مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوكدراسات محكمة

القياس ومكانته الاستدلالية

أولا- حجية القياس:

حينما يثير الدارسون هذه القضية، -متقدمهم ومحدثهم على السواء-، يستحضرون قولين متعارضين كل التعارض: قول الجمهور الذي يرى في القياس مسلكا استدلاليا مشروعا وأصلا صحيحا من أصول الاجتهاد، وقول أهل الظاهر الذي شنع على القول الأول بكل أساليب التشنيع، ولم ير في  الأخذ بالقياس إلا البطلان الصريح والابتداع القبيح. قال القرافي:”وهو –أي القياس- حجة عند مالك رحمه الله وجماهير العلماء رحمة الله عليهم خلافا لأهل الظاهر”[1]. وأشار ابن عبد البر إلى أن دعوى نفي القياس التي اشتهر بها أهل الظاهر هي ذات أصل اعتزالي، حيث يرى أن على القول بالقياس “كان العلماء قديما وحديثا (…) ولم يزالوا على إجازة القياس حتى حدث إبراهيم بن سيار النظام وقوم من المعتزلة سلكوا طريقه في نفي القياس والاجتهاد في الأحكام، وخالفوا ما مضى عليه السلف، فممن تابع النظام على ذلك جعفر بن حرب وجعفر بن مبشر، ومحمد بن عبد الله الإسكافي، وهؤلاء معتزلة أئمة في الاعتزال عند منتحليه، واتبعهم من أهل السنة على نفي القياس في الأحكام داود بن علي بن خلف الأصبهاني”[2].

هذا ولقد رأينا من الأفيد معالجة هذه القضية من خلال استحضار جهود كل من النظار المالكي المعروف أبي الوليد الباجي، الناصر لمذهب الجمهور، والفقيه أبي محمد ابن حزم الذي اكتملت على يديه أصول وفصول المذهب الظاهري، ويتأيد هذا الاختيار بما هو معلوم تاريخيا من أن الباجي كان معاصرا لابن حزم، بل عقدت للرجلين مجالس للمناظرة حسبما تشير إليه المصادر[3].

ابن حزم ودعوى إبطال القياس:

تتلخص دعوى ابن حزم في أن كل نازلة تنزل بالمكلف إلا وقد نص على حكمها، دون حاجة إلى رأي أو استعمال قياس “فقد كان الدين والإسلام لا تحريم فيه ولا إيجاب، ثم أنزل الله تعالى الشرائع، فما أمر به فهو واجب، وما نهى عنه فهو حرام، وما لم يأمر به ولا نهى عنه فهو مباح مطلق حلال كما كان، هذا أمر معروف ضرورة بفطرة العقول من كل واحد، ففي ماذا يحتاج إلى القياس أو إلى الرأي؟ أليس من أقر بما ذكرنا ثم أوجب ما لا نص بإيجابه، أو حرم ما لا نص بالنهي عنه قد شرع في الدين ما لم يأذن به الله تعالى؟ وقال ما لا يحل القول به، وهذا برهان لائح واضح وكاف لا معترض فيه”[4].

 والدارس لتحليلات ابن حزم يلاحظ أنها جاءت جامعة بين جانب التهديم وجانب التأسيس مع رجحان الجانب الأول.

أما الجانب الأول وهو جانب التهديم، فيشمل سائر الردود والاعتراضات التي واجه بها أبو محمد أدلة الخصوم، ويتضمن الجانب الثاني –أي جانب التأسيس- جملة الأدلة الدالة على إبطال القياس، يقول ابن حزم: “وشغب أصحاب القول بالقياس بأشياء موهوا بها، ونحن إن شاء الله تعالى ننقض كل ما احتجوا به، ونحتج لهم بكل ما يمكن أن يعترضوا به، ونبين بحول الله تعالى وقوته بطلان تعلقهم بكل ما تعلقوا به في ذلك، ثم نبتدئ بعون الله عز وجل بإيراد البراهين الواضحة الضرورية على إبطال القياس”[5].

ونجد ابن حزم في “نقوضه” و “برهنته” قد استعمل مختلف آليات الاعتراض المعروفة عند أهل المناظرة، كالنقض والمعارضة والتسليم الجدلي والتفريق والتقدير( تقدير اعتراضات الخصم) واستخراج التناقضات…، غير أنه لم يلتزم في بعض اعتراضاته بآداب الجدل، وذلك حينما سلك مسلك التشنيع على خصومه من خلال نعتهم بالتمويه والجهالة والحماقة والجنون والتدليس والسفسطة، وأقبح هذه النعوت الاتهام بالبدعة والكفر، ناهيك عن أساليب التهكم والتنقيص والتحقير، وغير ذلك مما يتنافى مع مقامهم، ولا يليق بمنصب عالم الشريعة ومقام العلم الشرعي…

لقد اتخذ جانب التهديم عند فقيهنا الظاهري مظاهر مختلفة يمكن إجمالها في الصور التالية:

أ- إبطال استدلالات الخصوم بالآيات الدالة على اعتبار النظير بالنظير، والشبيه بالشبيه، وتوجيهها توجيها موافقا لغرضه، وذلك بجعلها دالة على نفي القياس، وأهم مثال يمكن سوقه على هذه الصورة اعتراضه على الاستدلال بآية الاعتبار، يقول ابن حزم: “واحتجوا أيضا بقول الله تعالى:”فاعتبروا يا أولي الأبصار[6]، وهذه هي قاعدتهم بظنهم في القياس وما كانوا أبعد قط من القياس منهم في هذه الآية، وما فهم قط ذو عقل من قول الله تبارك وتعالى:”فاعتبروا يا أولي الأبصار” تحريم مد بلوط بمدي بلوط، وما للقياس مجال على هذه الآية أصلا بوجه من الوجوه، ولا علم أحد قط في اللغة التي بها نزل القرآن أن الاعتبار هو القياس، وإنما أمرنا تعالى أن نتفكر في عظيم قدرته في خلق السماوات والأرض وما حل بالعصاة، كما قال تعالى في قصة إخوة يوسف عليه السلام “لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب[7]، فلم يستحي هؤلاء القوم أن يسموا القياس اعتبارا وعبرة على جاري عادتهم في تسيمة الباطل باسم الحق ليحققوا بذلك باطلهم، وهذا تمويه ضعيف وحيلة واهية”[8]. ثم يواصل ابن حزم الرد على خصومه بكل تهكم وسخرية إلى أن يخلص إلى أنه “لو لم يكن في إبطال القياس إلا هذه الآية لكفى، لأن أولها قوله تعالى:”هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المومنين فاعتبروا يا أولي الأبصار”، فنص الله تعالى كما تسمع على أنه أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم، وأن المؤمنين لم يظنوا قط ذلك، وأن الكفار لم يحتسبوا قط ذلك، فثبت يقينا بالنص في هذه الآية أن أحكام الله عز وجل جارية على خلاف ما يحتسب الناس كلهم، مؤمنهم وكافرهم، والقياس إنما هو شيء يحتسبه القائسون لا نص فيه ولا إجماع، كظن المالكي أن علة الربا الادخار في المأكولات في الجنس، وظن الحنفي أنها الوزن أو الكيل في الجنس، وظن الشافعي أنها الأكل في الجنس، وهذه كلها ظنون واحتسابات، فصح أن أحكام الله تعالى تأتي بخلاف ما يقع في النفوس، فهذه الآية أبين شيء في إبطال القياس)[9]

ب- التفريق: حيث يتم منع استدلال الخصم عن طريق تطريق الاحتمال إلى ألفاظ الدليل من خلال نسبة الاشتراك إليها، وهذا ما فعله ابن حزم بالفعل عبر الوارد في الآية على صيغة المضارع “إن كنتم للرؤيا تعبرون[10]  ، فلا دلالة فيه البتة على القياس، لأنه ” من الأسماء المشتركة التي هي مثل “ضرب” من ضراب الجمل و هو سفادة الناقة، و “ضرب” بمعنى الإيلام بإيقاع جسم على جسم المضروب بشدة و “الضرب” العسل، وهكذا عبرت الرؤيا، فسرتها، وعبرت النهـر أي تجاوزته، فهذان معنيان مختلفان ليس أحدهما من الآخر في ورد ولا صدر، ومصدر عبرت النهر إنما هو “العبور” ومصدر عبرت الرؤيا إنما هو “العبارة”، ومصدر اعتبرت في الشيء إذا فكرت فيه “الاعتبار” (…) فإذا قلنا : إن معنى عبرت النهر إنما هو  تجاوزته، ومعنى عبرت الرؤيا إنما هو فسرتها، فقد وضح أن هذا غير هذا، ولو أن المعبر للرؤيا تجاوزها لما كان مبينا لها، بل كان يكون تاركا لها، آخذا في غيرها، كما فعل عابر النهر إذا تجاوزه إلى البر، والاعتبار أيضا معنى ثالث غير هذين بلا شك، فخلط هؤلاء القوم وأتوا بالسفسطة المجردة…”[11]

ج- اعتبار الأحاديث التي وردت فيها أقيسة للرسول صلى الله عليه وسلم غير دالة على القياس ولا على تعليم القياس، واعتبار أحكامها ثابتة من طريق النصوص الجلية ولا مدخل للقياس فيها أصلا[12]  .

د- منع الاستدلال بالأحاديث الدالة على عموم طلب الاجتهاد والرأي وذلك إما:

-بالطعن في السند ومعارضة المتن كما هو الحال بالنسبة إلى حديث معاذ المشهور، فقد اعتبره ابن حزم “ظاهر الكذب والوضع”[13] و”لا يحل الاحتجاج به لسقوطه، وذلك أنه لم يرو قط إلا من طريق الحارث بن  عمرو وهو مجهول لا يدري أحد من هو”[14] ؛ ولأن فيه إطلاق الحكم في الدين بالرأي، وهذا مناف لكمال الشريعة وبيانها التام والشامل[15].

– أو بيان أن “الرأي غير القياس، لأن الرأي إنما هو الحكم بالأصلح والأحوط والأسلم في العاقبة، والقياس هو الحكم بشيء لا نص فيه بمثل الحكم في شيء منصوص عليه، وسواء كان أحوط أو لم يكن، كان أصلح أو لم يكن، كان أسلم أو أقتل، استحسنه القائل له أو استشنعه”[16].

– أو إعطاء الاجتهاد مدلولا خاصا يباين به مدلولي القياس والرأي، يقول ابن حزم: “والاجتهاد ليس قياسا ولا رأيا، وإنما الاجتهاد إجهاد النفس واستفراغ الوسع في طلب حكم النازلة في القرآن والسنة، فمن طلب القرآن وتقَرَّأ آياته، وطلب في السنن، وتقرأ الأحاديث في طلب ما نزل به فقد اجتهد، فإن وجدها منصوصة فقد أصاب فله أجران:  أجر الطلب وأجر الإصابة، وإن طلبها في القرآن والسنة فلم يفهم موضعها منهما ولا وفق عليه، وفاتت إدراكه، فقد اجتهد فأخطأ فله أجر…”[17].

هـ – إبطال دعوى إجماع الصحابة على اعتبار القياس، وذلك بالطعن في صحة الروايات المنسوبة إليهم، أو اعتبار ما صح منها لا مدخل فيه للقياس، يقول ابن حزم: “وادعى بعضهم –دون مراقبة- إجماع الصحابة رضي الله عنهم على القول بالقياس، وهذه مجاهرة لا يعدلها في القبح شيء أصلا، وباليقين نعلم أنه ما روي قط عن أحد  من الصحابة القول بأن القياس حق بوجه من الوجوه، لا من طريق تصح ولا من طريق ضعيفة”[18]، وإذا لم يصح عن أحد من الصحابة القول بالقياس ولا بالعلل “التي لا يصح القياس إلا عليها عند القائل به، فقد صح الإجماع منهم رضي الله عنهم على أنهم لم يعرفوا ما القياس، وأنه بدعة حدثت في القرن الثاني، ثم فشا وظهر في القرن الثالث، كما ابتدأ التقليد والتعليل للقياس في القرن الرابع، وفشا وظهر في القرن الخامس”[19].

و- إبطال أقيسة الفقهاء ببيان تناقضاتها ووجوه فسادها[20] وانعدام قاعدة مطردة لدى القائلين بالقياس في استعماله له أو تركه، “فإن كان القياس حقا فقد أخطاوا بتركه وهم يعلمونه، وإن كان باطلا فقد أخطأوا باستعماله، فهم في خطأ متيقن إلا في القليل من أقوالهم”[21].

ز- إنكار مبدأ التعليل[22] الذي يقوم على أساسه القول بالقياس، حيث إنه “لا علة لشيء من أوامر الله تعالى ولا لشيء من أفعاله كلها أولها عن آخرها، ولا يجوز أن يشبه حكم بحكم آخر لم يأذن الله تعالى في الجمع بينهما، وهذه المسألة أصل خطأ القوم وبعدهم عن الحقائق، وهي بدعة محدثة حدثت في القرن الرابع، لم ينطق بها قط صحابي ولا تابعي بوجه من الوجوه”[23].

هذه باختصار وإجمال أهم مظاهر وصور النقد والتهديم في تحليلات ابن حزم.

أما الجانب التأسيسي أو الإنشائي من هذه التحليلات، والذي يتضمن –كما سبق الإلماع إليه- جملة الأدلة المثبتة لنقيض دعوى الخصم ( أي نفي القياس) فيمكن تقريب معالمه الأساسية عبر البيان الآتي:

يستند ابن حزم في تدليلاته على مدعاه إلى مقدمتين أساسيتين:

– مقدمة “إكمال الدين وتمام البيان النبوي وشموليته”: وهي متضمنة في قوله تعالى: “اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا[24] وقوله تعالى : “لتبين للناس ما نزل إليهم[25] ، وقوله عليه السلام في حجة الوداع: “اللهم هل بلغت؟ قالوا نعم، قال: اللهم اشهد”[26]

– مقدمة ” الاستيعاب النصي للنوازل”: وهي مقتضى قوله تعالى “ما فرطنا في الكتاب من شيء[27] وقوله تعالى: “وما كان ربك نسيا[28] ولا يخفى ما بين المقدمتين من التلازم القوي، يقول ابن حزم: “فإذن قد صح يقينا بخبر الله تعالى الذي لا يكذبه مومن أنه لم يفرط في الكتاب شيئا، وأنه قد بين فيه كل شيء، وأن الدين قد كمل، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بين للناس ما نزل إليهم، فقد بطل يقينا بلا شك أن يكون شيء من الدين لا نص فيه، ولا حكم من الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم عنه”[29].

وبناء على ما ذكر يرى ابن حزم أن مآخذ الأحكام ومدارك الاجتهاد محصورة في الكتاب والسنة والإجماع، ولا مكان للقياس بينها بل لا حاجة بأحد إليه[30].

أما كون النوازل مشمولة بالنصوص  وهو” مقتضى الاستيعاب النصي”، فبيانه أن أحكام الديانة “تنقسم ثلاثة أقسام لا رابع لها، وهي فرض لابد من اعتقاده والعمل به مع ذلك، وحرام لابد من اجتنابه قولا وعقدا وعملا، وحلال مباح فعله ومباح تركه”[31]. وجميع أفعال العباد لا تخرج عن هذه الأقسام الثلاثة: فما دخل في قاعدة الأمر فواجب أو مندوب، وما دخل في قاعدة النهي فحرام أو مكروه، وما سكت عنه فمأذون فيه بالإباحة الأصلية، “فقد قال الله عز وجل: “خلق لكم ما في الأرض جميعا[32]، وقال تعالى : “وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه[33]، فصح بهاتين الآيتين أن كل شيء في الأرض وكل عمل فمباح حلال، إلا ما فصل الله تعالى لنا تحريمه باسمه نصا عليه في القرآن، وكلام النبي صلى الله عليه وسلم المبلغ عن ربه عز وجل والمبين لما أنزل عليه، وفي إجماع الأمة كلها المنصوص على اتباعه في القرآن، وهو راجع إلى النص (…) فإن وجدنا شيئا حرمه النص بالنهي عنه أو الإجماع باسمه حرمناه، وإن لم نجد شيئا منصوصا على النهي عنه باسمه ولا مجمعا عليه فهو حلال بنص الآية الأولى”[34].

ومما يؤكد هذا التأويل ويشهد له –حسب ابن حزم- حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي جاء فيه: “أيها الناس إن الله فرض عليكم الحج فحجوا، فقال رجل: أكل عام يا رسول الله؟ فسكت حتى أعادها ثلاثا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو قلت نعم لوجب، ولما استطعتم، قال:  ذروني ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فاتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه”[35]. قال ابن حزم معلقا: “فجمع هذا الحديث جميع أحكام الدين أولها عن آخرها، ففيه أن ما سكت عنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فلم يأمر به ولا نهى عنه فهو مباح، وليس حراما ولا فرضا، وإن ما أمر به فهو فرض، وما نهى عنه فهو حرام”[36]، “فأين للقياس –كما يقول- مدخل والنصوص قد استوعبت كل ما اختلف الناس فيه وكل نازلة تنزل إلى يوم القيامة باسمها؟”[37].

ولم يكتف ابن حزم بهذا البيان، بل ساق جملة من الآيات والأحاديث والنقول عن الصحابة والتابعين تدل في نظره على إبطال القياس في الدين، من ذلك قوله تعالى :”فلا تضربوا لله الأمثال إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون[38]، “فنص تعالى على أن لا تضرب له الأمثال، وهذا نص جلي على إبطال القياس وتحريمه، لأن القياس ضرب أمثال للقرآن، وتمثيل ما لا نص فيه بما فيه النص، ومن مثل ما لم ينص الله تعالى على تحريمه أو إيجابه بما حرمه الله تعالى وأوجبه فقد ضرب له الأمثال وواقع المعصية”[39]، وقوله عليه الصلاة والسلام: ” “تفترق أمتي على  بضع وسبعين فرقة أعظمها فتنة على أمتي قوم يقيسون الأمور برأيهم فيحلون الحرام ويحرمون الحلال”[40]، وقول أبي هريرة رضي الله عنه لابن عباس :”إذا أتاك الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا تضرب له الأمثال”[41]، وقول محمد بن سيرين من التابعين: “القياس شؤم وأول من قاس إبليس فهلك، وإنما عبدت الشمس والقمر بالمقاييس”[42].

 أما الدليل الإجماعي على نفي القياس فتقريره أن الأمة كلها أجمعت على “وجوب الأخذ بالقرآن وبما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبما أجمعت الأمة كلها على وجوبه أو تحريمه من الشرائع، وأجمعت على تصديق قول الله تعالى، : “ما فرطنا في الكتاب من شيء”، وعلى قوله تعالى: “اليوم أكملت لكم دينكم”، وهذا إجماع على ترك القياس وأن لا حاجة لأحد إليه”[43].

مسلك الباجي في إثبات القياس

لقد كانت تحليلات الباجي مطبوعة في سائر أطوارها بالانتظام والترتيب، حيث ازدوج فيها جانبا العرض والاعتراض، مع التزام صاحبها كامل  آداب البحث والمناظرة وتقيده بمقتضيات النظر السليم والفحص الدقيق.

وأول ما بدأ به الباجي في هذا المضمار هو تحديد الأقوال في المسألة، وجاء ترتيبه لها على الشكل التالي: “اجتمع الصحابة والتابعون ومن بعدهم من الفقهاء والمتكلمين وأهل القدوة على جواز التعبد بالقياس، وأنه ورد التعبد بالصحيح منه.

وقالت الشيعة وإبراهيم النظام وجماعة من المعتزلة البغداديين: إن التعبد به محال، وإنه غير جائز ورود الشرع به.

وقال داود وابنه: يجوز التعبد به من جهة العقل، ولكن الشرع لم يرد بإطلاقه، وقد ورد بحظره”(44)، وغير خاف على ذي بصيرة أن الطريقة التي حدد بها الباجي الأقوال أو المذاهب في المسألة ذات دلالة خاصة في هذا الموطن:

– فالقول بالقياس هو قول الصحابة والتابعين ومن بعدهم من أهل الإقتداء.

– والقول بنقيض ذلك دعوى مبتدعة تقلدها من شأنه “الابتداع” من أهل الاعتزال وأهل الظاهر.

– وابن حزم الذي خرج من التصنيف أو أخرج منه قصدا، ليس إلا مقلدا لسلفه من أهل الابتداع.

وهذا “الإقصاء” المقصود من طرف الباجي يعتبر في اعتقادي إمعانا في الإنكار وتشديد النكير على ابن حزم.

وقبل شروع الباجي في تقويم مذاهب المبطلين للقياس، يورد دليلا إجماليا ملخصه أن القول بالقياس ليس فيه “وجه من وجوه الإحالة يعلم بضرورة من تجويز الجمع بين الضدين، وكون الجسم الواحد في وقت واحد في مكانين، وكون الخبر الواحد صدقا كذبا، وغير ذلك مما يعلم استحالته بضرورة، ولا وجه من وجوه الإحالة المعلومة بالنظر والاستدلال من كون القديم محدثا، والمحدث قديما، وقلب الأشياء عن حقائقها، وإخراج الأشياء عن صفات أنفسها، وما لم يكن فيه وجه من وجوه الإحالة، وجب أن يكون جائزا”[45]، ومن ثم فالقياس دليل صحيح لكونه لا ينافي مقتضيات العقل الراجح، ولا يلزم عن الأخذ به الوقوع في صريح التناقض أو شنيع السفسطة.

1- تقويم مذهب الإبطال في صورته الاعتزالية والشيعية:

أ- يقوم هذا المذهب على مسلمة القول بالأصلح أو إيجاب المصلحة على فعل الباري تعالى، ومقتضاها أن “الله سبحانه لما لم يتعبد خلقه بالقياس، بل منع منه، علمنا بذلك أن منعه وحظره هو الأصلح، وأن إطلاقه مفسدة لهم، وضرر عليهم”[46] ، لكن الباجي يرى أن القول بالأصلح أو إيجاب المصلحة على الباري ليس مسلما، ويلزم الخصم بإقامة الدليل عليه[47] ،كما أن القول بالأصلح لا يتحصل للخصم إلا بعد إثبات نفي القياس، وهو محل النزاع، يقول الباجي: ” ثم يقال لهم على تسليم القول بالأصلح أن هذا إنما يثبت لكم بعد أن تثبتوا أن الباري تعالى منع خلقه من القياس ولم يتعبدهم به، ثم حينئذ يعلمون أنه هو الأصلـح، وإنما مخالفتـنا لكـم في جواز التعبد، فإن لم تعلموا منع التعبد به إلا بعد العلم بأن الأصلح هو المنع منه، ولم تعلموا أن الأصلح في منعه إلا بعد العلم بالمنع، استحال حينئذ علمكم بأحد الأمرين”[48].

ب- ويرى هذا المذهب أن القياس ليس طريقا موصلا إلى العلم والقطع، والمجتهد الذي يسلك هذا الطريق في الإفتاء يعتبر مقدما على الحكم بغير علم[49]. وجواب الباجي على هذا الاعتراض يظهر في كون مبنى التكليف على “أن يكون المكلف عالما بما كلفه أو في حكم العالم به، وممن يصح منه الوصول إلى معرفته، وإذا كان ذلك كذلك، فلا فرق بين أن يقول لنا تعالى “حرمت عليكم التفاضل في البر” في صحة امتثال الفعل وتركه، وبين أن يقول : “حرمت عليكم التفاضل في البر لأنه مقتات جنسه”، فقيسوا عليه كل مساو له في صفته، فكلا الأمرين يصح امتثاله وتركه، وكذلك إذا دلنا بغير القول والنص، فقال لنا متى حرمت عليكم الخمر وبيع الربا متفاضلا، فقد علقت حكم التحريم على معنى فيه، وكلفتكم الاجتهاد في طلب ذلك المعنى الذي علقت التحريم عليه، وأمرتكم اعتبار حاله بالتقسيم والنظر في الأصول، وأسقطت عنكم المأثم في خطأ ذلك المعنى الذي علقت عليه الحكم، وجعلت لكم على اجتهادكم أجرا، وإن أصبتموه جعلت لكم أجرين للاجتهاد والإصابة، والغرض الذي أوجبته عليكم هو الاجتهاد في طلب ذلك المعنى، وإذا أثبت هذا فالاجتهاد أمر متيقن يقطع الإنسان بوجوده من نفسه ووقوعه منه”[50]. بل إن القائل بالتصويب كالقاضي أبي بكر الباقلاني لا يلزم عليه هذا الاعتراض مادام المجتهد في اجتهاده قد “أدى الواجب الذي عليه وعلم ذلك، فلا يقدم على الحكم إلا بعلم  فبطل ما قالوه”[51] .

ج- ويرى هذا المذهب أيضا أن “الحاكم بالقياس يخبر عن الله تعالى أنه حرم النبيذ للشدة المطربة، وأنه حرم التفاضل في البر للطعم والاقتيات، ولا يجوز الإخبار عن الباري تعالى بقياس”[52]. وجواب الباجي يتلخص في كون القائس مخبرا عن الله تعالى بمقتضى الدلائل الدالة على صحة القياس وصحة الحكم بموجبه، “فكل قائس على الوجه الذي أبيح له القياس مخبر عن الله تعالى بما جعل له من الأدلة على الحكم، وأمره بالاقتداء بها كما يخبر عن الله تعالى بما ظهر على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم من السنن التي أمر باتباعه فيها، ومن أفعاله التي جعلها علامة على إباحة الفعل لنا، وإطلاقه على وجوبه، فمتى نهانا صلى الله عليه وسلم من التفاضل في البر، ودل الدليل على أن المعنى الذي جعله علما على التحريم في التفاضل هو الطعم والاقتيات وجب المصير إلى ما دل عليه الدليل، وكان بمنزلة أن يقول: حرمت عليكم التفاضل في البر لأنه مطعوم مقتات”[53] .

د- واعترض هذا المذهب بكون القياس لا ينبني إلا على علة مدلول على صحتها بنص أو استدلال، “ومحال تعليق الحكم على علة هي طعم أو شدة؛ لأن العلة في التعبد هي المصلحة، فلو نص على العلة لنص على المصلحة دون الطعم والشدة، ولو ذكر أن العلة هي المصلحة لم يمكن القياس عليها؛ لأنه لا يعلم كونها مصلحة في غير ما ورد بالنص”[54].

 لكن هذا الاعتراض مندفع حسب الباجي من الأوجه التالية:

– أن تعليق الحكم بالمصلحة غير مسلم، والخصم مطالب بإقامة الدليل عليه[55].

– أن العلل في اعتبار الشرع ما هي إلا أمارات وعلامات، “وإن سميت عللا فعلى سبيل المجاز والاتساع؛ لأنه قد ينتفي ولا ينتفي الحكم، ولا يستحيل أن يجعل ما ليس بعلة للحكم دليلا عليه، كالحدث الذي يدل على الفاعل وإن لم يكن علة لوجوده، فلا يمتنع على هذا أن يجعل الطعم علامة لتحريم التفاضل في البيع، والشدة المطربة علامة على تحريم الشراب”[56] .

– أن هذا الاعتراض يقتضي عدم ورود شرع بتعليل حكم، والحال أن القرآن والسنة مليئان بالأحكام المعللة[57].

هـ – ومما استدل به الخصم أيضا أن طريق العلم بثبوت العلة محصور في النص أو الإجماع أو قضية العقل أو القياس، “فإذا لم يكن في ثبوتها نص ولا إجماع، ولا قضية عقل، ولم يجز أن تثبت بقياس لها على علة أخرى، فإن القياس لا يثبت بالقياس لم يكن إلى العلم بمعرفتها سبيل”[58].

والجواب عند الباجي من وجوه هي:

– أن الحصر المذكور غير صحيح، لأن من العلل ما يثبت بفحوى الخطاب ومفهومه أو بضرب من الظاهر، واقتداء بفعل الرسول صلى الله عليه وسلم، أو بالتأثير والتقسيم وشهادة الأصول، فإذا انتفى دليل التعليل بطل القياس[59].

– أن مستند الخصم في إبطال القياس إما أن يكون نصا أو إجماعا أو قضية عقل أو قياس، “وقد علم أنه لا نص في ذلك ولا إجماع ولا قضية عقل، فلم يبق إلا أن تنفوه بقياس، وهذه مناقضة”[60].

-“أنه لا يمتنع أن تثبت علة القياس بضرب من القياس داخل في جملة القياس، كما نعلم أننا نعلم صحة النظر بضرب من النظر داخل في جملة النظر”[61].

و- ومن مستندات الخصم أيضا أن القياس مبناه على اعتبار التماثل في التسوية، والاختلاف في التفريق، ومعلوم أن الشرع قد سوى بين ما شأنه الاختلاف، وفرق بين ما شأنه الاتفاق من المعاني والأحكام، الشيء الذي يوذن ببطلان الأساس الذي يقوم عليه القياس[62].

أما الباجي فيقرر في رده لهذا الاعتراض أن الأحكام الشرعية منها ما هو معلل ومنها ما هو غير معلل، كما أن العلل الشرعية هي علامات للأحكام بمقتضى التوقيف والمواضعة، فهي “مبنية على ما يدل عليه الدليل الشرعي”[63]، ولا مدخل لاعتبارات العقول فيها. وبناء عليه يتبين “أن علل القياس علل شرعية مبنية على ما بنيت عليه أصول الشريعة، ودلت عليه النصوص، فإذا دلت النصوص على هذه الأحكام المختلفة والمتفقة على ما تقرر في الشرع، صار ذلك أصلا في الشرع، فما وفق بينه الشرع صار متفقا وإن كان في غير الشرع مختلفا، وما خالف بين أحكامه الشرع كان مختلفا وإن كان في الأصل متفقا، ثم يرد القياس بعد ذلك في المسكوت عنه على المنطوق به على ما قرره الشرع”[64].

ز- ويرى هذا المذهب أخيرا أن القول بالقياس يلزم عنه التناقض، ويفضي إلى التكليف بما ليس في طاقة المكلف ووسعه، وبيان ذلك أن الفرع قد يتردد بين أصلين: محلل ومحرم، والمشابهة تقتضي إلحاقه بهما مما يلزم عنه أن يتوارد عليه التحريم والتحليل في آن واحد، وهذه دعوى – كما يقول الباجي – تحتاج إلى دليل، ولابد عندنا من ترجيحه لأحد الشبهين على الآخر، لأن الله لم يجعل شبها إلا في أصل واحد بإلحاقه به، ومتى  لم يجد المجتهد ترجيحا لأحد الأصلين على الآخر علم تقصيره وخطأه. هذا قول جماعة من شيوخنا، وبه قال أبو إسحاق وابن القصار فلا يصح ما قالوه، ومن شيوخنا من قال: إذا استويا في شبه الأصلين، كان المجتهد مخيرا بينهما، ومنهم من قال: يغلب الحظر على الإباحة، وبه قال الشيخ أبو بكر الأبهري، ومنهم من قال: تغلب الإباحة على الحظر، وبه قال أبو الفرج المالكي، فلا يلزم ما ذكروه على شيء من هذه الأقاويل[65].

وحاصل القول في هذا المقام أن تقويم الباجي لاعتراضات أهل الاعتزال ومن وافقهم من أهل التشيع يتسم بالأوصاف الثلاثة الآتية:

– ربط دعاويهم بالصريح من مبادئهم الفاسدة، كالقول بمبدأ الصلاح والأصلح.

– ربط دعاويهم بالمضمر من مبادئهم الفاسدة ونقصد بذلك الاستظهار بالعقل على الشرع، وهذا الأصل كما هو معلوم في غاية الفساد وإن كان الباجي لم يذكره صراحة، إلا أن تحليلاته تنبئ عن ذلك.

– توظيف مختلف آليات الاعتراض الممكنة والمتاحة في علم المناظرة كآلية القلب مثلا.

2- تقويم مذهب الإبطال في صورته الظاهرية:

خص الباجي أهل الظاهر بالتقويم والنقد، واتخذت ردوده سمة الإحكام المنطقي وتوظيف سائر آليات الاعتراض المسموع والمشروع، مع مجانبة الاعتساف في التأويل، والتزام كامل بآداب المناظرة، ويمكن إجمال نقوض الباجي للدعاوى الظاهرية في الصور التالية:

أ‌-  رد دعوى الاستيعاب النصي والقول بمقابلها وهو الشمول المعنوي:

فليس المراد بالآيتين “ما فرطنا في الكتاب من شيء” و “تبيانا لكل شيء” “أنه بين جميع الأحكام بنص الكتاب، وإنما أراد أنه نص على بعضها، وأحال على سائر الأصول من السنة والإجماع والقياس واستصحاب الحال”[66]، مع العلم أن دعوى الاستيعاب النصي تقتضي أن لا يكون هناك اختلاف، والحال أن اختلاف الصحابة ومن بعدهم من العلماء أمر لا يمكن إنكاره ولا يمكن النكير به عليهم[67]، فتعين “أنه أراد بذلك حكمه علينا بطلب ما نص عليه، وماله تأثير في الحكم ونسب ذلك إلى الكتاب لما تضمن الأمر به، كما أنه لما أمرنا باتباع الرسول، وامتثال أمره، وامتثال ما أجمعت عليه الأمة، والمصير إلى تقويم المقومين المتلفات، والعيب، والأرش واجتهاد الحكم في جزاء الصيد، واجتهاد الحكام في نفقات الزوجات، ومتعة المطلقات، وأمثال ذلك مما أمرنا فيه باتباع رسوله، والأخذ بقول أمته، والرجوع إلى اجتهاد الحكام والمقومين، كان ذلك كله مما بينه في الكتاب، ولم يفرط فيه، وأن لم ينص عليه بنص الكتاب، وكذلك القياس والإجتهاد في الأحكام لما كان قد أمر به، وجب أن يكون مما بينه في الكتاب (…)، ولو لم يحكم بصحة القياس، لكنا قد نسبنا إلى الباري التفريط في الكتاب لأحكام كثيرة لا ذكر لها في الكتاب ولا في السنة ولا في إجماع الأمة”[68].

ب- إبطال توسيع مدى الأخذ بالإباحة الأصلية فيما سكت عنه الشارع:

وواضح أن هذا التوسيع لزم عن الدعوى الأولى، وما لزم عن الباطل فهو باطل، ثم إن النافي للقياس إما أن يحكم في المعفو عنه أو المسكوت عنه بهواه وشهوته، أو لا يحكم فيه بشيء، فإن كان الأول فقد أربى على الحال التي عابها على القائس؛ “لأن القائس لا يحكم بالقياس إذا ورد النص، فإذا عدمه لم يحكم عند عدمه إلا بما يوجبه الدليل والاعتبار، لا بما يوجبه الهوى والشهوة، فلا يجوز لمن هذا حاله أن يعيب القياس عند عدم النص”[69]، وإن كان الثاني وهو عدم الحكم فيه بشيء فإنه مفض إلى إبطال الأحكام، واقتناص المصالح على غير السواء والاستقامة، بل على سبيل الفوضى والتهارج، وهذا في غاية البطلان[70].

ج- توظيف آلية القلب:

وذلك بجعل أدلة الخصم دالة على نقيض دعواه فضلا عن إبطال تأويلاته للنصوص، وذلك باستحضار السياقات القريبة والبعيدة، والتي بدونها يتم الاعتساف في التأويل والانحراف في الفهم، يقول الباجي: “استدلوا بقوله تعالى “إن الظن لا يغني من الحق شيئا[71]، وقوله تعالى: “إن نظن إلا ظنا[72]، وقوله :”إن بعض الظن إثم[73].

والجواب: إن حملتم هذه الآية على عمومها، فظنكم بأن القياس باطل من جملة ما حظر بها.

وجواب ثان: وهو أن المراد بالآية: ظن الكفار الذي هو من غير أمارة، وليس كذلك الحكم بالقياس، فإنه ظن يتعلق بأمارة بالحكم بشهادة الشاهدين عند ظن عدالتهما”[74]. وقال في استدلالهم بقوله تعالى: “ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام[75]: “والجواب أن هذا يلزمكم، لأنكم تحرمون القياس برأيكم، ولم يحرمه الله، وواصفون الكذب بألسنتكم في قولكم: قد حرمه الله، وإلا فاتلوا علينا قرآنا بتحريمه ولا سبيل إلى ذلك.

وجواب ثان: وهو أن هذه إنما نهي فيها عن مثل فعلكم في تحريم المعفو عنه، وتحليله بالهوى والشهوة من غير دليل، فأما القياس فإنه لا يحل ولا يحرم إلا بدليل شرعي، فليس بمفتر على الله الكذب”[76].

د – بيان تهافت مذهب الخصم عن طريق إظهار التزامه ما لا يعتقد صحته:

فالقياس عند الخصم استدلال فاسد، ومع ذلك يتوسل به في إبطال القياس، وهذا في غاية الفساد[77]. يقول الباجي: “واستدلوا أيضا بقوله تعالى: “وأن احكم بينهم بما أنزل الله[78] ، فمنع من الحكم بغير ما أنزل الله، وقوله تعالى: “أو لم يكفهم انا أنزلنا عليكم الكتاب يتلى عليهم[79]. والجواب أن يقال لهم: فأنتم قد حكمتم في القياس بغير ما أنزل الله، وإلا فاذكروا لنا فيه ما أنزل الله من النص بتحريمه. وجواب آخر: وهو أن هذا الأمر إنما توجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلم  قستم الحاكم من أمته عليه، مع منعكم من القياس”[80].

هـ – توجيه ما تعلق به الخصم من جهة الآثار:

وقد اتخذ هذا التوجيه صورتين:

– صورة التوهين وذلك عن طريق تطريق الضعف إليها وبيان مرجوحيتها وجعل ما صح منها دالا على عكس مدعى الخصم، وذلك “أن أكثر هذه الأخبار لا يصح الاحتجاج بها فيما طريقه العمل، فكيف فيما طريقه العلم واليقين؟ ولا يصح أن يعارض بها الأخبار التي رويناها والتي أكثرها مما اتفق الإمامان على تخريجه في الصحيح، إلا خبر عبد الله بن عمر: “إن الله لا يقبض العلم انتزاعا”[81]، وحديث عوف بن مالك[82]، وهذا قد بين فيه النبي صلى الله عليه وسلم المعنى الذي منع منه، وهو أن يسأل الجاهل، فيفتي بغير علم، أن يتخذ حاكما، أو مفتيا، وهذه أشبه بحال من نفى القياس، لأنهم حدثوا بعد الصدر الأول، وبعد القرون التي أثنى النبي صلى الله عليه وسلم على أهلها، وبعد أن ذهب أكثر العلماء من الصحابة والتابعين القائلين بالقياس، ولذلك أول من قال به من المبتدعة بعد أن أفنيت الصحابة رضي الله عنهم “الخوارج” والنظام، وتبعه على ذلك داود بن علي”[83].

– صورة الجمع والتوفيق على فرض صحتها: “وذلك أن تحمل أخبارنا على تصحيح القياس الصحيح، وتحمل أخبارهم على إبطال القياس الفاسد، والقول بالرأي فيما فيه نص يخالفه”[84].

و- بيان كون الأحكام منوطة بالمعاني والعلل دون الأسماء[85]، وكون التعليل أمرا قصديا أي منوطا بقصد المتكلم وعرفه في التخاطب، فلو قال القائل لوكيله: اعتق سالما لسواده، “ثم قال: اعتبر هذا المعنى في عبيدي، وقس عليه، لوجب على الوكيل أن يعتق كل عبد أسود له، وهذا قول أبي بكر الصيرفي، وقد قال جمهور القائسين: إنه إن علم عند هذا القائل به قصده إلى عتق السودان من عبيده عتقوا عليه، وإن لم يذكرهم بلفظه، وإن لم يعلم ذلك من قصده، اقتصر على الذي نص على عتقه، وهذا جار على مذهب مالك رحمه الله”[86].

هذا باختصار أهم ما أجاب به الباجي عن اعتراضات أهل الظاهر، فماذا عن أدلته المسوقة لإثبات القياس.

3- أدلة الباجي على مشروعية القياس:

استند الباجي إلى جملة من الأدلة سواء من الكتاب أو السنة أو الإجماع، وهو في تدليلاته ما فتئ يورد الاعتراضات الممكنة عليها، ويقوم بدفعها حتى تكون حججه أدلة محكمة ومكينة، ومجمل هذه الأدلة كالتالي:

أ- آية الاعتبار وهي قوله تعالى : “فاعتبروا يا أولي الأبصار”، “والاعتبار عند أهل اللغة هو تمثيل الشيء بغيره، وإجراء حكمه عليه ومساواته به، وقد روي عن ثعلب أنه فسر قوله تعالى: “فاعتبروا يا أولي الأبصار” بأن المراد به القياس، وأن الاعتبار هو القياس، وهو ممن يعول على قوله في اللغة والنقل عن العرب، وإنما سمي الإتعاط والفكر والرؤية اعتبارا، لأنه مقصود به التسوية بين الأمر وبين مثله، والحكم في أحد المثلين بحكم الآخر، وبهذا يحصل الانزجار والاتعاط إذا علم نزول العذاب على مثل ذلك الذنب خافوا عند مواقعته من نزول العذاب، فكأنه قال في هذه الآية: اعلموا أنكم إذا صرتم إلى الخلاف والشقاق، صارت حالكم حال بني النضير، واستحققتم من العذاب مثل الذي استحقوه، إلا أن اللفظ ورد عاما في الاعتبار، فوجب حمله على عمومه في الأمر بكل اعتبار إلا ما خصه الدليل، وإن كان السبب الذي ورد فيه من الإخبار عن بني النضير خاصا”[87].

 وتعتبر هذه الآية الدليل المحوري عند الباجي –والجمهور كذلك- ووفاء منه لمنطق المناظرة، فقد استوقفته مجموعة من الاعتراضات المحتملة  أقواها في نظره ذلك الاعتراض الذي لا يرى “معنى الاعتبار إلا الفكر والرؤية، وليس هو في معنى حمل الأرز على البر في شيء”[88]، وتأتي إجابة الباجي مقررة “أن أصل الاعتبار ما ذكرناه، وإنما سمي التفكر والرؤية اعتبارا، لأنه لابد أن يطلب به علما ما، والوصول إلى معرفة حكم من الأحكام الدينية والدنيوية، وذلك لا يحصل إلا على الوجه الذي ذكرناه، ولذلك قال تعالى: “وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون”[89]، ولو لم تعد الفكرة والرؤية في النصوص والعلوم الضرورية، علم ما لم ينص على حكمه اعتبارا بما نص على حكمه، وما نحن مضطرون إليه لسقطت الفكرة والرؤية، ولم يكن في استعمالها وجه مقصود، فثبت بذلك أن أصل الاعتبار إنما هو مأخوذ من مقايسة أحد الشيئين بالآخر، والحكم له بمثل حكمه”[90].

 ويتأيد حمل الاعتبار على معنى المقايسة ب”قول زيد بن ثابت في مناظرته عمر في الجد والإخوة: ضربت له الأمثال، وجعلت أعتبره، ويأبى أن يمثل، ومنه سمي المكيال والمثال مقياسا، للاعتبار بهما، ويقولون: عبرت الدراهم إذا قابلتها بقدر من الأوزان، وعبرت الرؤيا حكمت لها بحكم مثلها، وعبرت عن كلام فلان إذا أتيت من الألفاظ بما يماثل معنى قوله ويشاكله، وهذا أكثر من أن يحصى وأشهر من أن يخفى”[91].

ب- كون القياس آلية استدلالية شرعية، حيث وظفها الشارع في إثبات جملة من المطالب والحقائق، ولا يتصور استدلال الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم بالباطل، ومثال ذلك من الكتاب قوله تعالى: “وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة[92]، “فمثل النشأة الثانية بالأولى، وحكم لها بحكمها”[93] . ومن السنة قوله عليه السلام لعمر حين سأله عن القبلة في حال الصيام: “أرأيت إن تمضمضت هل كان عليك من جناح؟ قال لا. قال ففيم إذن”[94]، فقد قاس النبي صلى الله عليه وسلم القبلة على المضمضة في عدم إفساد الصوم بجامع كونهما سببا “فيما لو وقع لوقع به الإفطار، وهما الشرب والإنزال”[95].

ج- تنبيه الشارع على لزوم اعتبار العلل وتطلب معاني الأحكام، ومثاله قوله صلى الله عليه وسلم وقد سئل عن جواز بيع الرطب بالتمر: “أينقص الرطب إذا جف؟ قالوا نعم، قال فلا إذن”[96] . قال الباجي: “فعرفهم علة منع بيعه، ونبههم على استنباط العلل، ولا يجوز أن يخفى عليه صلى الله عليه وسلم أن الرطب إذا جف نقص، وإنما أراد بذلك تعليمهم الاستنباط وإجراء الأحكام على الأشباه والأمثال، وذلك أنه لما نهى عن بيع التمر بالتمر متفاضلا، ثم كان الرطب مما ينقص إذا جف، أعلمهم بذلك أن معنى نهيه عن بيع التمر بالتمر متفاضلا موجود في بيع الرطب بالتمر وإن لم يتناوله لفظ النهي، وهذا من أدق القياس وأحسن الاستنباط”[97].

د- تظاهر الروايات والأخبار[98] إلى درجة التواتر المعنوي على “وجه يقطع به على الرسول صلى الله عليه وسلم بالحكم بالرأي والاجتهاد والقياس، وتنبيه أصحابه عليه وأمرهم به وإقرارهم على فعله، هذا في زمنه مع وجوده، ونزول الوحي وتتابعه، فكيف به اليوم مع انختام الوحي، وانقطاع ثبوت الأحكام مع ما يطرأ للناس ويحدث مما لم يتقدم فيه حادثة؟ “[99].

هـ – إجماع الصحابة على القول بالقياس، والإفتاء بالرأي عند غياب النصوص، وقد سلك الباجي في بيان هذا الإجماع طريقين:

1- طريق التقسيم والحذف، ومقتضاه أن اختلاف الصحابة ومناظراتهم فيما بينهم في جملة من القضايا الاجتهادية أمر معلوم ولا سبيل إلى إنكاره، بحيث كان الغالب على أحوالهم التمسك بالأشباه والنظائر والأمثال[100]. وإذا كان الأمر كذلك فلا يخلو اختلافهم من ثلاثة أوجه:

“إما أن يكون على هذه الأحكام نص لا يحتمل التأويل، أو ظاهر يحتمل التأويل، أولا يكون فيها نص جملة؟، ويستحيل أن يكون  فيها نص، فيذهب على جميعهم، لأن ذلك يكون إجماعا منهم على الخطأ، وأيضا: فلو كان فيه نص لا يحتمل التأويل، لوجب أن ينقل إلينا إذا لم يحصل الإجماع على موجبه، لأن العادة مستقرة بتوافر الهمم على نقل ما هذا حكمه، ولو جوزنا أن يكون فيه نص، ولا ينقل مع وجود الاختلاف لجوزنا أيضا أن تكون هاهنا شرائع وأحكام وصلوات قد نص عليها صاحب الشريعة، وقرآن كثير قد أنزل، وإن لم يبلغنا شيء من ذلك، وفي هذا إبطال الشريعة، وأيضا، فلو جوزنا على الصحابة مخالفة النصوص مع علمها بها، لكان ذلك قدحا في أديانها ووصفا لها بغير ما وصفها الله به من أنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويستحيل أيضا أن يكون فيه دليل من الظاهر يحتمل التأويل، لأنه لو كان كذلك لوجب في مستقر العادة أن ينزع كل من خولف في ذلك إلى ذلك الظاهر، ويأخذ به، أو بعضهم، لأن المستدل والمحتج إنما يحتج بما ثبت عنده به الحكم ولا يعدل عنه عند المناظرة، وقصد إثبات الحق، وإظهاره إلى ما ليس عنده ولا عند خصمه بدليل، فلما رأينا كل من احتج منهم في شيء من ذلك على خصمه ومخالفه، إنما احتج بالرأي والقياس، علمنا أنهم أجمعوا على صحة القياس”[101].

2- إيراد نماذج من القضايا الإجماعية، كان مستند الصحابة فيها الرأي والقياس، كالإجماع على خلافة أبي بكر رضي الله عنه[102].

وإذ عرفنا أدلة المانع ووجوه اعتراضاته، وحصلنا حجج المثبت ومسالكه في الإدعاء والاعتراض فيما يخص مسألة حجية القياس، وذلك على سبيل الاقتضاب والتلخيص، نرى –إكمالا للفائدة- تحرير بعض الملاحظات العامة تزيد الأمر إيضاحا:

× الملاحظة الأولى:

إذا كان القياس استدلالا فطريا يلازم الإنسان وبه يتحقق نشاطه العقلي، إذ الشيء يدرك أبدا بما يقابله فإن ماثله أخذ حكمه، وإن باينه فارقه في الحكم، فإننا نرى في مذهب الإبطال منافرة للطبع ومناكرة للفطرة، ولا أدل على ذلك من أن الخصم وهو يورد اعتراضاته ويحرر حججه ما فتئ يلجأ إلى مسالك استدلالية آيلة عند التحقيق والنظر إلى القياس، كالتشبيهات والاستعارات والمجازات، ولم يستطع الإفلات من قبضة التوجيه  القياسي، ولا تحققت له العصمة من حق أبى إلا أن يراه باطلا، والحق أن كل متوسل بالخطاب الطبيعي –والخطاب الشرعي متنزل على مقتضاه- لا يبتغي بمسلك القياس بديلا، حيث يظل أبرز الاستدلالات الحجاجية وضوحا وقربا من عقل المستدل وقلبه، لأن الفطرة تقتضيه والطبع السليم يستسيغه، ولقوة وضوحه وشدة قربه فهو يبقى في غنى عن الإثبات، لأن بيان الواضحات من أقبح المتكلفات، ودعك من إبطال لا يشهد على صاحبه إلا بعمى البصيرة عن الاستبصار وغفلة القلب عن الاستحضار وقصورالعقل عن الاستذكار، وإنما هي الأهواء تنطمس بها البصائر وتنحجب بها عن درك الحقائق.

× الملاحظة الثانية:

وإذا كان القياس مستندا إلى الفطرة والطبع، فهو أيضا مؤيد بالشرع، إذ كان ضرب الأمثال وسيلة الشارع الحكيم في التوجيه والتبليغ والتدليل، وهذا لعمري يعد أرقى وجوه الإبانة عن المقاصد والأغراض وأقوى مراتب الأدلة على شرعية القياس إن كان الأمر يحتاج أصلا إلى إثبات أو تدليل، وعليه فاستعمال الشارع لهذا المسلك الاستدلالي يعتبر أسطع البراهين وأدل الدلائل على التمكين الاستدلالي للقياس، إذ هو فطرة الله التي فطر الناس عليها، ذلك المسلك القويم. وإذا توضحت هذه المسألة، فإن اعتبار القياس استدلالا بدعيا كما سولت للمعترض نفسه، دعوى عريضة  عرية عن البرهان، ومناقضة لفحوى السنة وصريح القرآن، وصاحبها ملبس عليه بالهوى والشيطان.

×الملاحظة الثالثة:

إن ابن حزم رحمه الله حينما قدح في القياس وشنع على أهله كانت له أسباب في هذا القدح، ودواع إلى هذا التشنيع لعل أبرزها في ظننا هو الافتتان بالنموذج المنطقي الأرسطي، والإعجاب بالجانب البرهاني من هذا النموذج، فقد أكد أبو محمد على المنفعة الشمولية لتعاليم المنطق في سائر العلوم والمعارف، ومن بينها المعرفة الشرعية، بل ذهب بعيدا في المسألة حينما ادعى أن “من لم يفهم هذا القدر، فقد بعد عن الفهم عن ربه تعالى وعن النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يجز له أن يفتي بين اثنين”[103]. وعبارة ابن حزم نجدها محررة كاملة في كتابه التقريب، وهذا نصها: “وليعلم من قرأ كتابنا هذا أن منفعة هذه الكتب ليست في علم واحد فقط، بل في كل علم، فمنفعتها في كتاب الله عز وجل، وحديث نبيه صلى الله عليه وسلم، وفي الفتيا في الحلال والحرام والواجب والمباح من أعظم منفعة، وجملة ذلك في فهم الأسماء التي نص الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم عليها وما تحتوي عليه من المعاني التي تقع عليها الأحكام وما يخرج عنها من المسميات وانقسامها تحت الأحكام على حسب ذلك والألفاظ التي تختلف عبارتها وتتفق معانيها، وليعلم العالمون أن من لم يفهم هذا القدر فقد بعد عن الفهم عن ربه تعالى وعن النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يجز له أن يفتي بين اثنين لجهله بحدود الكلام، وبناء بعضه على بعض، وتقديم المقدمات وإنتاجها النتائج التي يقوم بها البرهان وتصدق أبدا، ويميزها من المقدمات التي تصدق مرة وتكذب أخرى ولا ينبغي أن يعتبر بها”[104].

وموقف ابن حزم هذا يجعلنا نستحضر موقف الغزالي الداعي إلى تبني مبادئ المنطق الأرسطي، حيث لم ير اليقين إلا في أقيسة المناطقة، بل جـرد غير المعني بها من الثقة بعلومه، لكن مع ذلك لم يطرح قياس الفقهاء جملة، بل اكتفى بالحكم عليه بالظن والافتقار إلى اليقين، اليقين الذي لم يره إلا في قانون أرسطو و لا في شيء سواه. أما ابن حزم فقد كان أكثر حزما من الغزالي حين لم ير الكفاية في التضعيف أو الإقرار الجزئي بفائدة القياس الفقهي، بل آثر النقض الكلي لهذا الأصل، واستهواه الإبطال الجملي والمفصل لهذا المسلك، وما ذلك إلا لشدة الفتنة التي دخلت على قلبه لما لاحت له الصحة الصورية للنظرية القياسية الأرسطية على فقرها وقصورها، وأنسته  غنى مسالك أهل القياس وفساحة آفاقها، مسالك تستيقنها كل بصيرة تتأيد بتوجيه التنزيل، وتحتمي بنوره من زيف التعطيل والتبطيل. يقول إمام الحرمين: “كان يستقيم ما ذكروه، لو دعونا إلى اليقين وزيفوا بسببه طرق الظنون، فأما وهم بعد رد القياس لا يرجعون إلى يقين ومعقل في الدين حصين، وغايتهم التعطيل والتبطيل، والانسلال عن ربقة التكليف، والانحلال عن ربط التصديق، وترك الناس سدى يموج بعضهم في بعض على موعد وخبر، وقول مزخرف، وإمام منتظر، فلا يدعو إلى الخروج من محاسن الشريعة إلى هذه المسالك إلا هازئ بنفسه مستهين بدينه”[105].

ثـانيا- أهمـية القـياس

1- أهمية القياس المعرفية:

إن التأكيد على اعتبار القياس أداة فعالة في تحصيل المعرفة وتبليغها غدا حقيقة علمية لا ينكرها إلا من فاته درك الحقائق المتعلقة بالتخاطب والاستدلال والممارسة المعرفية على وجه العموم. ولقد تضافرت لإظهار هذه الحقيقة العلمية جهود النظار قديما وحديثا، إلا أن التنظير الإسلامي القديم ممثلا على الخصوص في علم أصول الفقه تفرد دون سائر التنظيرات بالدراسة المستفيضة والمفصلة لبنية الإستدلال القياسي، حيث تأدت بهم تنظيراتهم أي الأصوليون إلى ضرورة الأخذ بالقياس لتحصيل المعرفة وتبليغها، كما أسندوا له وظيفة إجرائية  لتحليل الخطاب شرعيا كان أم غير شرعي. ومن الشواهد الدالة على ذلك قول شيخ الإسلام ابن تيمية: “فإن القياس يستدل به في العقليات كما يستدل به في الشرعيات، فإذا ثبت أن الوصف المشترك مستلزم الحكم كان هذا دليلا في جميع العلوم، وكذلك إذا ثبت أنه ليس بين الفرع والأصل فرق مؤثر كان هذا دليلا في جميع العلوم”[106]، ولم يقف ابن تيمية عند هذا الحد بل ذهب إلى أبعد من ذلك حين أكد  على فائدة القياس في تحصيل الحدود الصحيحة متجاوزا بذلك قوانين التحديد الأرسطية، فليس المقصود من الحد هو الوقوف على كنه المحدود أو ماهيته وإنما هو محاولة تمييزه عما سواه بتعداد أوصافه، “فإنه لابد أن يذكر من الصفات ما يميز الموصوف والمحدود عن غيره، بحيث يجمع أفراده وأجزاءه، ويمنع أن يدخل فيه ما ليس منه، وهو في الحقيقة تعريف بالقياس والتمثيل، إذ الشيء لا يتصور إلا بنفسه أو بنظيره”[107].

أما النظار المعاصرون فلم تزد دراساتهم –على اختلاف منطلقاتها وخلفياتها الابستمولوجية- إلا ترسيخا وتدعيما لما انتهى إليه الأصوليون المسلمون في هذا المجال، فمثلا ذهب “ش برلمان” وهو من رواد منطق الحجاج إلى التأكيد على الأساس التمثيلي الذي تقوم عليه الممارسة العلمية والشعرية والفلسفية، يقول: ” إن كان الأسلوب العلمي لا يعتمد الاستعارات إلا نادرا، فإن العالم بالعكس من ذلك وخصوصا في بداية تناوله لمبحث جديد، لا يتردد في الاستسلام لتوجيه التمثيلات، وتقوم هذه التمثيلات أساسا –باعتبارها وسيلة إبداع- بدور كشفي يمد الباحث بالفرضيات التي ستوجه أبحاثه”[108]. ويقول في موضع آخر من مقالته الهامة: “كل تفكير فلسفي حتى وإن كان بدرجة عقلانية تفكير ديكارت لا يمكنه الاستغناء عن التمثيل. إن التمثيل بالنسبة للفيلسوف ليس مجرد ترويح عن النفس ولا مجرد معين للفكر الذي يبحث عن نفسه، يمكن للفيلسوف مثل العالم أن يستغني عنه حين يحصل على النتيجة التي كان يتوخاها، انه بالعكس من ذلك، ما به يصور الفيلسوف حجاجه وإليه ينتهي في استدلاله”[109].

واستنادا إلى هذه الحقائق مجتمعة، يرى برلمان أنه بالإمكان “تجديد كتابة تاريخ الفلسفة كله بالتركيز لا على بنية الأنساق ولكن على التمثيلات التي توجه تفكير الفلاسفة (…) خصوصا وأنه يوجد جهاز تمثيلي واحد ينتشر عبر القرون يوظفه كل فيلسوف بطريقته الخاصة”[110].

هذا في مجال العلوم الإنسانية، أما في ما يخص العلوم الحقة (Sciences exactes)  فإننا نجد باحثا مختصا  يدعى “ماريو بونخي” يحدد مزايا الاستدلال القياسي في بناء المعرفة الفيزيائية وخاصة في مراحلها الأولى، حيث قال: “إن الاستدلال بالمشابهة ذائع بقدر ما هو خطير، ويستعمل أساسا:

-كوسيلة استكشافية: حيث يمكن من التصنيف والتعميم ومن اكتشاف قوانين أو بناء نظريات جديدة كما يمكن من تأويل صيغ جديدة.

-كأداة حسابية: إذ بعض المشاكل الحسابية يمكن أن تجد حلا بالاعتماد على نماذج (مشابهة) مثل النماذج الكهربائية للمجموعات الميكانيكية.

-كمنهج تجريبي: وذلك أن استعمال التصاميم ( أو النسخ) يسهل بعض المراقبة التقنية”[111].

وقال أيضا: “لاشك أن الاستدلال بالمشابهة يمكن أن يظهر بعض الخصوبة في المراحل الأولى للبحث في مجال علمي جديد من حيث أنه يوحي بأن الجديد المجهول لا يخالف دائما كل المخالفة المعلوم القديم”[112].

2- أهمية القياس التشريعية:

لما كان الشرع الإسلامي يشكل نسقا محصورا، بمعنى أنه يحدد لكل فعل جهة شرعية محددة، ولما كانت الأفعال الإنسانية متجددة وغير محصورة، كان من اللازم إيجاد قواعد وطرق استدلالية تتيح إغناء النسق الشرعي وتوليد أحكام جديدة لما سكت عنه النص.

ومن المعلوم أن الممارسة الفقهية عمل عقلي استدلالي، ينشد إسناد قيم شرعية جديدة للنوازل الطارئة التي تعتبر مبدئيا مشمولة بروح النص ومعقوله، ووسيلة الفقيه لتأكيد هذا الشمول عمليا تتمثل في جملة من الوسائط الاستدلالية أبرزها الاستدلال القياسي. ومن هنا يكون القياس الأصولي “عملا فكريا اجتهاديا تحليليا مظهرا لمقتضى هذا الواقع الثابت، ومن هنا قرر الأصوليون أن القياس مظهر للحكم لا مثبت”[113].

ولقد تفطن علماء الإسلام إلى الأهمية التشريعية التي يضطلع بها القياس، كما أدركوا الوظيفة التوليدية أو التوسيعية التي يتميز بها هذا المسلك الاستدلالي، فالقياس –حسب الشاطبي- “لا معنى له إلا جعل الخاص الصيغة عام الصيغة في المعنى”[114]. من هذا المنظور يرى ابن جزي أن القياس “أكمل الرأي ومجال الإجتهاد وبه تثبت أكثر الأحكام، فإن نصوص الكتاب والسنة محصورة ومواضع الإجماع معدودة، والوقائع غير محصورة”[115].

وقال العلامة محمد بن حسين المكي المالكي: “القياس حجة فيما سكت عنه الشارع من الأحكام (…)، ويشهد لثبوته دليل العقل، وهو أن الوقائع بين أشخاص الأناسي غير متناهية، والنصوص والأفعال والإقرارات متناهية، ومحال أن يقابل ما لا يتناهى لما يتناهى”[116]. والأمر نفسه يؤكـده صاحب نشر البنود بقـوله: “قـال الفهري من أهم أصول الفقه إذ هو أصل الرأي وينبوع الفقه، ومنه تتشعب الفروع وعلم الخلاف، وبه تعلم الأحكام والوقائع التي لا نهاية لها، فإن اعتقاد المحققين أنه لا تخلو واقعة من حكم ومواقع النصوص والإجماع محصورة”[117].

ويقول الدكتور محمد رياض مبرزا فائدة القياس التشريعية وأهميته الاستدلالية بأوضح عبارة وأجلى بيان: “للقياس أهمية كبرى، لأن به يمكن حل المشاكل الطارئة والوقائع التي لا نص فيها، إذ هو الأصل الذي تتحرك النصوص والنوازل داخل دائرته دفعة واحدة، كما انه الأصل الذي اجتمع فيه النقل والعقل، وكيفية الاستنباط في صعيد واحد، محققا بذلك دعوة القرآن إلى التدبر والنظر والاستبصار”[118].

الهوامش:


[1] – شرح تنقيح الفصول، ص 385.

[2] – جامع بيان العلم وفضله، 2/87-88.

[3] – أنظر في ذلك مناظرات في أصول الشريعة الإسلامية بين ابن حزم والباجي، عبد المجيد تركى، ص 54 وما يليها، ط 1، 1986، دار الغرب الإسلامي، بيروت، ترجمة وتعليق الدكتور عبد الصبور شاهين ومراجعة محمد عبد الحليم محمود.

[4] ـ الإحكام في أصول الأحكام، 8/2.

[5] ـ الإحكام ، 7/56.

[6] – الحشر، الآية 2.

[7] – يوسف، الآية: 111.

[8] – الإحكام، 7/74-75.

[9] – نفسه، 7/76-77.

[10] – يوسف، الآية 43.

[11] – الإحكام، 7/79.

[12] – الإحكام، 7/79.

[13] – الإحكام ، 7/112.

[14] – نفسه، 6/35.

[15] – نفسه، 7/112.

[16] – نفسه، 7/113.

[17] – نفسه، 7/114.

[18] – الإحكام، 7/116.

[19] – نفسه، 7/177.

[20] – أنظر الإحكام، 8/48 وما يليها.

[21] – الإحكام، 8/74.

[22] – وصف ابن حزم مسألة التعليل بالقضية الملعونة، الإحكام، 8/122.

[23] – الإحكام، 8/132.

[24] – المائدة، الآية 3.

[25] – النحل، الآية 44.

[26] – متفق عليه.

[27] – الانعام، الآية 38.

[28] – مريم، الآية 64.

[29] – النبذة الكافية، ص 75، ط 1، 1412هـ – 1991م، دار الكتاب المصري، القاهرة، دار الكتاب اللبناني، بيروت.

[30] – أنظر النبذة، ص 15 والإحكام، 8/3 وكذلك 8/ 37-38.

[31] – الإحكام، 8/13.

[32] – الإحكام، 8/13.

[33] – الانعام، الآية 119.

[34] – الإحكام، 8/13-14.

[35] – اخرجه أبو داود وابن ماجة واحمد عن الأقرع بن حابس رضي الله عنه.

[36] – المحلى، 1/64، منشورات المكتب التجاري للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت.

[37] – الإحكام، 8/17.

[38] – النحل، الآية 74.

[39] – الإحكام، 8/20.

[40] – نفسه، 8/25.

[41] – الإحكام ، 8/26.

[42] – نفسه، 8/32.

[43] – نفسه، 8/38.

(44) إحكام الفصول، ص 460.

[45] – إحكام الفصول، ص 461.

[46] – نفسه، ص 461.

[47] – نفسه، ص 461.

[48] – إحكام الفصول، ص 462.

[49] ـ إحكام الفصول ، ص 463.

[50] ـ نفسه، ص 463.

[51] ـ نفسه، ص 464.

[52] ـ إحكام الفصول، ص 467.

[53] ـ نفسه، ص 467.

[54]–  إحكام الفصول ، ص 464.

[55] – إحكام الفصول ، ص 464.

[56] – إحكام الفصول ، ص 465.

[57] – إحكام الفصول، ص 465.

[58] – إحكام الفصول، ص 468.

[59] – نفسه، ص 469.

[60] – نفسه، ص 469.

[61] – نفسه، ص 469.

[62] – نفسه، ص 470.

[63] – نفسه، ص 470.

[64] – نفسه، ص 470-471.

[65] – نفسه، ص 471.

[66] – إحكام الفصول، ص 526.

[67] – نفسه، ص 539.

[68] – إحكام الفصول، ص 490.

[69] – نفسه، ص 491.

[70] – نفسه، ص 492.

[71] – النجم، الآية 28.

[72] – الحجرات، الآية 12.

[73] – الجاثية، الآية 32.

[74] – إحكام الفصول، ص 529.

[75] – النحل، الآية 116.

[76] – إحكام الفصول، ص 529-530.

[77] – يقول الباجي: “والقياس إذا قصد به إبطال قياس كان باطلا”. إحكام الفصول، ص 540.

[78] – المائدة، الآية 29.

[79] – العنكبوت، الآية 51.

[80] – إحكام الفصول، ص 526-527. وانظر مثالا آخر، ص 528.

[81]– والحديث بكامله هو “إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من صدور الرجال ولكن يقبض العلم بقبض العلماء وإذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤوسا جهالا فأفتوا برأيهم فضلوا وأضلوا”. أخرجه مسلم وابن ماجة وأحمد والبيهقي.

[82] – المقصود به حديث ” تفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة، أضرها على أمتي قوم يقيسون الأمور بآرائهم فيحللون الحرام ويحرمون الحلال”. أخرجه أبو داود وابن ماجة وابن عبد البر.

[83] – إحكام الفصول، ص 533-534.

[84] – إحكام الفصول، ص 533-534.

[85] – نفسه، ص 544-545.

[86] – إحكام الفصول، ص 543-544.

[87] – إحكام الفصول، ص 477-478.

[88] – إحكام الفصول، ص 486-487.

[89] – العنكبوت، الآية 43.

[90] – إحكام الفصول، ص 487.

[91] – نفسه، ص 487-488.

[92] ـ يس، الآية 78-79

[93] ـ إحكام الفصول، ص 530.

[94] ـ أخرجه أبو داود والترمذي وابن عبد البر.

[95] ـ إحكام الفصول، ص 494.

[96] ـ ورد الحديث في سنن أبي داود والترمذي والنسائي.

[97] ـ إحكام الفصول، ص 495-496.

[98] ـ ومن جملة هذه الأخبار حديث معاذ المشهور الذي طعن ابن حزم في صحته وادعى فيه الوضع، والواقع كما بين ذلك الباجي أن اشتهار الحديث وتلقي الأمة له بالقبول مع انتفاء المعارض “أغنى ذلك عن ذكر إسناده، ولم يقدح في صحته جهل الرواة له، كما لا يطلب في جواز المسح على الخفين إسناد”، إحكام الفصول، ص 502. وانظر الطرق التي اخرج بها الحديث في جامع بيان العلم لابن عبد البر، 2/69-70.

[99] ـ إحكام الفصول، ص 501.

[100] – إحكام الفصول، ص 503-504.

[101] – نفسه، ص 504-505.

[102] – نفسه، ص 508 وما يليها.

[103] – كتاب التقريب لحد المنطق ضمن رسائل ابن حزم، 4/102، ط 1، 1983، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت.

[104] – نفسه، 4/102.

[105] – البرهان، 2/494-495.

[106] – الرد على المنطقيين، ص 118.

[107] – نفسه، ص 129.

[108] – التمثيل والإستعارة في العلم والشعر والفلسفة، ش.برلمان، تعريب حمو النقاري، مجلة المناظرة، العدد الأول، ص 127.

[109] – التمثيل والإستعارة في العلم والشعر والفلسفة، ص 129.

[110] – نفسه، ص 135.

[111] – M.BUNGE : Philosophie de la physique, p 135.

[112] – Ibid, p 136.

[113] – المناهج الأصولية، فتحي الدريني، ص 603.

[114] – الموافقات، 3/37.

[115] – تقريب الوصول، ص 134.

[116] – القواعد السنية في الأسرار الفقهية على هامش كتاب الفروق للقرافي، 1/8، دار المعرفة، بيروت، (د.ت.ط).

[117] – نشر البنود، 2/104.

[118] – أصول الفتوى والقضاء في المذهب المالكي، ص 412.

د. إدريس غازي

• خريج دار الحديث الحسنية ـ الرباط.
• دكتوراه في الدراسات الإسلامية، جامعة سيدي محمد بن عبد الله ـ فاس، في موضوع: "أصل ما جرى به العمل ونماذجه من فقه الأموال عند علماء المغرب".
• دبلوم الدراسات العليا من دار الحديث الحسنية، الرباط، في موضوع: "المنهجية الأصولية والاستدلال الحجاجي في المذهب المالكي".
من أعماله:
ـ الشاطبي بين الوعي بضيق البرهان واستشراف آفاق الحجاج.
ـ في الحاجة إلى تجديد المعرفة الأصولية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق