إنما تنحصر في الكتاب والسنة الصحيحة سواء كانت واردة مورد التواتر أو الآحاد.

      ـ أن من آكد الواجبات، التزام الاحتياط في تقويم التصرفات العقدية لدى المسلمين ، وعدم المسارعة إلى التكفير أو التفسيق أو التبديع، وأن الأصل اعتبار جميع أهل القبلة مسلمين حتى يقوم الدليل القاطع على خلاف ذلك.

ـ استلهام روح المنهج الوسطي عند الإمام الأشعري:

      إن اختيار العلامة ابن عاشر للمتن العقدي الأشعري كمادة للتقريب ومجال للتداول، هو بالذات دعوة إلى استلهام خاصية جوهرية أطبق خبراء المذاهب قديما وحديثا على استئثار المذهب الأشعري بالرسوخ فيها دون سائر المذاهب، إنها الوسطية باعتبارها حقيقةً  قيمية دالة على خيرية الأمة وأهليتها للشهادة على غيرها من الأمم، وحقيقةً وظيفية تحيل على طلب النجاعة في الوسائل، والاقتصاد في الأمور، والاعتدال في الأحكام، فتقريب العقد الأشعري هو تقريب للعقيدة الوسط  كما أنزلها رب الأمة الوسط، و الوسطية معنى فطري دلت عليه آي القرآن الكريم، وأتم بيانه الهدي النبوي، و هو أساس الأمن العقدي اللازم في تحقيق العمران والعرفان.

           إن الوسطية في سياق القول العقدي الأشعري جاءت حاملة لمضامين تعكس السياق التداولي والتاريخي الذي تنزلت فيه وعلى مقتضاه تلك المضامين، وهذا يعني أن الوسطية معنى ينضبط بالأسيقة التاريخية ويتكيف بالمقتضيات العملية والحالية للتكليف.

        ومن هذا الملحظ نستجمع مع ابن عساكرـ الخبير بمذهب الأشعري ـ بعض صور ومظاهر وسطية المذهب الأشعري كما تحققت تاريخيا في القول العقدي لصاحب المذهب أبي الحسن الأشعري، وهي صور ومظاهر قابلة للتوظيف والاستدماج في سياقات حضارية أخرى كسياق صاحب النظم ابن عاشر رحمه الله وسياقنا المعاصر. يقول ابن عساكر في كتابه تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى الشيخ الأشعري:

       ” كتب إليّ الشيخ أبو القاسم نصر بن نصر الواعظ يخبرني عن القاضي أبي المعالي بن عبد الملك وذكر أبا الحسن الأشعري . فقال: نضر الله وجهه، وقدس روحه، فإنه نظر في كتب المعتزلة، والجهمية، والرافضة، وإنهم عطلوا وأبطلوا. فقالوا : لا علم لله، ولا قدرة، ولا سمع ولا بصر، ولا حياة، ولا بقاء، ولا إرادة. وقالت الحشوية والمجسمة والمكيفة المحددة : إن لله علما كالعلوم، وقدرة كالقدر، وسمعا كالأسماع، وبصرا كالأبصار فسلك رضي الله عنه طريقة بينهما. فقال : إن لله سبحانه وتعالى علما لا كالعلوم ، وقدرة لا كالقدر، وسمعا لا كالأسماع، وبصرا لا كالأبصار. وكذلك قال جهم بن صفوان: العبد لا يقدر على إحداث شيء. ولا على كسب شيء . وقالت المعتزلة . هو قادر على الإحداث والكسب معا. فسلك رضي الله عنه طريقة بينهما . فقال : العبد لا يقدر على الإحداث ويقدر على الكسب .ونفى قدرة الإحداث. وأثبت قدرة الكسب.

       وكذلك قالت الحشوية المشبهة: إن الله سبحانه وتعالى يرى مكيفا محدودا كسائر المرئيات. وقالت المعتزلة الجهمية والنجارية : إنه سبحانه لا يرى بحال من الأحوال. فسلك رضي الله عنه طريقة بينهما. فقال يرى من غير حلول ولا حدود ولا تكييف كما يرانا هو سبحانه وتعالى، وهو غير محدود ولا مكيف. فكذلك نراه وهو غير محدود ولا مكيف.

      وكذلك قالت النجارية: إن الباري سبحانه بكل مكان من غير حلول ولا جهة. وقالت الحشوية والمجسمة: إنه سبحانه  حال في العرش وإن العرش مكان له، وهو جالس عليه. فسلك طريقة بينهما. فقال كان ولا مكان. فخلق العرش والكرسي. ولم يحتج إلى مكان. وهو بعد خلق المكان كما كان قبل خلقه.

    وقالت المعتزلة: له يد، يده  قدرة ونعمة. ووجهه وجه وجود.وقالت الحشوية : يده يد جارحة ، ووجهه وجه صورة. فسلك رضي الله عنه طريقة بينهما. فقال: يده يد صفة ووجهه وجه صفة. كالسمع والبصر.

     وكذلك قالت المعتزلة : النزول نزول بعض آياته وملائكته ، والاستواء بمعنى الاستيلاء. وقالت المشبهة والحشوية: النزول نزول ذاته بحركة وانتقال من مكان إلى مكان. والاستواء جلوس على العرش، و حلول فيه. فسلك رضي الله عنه طريقة بينهما. فقال: النزول صفة من صفاته، والاستواء صفة من صفاته، وفعل فعله في العرش: يسمى الاستواء.

       وكذلك قالت المعتزلة: كلام الله مخلوق مخترع مبتدع. وقالت الحشوية المجسمة: الحروف المقطعة، والأجسام التي يكتب عليها ، و الألوان التي يكتب بها، وما بين الدفتين كلها قديمة أزلية. فسلك رضي الله عنه طريقة بينهما. فقال: القرآن كلام الله قديم غير مغير، ولا مخلوق، ولا حادث، ولا مبتدع. فأما الحروف المقطعة و الأجسام والألوان والأصوات والمحدودات. وكل ما في العالم من المكيفات: مخلوق مبتدع، مخترع.

       وكذلك قالت المعتزلة والجهمية و النجارية: الإيمان مخلوق على الإطلاق. وقالت الحشوية المجسمة: الإيمان قديم على الإطلاق. فسلك رضي الله عنه طريقة بينهما. وقال : الإيمان إيمانان: إيمان لله فهو قديم، لقوله: (المؤمن المهيمن) وإيمان للخلق فهو مخلوق لأنه منهم يبدو، وهم مثابون على إخلاصه، معاقبون على شكه، وكذلك قالت المرجئة : من أخلص لله سبحانه وتعالى مرة في إيمانه لا يكفر بارتداد ولا كفر، ولا يكتب عليه كبيرة قط.

     وقالت المعتزلة: إن صاحب الكبيرة مع إيمانه وطاعاته مائة  سنة لا يخرج من النار قط. فسلك رضي الله عنه طريقة  بينهما وقال : المؤمن الموحد الفاسق هو في مشيئة الله تعالى إن شاء عفا عنه، وأدخله الجنة. وإن شاء عاقبه بفسقه ثم أدخله الجنة. فأما عقوبة متصلة مؤبدة فلا يجازى بها كبيرة منفصلة منقطعة.

       وكذلك قالت الرافضة: إن للرسول صلوات الله عليه وسلامه ولعلي عليه السلام شفاعة من غير أمر الله تعالى ولا إذنه حتى لو شفعا في الكفار قبلت. وقالت المعتزلة: لا شفاعة له بحال فسلك رضي الله عنه طريقة بينهما. فقال بأن للرسول صلوات الله عليه وسلامه شفاعة مقبولة في المؤمنين المستحقين للعقوبة ، يشفع لهم بأمر الله تعالى وإذنه، ولا يشفع إلا لمن ارتضى.

        وكذلك قالت الخوارج: بكفر عثمان وعلّي رضي الله عنهما. ونص هو رضي الله عنه على موالاتهما، وتفضيل المقدم على المؤخر.

       وكذلك قالت المعتزلة: إن أمير المؤمنين معاوية وطلحة والزبير وأم المؤمنين عائشة وكل من تبعهم رضي الله عنهم على الخطأ، ولو شهدوا كلهم بحبة واحدة لم تقبل شهادتهم. وقالت الرافضة: إن هؤلاء كلهم كفار ارتدوا بعد إسلامهم وبعضهم لم يسلموا. وقالت الأموية: لا يجوز عليهم الخطأ بحال. فسلك رضي الله عنه بينهم وقال : كل مجتهد مصيب، وكلهم على الحق وإنهم لم يختلفوا في الأصول. وإنما اختلفوا في الفروع. فأدى اجتهاد كل منهم إلى شيئ فهو مصيب وله الأجر والثواب على ذلك.

       إلى غير ذلك من أصول يكثر تعدادها وتذكارها وهذه الطرق التي سلكها لم يسلكها شهوة وإرادة، ولم يحدثها بدعة واستحسانا. ولكنه أثبتها ببراهين عقلية مخبورة، وأدلة شرعية مسبورة، وأعلام هادية إلى الحق، وحجج داعية إلى الصواب والصدق، هي الطرق إلى الله سبحانه وتعالى، والسبيل إلى النجاة والفوز، من تمسك بها فاز ونجا، ومن حاد عنها ضل وغوى.” تبيين كذب المفتري ص149 و ما يليها، تحقيق الدكتور أحمد حجازي السقا، دار الجيل بيروت.


[1] – مقتطف من تقديم فضيلة الدكتور أحمد عبادي الأمين العام للرابطة المحمدية للعلماء لكتاب تقريب المذهب والعقيدة والسلوك” للدكتور عبد الله معصر، منشورات مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوك، سلسلة أبحاث ودراسات (1) الطبعة الأولى 2012 ص5.

الدكتور عبد الله معصر

• رئيس مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوك بالرابطة المحمدية للعلماء.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق