مركز أبي الحسن الأشعري للدراسات والبحوت العقديةدراسات عامة

الأخلاق الإسلامية: من اليقين إلى العمل (1)

الأخلاق باعتبارها أحكاما قيمية منبثقة من الوجدان الإنساني، لا ينازع في ثبوتها أحد كالحق والخير والعدل مثلا، ولا يتردد في دفع أضدادها وهي الباطل والشـر والظلم، فالإنسان في سيرورته التطورية الحضارية يظل مؤمنا بأن هذه القيم تُرغب لذاتها وليست وسيلة لغيرها، فهي الفطرة التي فطر الله الناس عليها  مع تعدد مرجعياتهم المتوارثة أو المكتسبة، إنما حين يتدخل الإنسان باختياره في كيفية إقامتها، وتقنين وعقلنة تفعيلها، وتوجيهها نحو تحقيق مصالح حضارية، هنا إذن يبرز صنف آخر للأخلاق وظيفي ومنتج وعقلاني، يعتمد على قواعد منضبطة ومنظمة هدفها الحفاظ على الجماعة ومردوديتها المادية، فهذا الصنف من الأخلاق هو أشبه بنظام اجتماعي يبتعد في جوهره عن الخصوصية الإنسانية للأخلاق باعتبارها أحكاما تنبثق عن النية والوعي والذوق…

وهكذا يظهر الفرق في المعاني الأخلاقية وإن كانت مشتركة في جنسها؛ فمثلا الإخلاص وعدم الغش والوفاء في العهود والمواعيد في المنظومة الاجتماعية ذات الغاية النفعية هي وسائل علمية منبثقة عن العقل لحسن الإدارة والتصرف، غايتها تحقيق الربح الدائم بالحفاظ على استمرار الطلب، فتنصـرف هذه القيم عن خدمة الحاجة الإنسانية إلى خدمة مصلحة النظام الجماعي الاستهلاكي التي متى فقدت فقدت هذه القيم الخادمة لها.

     فإذا أسقطنا الغاية المصلحية من تحقق الأخلاق في الواقع الإنساني فلا يبق معنى للسلوك الأخلاقي للإنسان إلا أن يستمد مرجعيته من الاعتقاد بالمطلق والخلود؛ أي الاعتقاد بالله وصفاته التي من نورها تشع هذه المبادئ، وبأن الله يعلم الكليات والجزئيات ويحصيها كلها في كتاب كل نفس، وأن هذه النفس خالدة في دار الآخرة الباقية…وهذا الاعتقاد هو في نفسه باعث على الإحسان الذي ما كان في شيء إلا زانه وما فقد من شيء إلا شانه، وعنه تنبثق القيمة الجمالية التي تتغيى خدمة الإنسان في إنسانيته.

     يمكن تقريب مفهوم الأخلاق الإسلامية باعتبارها صفات إنسانية إيجابية محكومة بقواعد الشريعة الإسلامية، تضبط سلوكيات المسلم وترقى به نحو الإيجابية في تفاعله مع دينه ومجتمعه وأسرته، وهذه الضوابط ترتضيها الجماعة المسلمة فطريا لتنشئة أبنائها عليها، إذ هي قيم تربوية تضمن بفضل غرسها نموا سويا لسلوك أبناء مؤهلين للتمييز بين الصواب والخطأ، وبين الخير والشر، وبين القبيح و الجميل … الخ، فنحن على ما ذكرنا نجعل مفهوم الأخلاق الإسلامية في إطلاقه يحمل ضمنيا دلالة تربوية.

     وعليه فإن نسبة هذه الأخلاق للإسلام نسبة أصل ومنهج؛ إذ مصدرها ومنهجها وغايتها من معين الوحي الإلهي؛  فالله سبحانه وتعالى خلق البشر وخلق فيهم طاقات إبداعية وجهها بتوجيهات قرآنية يترك تدبرها أثرا عميقا في النفس، فتصبح أكثر شفافية وأكثر إنسانية، يقول الله تعالى: ﴿إنّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهدِي لِلّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشـّرُ الْمُؤْمِنِينَ الّذِينَ يَعْمَلُونَ الصّالِحَاتِ أَنّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً﴾ [سورة الإسراء آية 9]، كما جعل تطبيقها وتفعيلها على منهج الكتاب والسنة حيث قال سبحانه: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِيَ أَدْعُو إِلَى الله عَلَى بَصِيرَة أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّه وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْـرِكِينَ﴾ [سورة يوسف آية 108]، ثم جعل غايتها تحقيق العبودية المطلقة لله والتحرر من رق المادية، يقول عز من قائل: ﴿قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ الله مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا  وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ [سورة المائدة آية 78].

      ويترتب عن كون الأخلاق الإسلامية إلهية المصدر والمنهج والغاية، اتصافها بالقداسة، التي توّلد عند الإنسان شعورا عميقا بالثقة في كمالها، ويسهل عليه ترسيخها في نفسه لوضوحها من جهة ولاستعداده الفطري إلى قبول الخلق الحسن أو القبيح من جهة ثانية، كما يسهل عليه صدور الأفعال منه من غير تكلف.

      فالخلق إذن معنى في النفس راسخ، وهو كما يعتبره الإمام الغزالي «هيئة النفس وصورتها الباطنة»[الإحياء، 3/58]، والخلق المحمود ليس فعلا أو سلوكا في نفسه، بل هو رسوخ ذلك الاستعداد الفطري بحيث يصدر عنه الأفعال الظاهرة الحسنة عقلا وشرعا بعفوية تامة وطواعية لا تكلف فيها ولا إجبار، أما تكلف ذلك فهو طريق تحصيل الخلق، فلا يزال العبد يتكلف صدوره ابتداءً حتى يصبح عادة وطبعا.[الأربعين، للغزالي، ص: 182]

     وهذا المعنى الباطني أصله الإيمان واليقين في مقاماته المتعددة؛ فمقام التوحيد يصـرف النظر عن الوسائط متى تيقن العبد أنها مسخرة من مسبب الأسباب، وأنها كالآلات لا تبعث على غضب ولا رضا، فيثمر ذلك سكينة وبراءة من الغضب والحقد والحسد وسوء الخلق..

      ومقام الثقة بما عند الله يثمر جملة من الأخلاق الحميدة، كالاقتصاد في الحرص على المطالب وتخفيف الأسف على الفوائت…

      ومقام اليقين بالثواب والعقاب ثمرته صدق المراقبة في جميع الأحوال والتحرز من السيئات…

      ومقام المراقبة يثمر مطابقة فكرة العبد الباطنة لأعماله الظاهرة، فيكون اشتغاله بتطهير باطنه وهو محل نظر الحق عز وجل أشد من تزيينه ظاهره البادي لعموم الخلق، وهذا المقام يورث في القلب الحياء من الله والصدق…

      وبذلك كله تثمر في الجوارح طاعات جليلة رفيعة هي أعمال أخلاقية ظاهرة…[الإحياء، 1/90]

والعمل الأخلاقي الظاهر لا يستمد قيمته من نتائجه في الواقع، ولكن قيمته الحقيقية تكمن في صفاء مصدره القلبي ومدى استعداده لرسوخ الحسن فيه، وعن ذلك يقول الغزالي: «فلا تنظر إلى الفعل بل إلى هيئة الراسخة التي تصدر منها الأفعال بيسـر من غير تكلف»[الأربعين، للغزالي، ص: 182]… و ليس المقصود هو بلوغ الكمالات في ذلك وإنما القصد إلى تحقق جوهر الخلق الحسن الخالد الأبدي، وبدرجات الحسن في الصورة الباطنة تتفاوت درجات السعادة في الآخرة…

فإذا علمنا أن الأعمال الأخلاقية المحمودة الظاهرة هي ثمار أغصان الأخلاق القلبية المتفرعة من شجرة الإيمان واليقين، فلنا أن نفسح مجالا للتساؤل عن كيفية انخراط النية والوعي والذوق في عملية صدور الأحكام الأخلاقية الباطنة المثمرة للأعمال الأخلاقية الظاهرة…

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق