مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةدراسات عامة

ابن عربي: الشيخ الأكبر والكبريت الأحمر (الحلقة الثانية)

فقد تقدم القول في الحلقة السابقة في التعريف بالشيخ ابن عربي وذكر بعض كتبه التي ألفها في مختلف العلوم، وما كان من لقائه ببعض علماء عصره. وقد أشرنا في خاتمة الحلقة إلى شعره ومقالة العلماء فيه إذ حمَلوه على غير ما قصد إليه ابنُ عربي وذهب إليه. ثم ذكرنا أن له ديوانين: الأول هو الديوان الأكبر، وفيه معظم شعره الذي قاله، والثاني هو ترجمان الأشواق، وضع له شرحا بنفسه سماه “فتح الذخائر والأعلاق شرح ترجمان الأشواق”. وقد َمرَّ سرد قصة هذا الديوان، فليُرجع إليها.

وفي هذه الحلقة سنورد نماذجَ من شعره، مع الوقوف على بعض معانيه والإشارة إلى بعض ألفاظه ومصطلحاته التي يستعملها بكثرة في شعره، ويمكن أن يُنظر إليها على أنها ظواهرُ تتكرر ويقصد إليها ابنُ عربي قصدا دون غيرها، فلذلك كان لا بد من الوقوف عليها لاختلاف شعر الصوفية عن غيره لِمَا يتضمنه من رموز واصطلاحات خاصة بهم.

قدم ابنُ عربي لديوانه بمقدمة ذكر فيها سبب شرحه لشعره، وهو أن بعض العلماء عاب عليه أَنْ نَسَبَ في شعره، وزعم أن ابن عربي يتسترُ لكونه منسوبا إلى الصلاح والدين. وإنما كان ابنُ عربي يقصد بنسيبه المعارف الإلهية وغيرها مما يُسلك في طرق كلام الصوفية الذي باطنه فيه الإيمانُ والتحققُ بالعلم الإلهي،  وظاهرهُ مِنْ قِبَلِهِ الكفرُ  والإشراك. وقد مر أيضا ما وقع له مع بعض إخوانه في قوله:

                   يا من يراني ولا أراه /// كم ذا أراه ولا يراني

فقال رحمه الله تعالى: قال لي بعض إخواني لمّا سمع هذا البيت: كيف تقول: إنه لا يراك وأنت تعلم أنه يراك؟ فقلت له مرتجلاً:

يا من يراني مجرماً /// ولا أراه آخذا

كـم ذا أراه منـــــعماً /// ولا يراني لائذا

فمن هذا نعلم أن لكلام هؤلاء وجهًا صحيحا سائغا يمكن حملُه عليه من غير الاقتصار على النظر في ظاهر العبارة. ولعلمِ ابنِ عربي بهذا الأمر وما يكون بسببه من التطاول عليه، أوردَ قصيدة في تقديمه لهذا الديوان ينبه فيها على أن كلَّ ما يصادفه القارئ فيه من الإشارات إلى الأماكن والصفات الخاصة بالنساء وغير ذلك، إنما هو من قَبيل الأسرار الإلهية التي يخاطبها. وسأورد قصيدته حتى يظهر لكل قارئِ شعره ما يعنيه ويشير إليه في شعره أجمع، قال في الصفحة 25:

كُلُّمَا أَذْكُرُهُ مِنْ طَلَلٍ/// أَوْ رُبُوعٍ أَوْ مَغَانٍ كُلُّمَا

وَكَذَا إِنْ قُلْتُ: هَا، أَوْ قُلْتُ: يَا /// وَأَلَا، إِنْ جَاءَ فِيهِ، أو أَمَا

وَكَذَا إِنْ قُلْتُ: هِيْ، أَوْ قُلْتُ: هُوْ /// أَوْ هُمُ، أَوْ هُنَّ جَمْعًا، أَوْ هُمَا

وَكَذَا إِنْ قُلْتُ: قَدْ أَنْجَدَ لِي /// قَدَرٌ فِي شِعْرِنَا أَوْ أَتْهَمَا

وَكَذَا السُّحْبُ إِذَا قُلْتُ: بَكَتْ /// وَكَذَا الزَّهْرُ إِذَا مَا ابْتَسَمَا

أَوْ أُنَادِي بِحُدَاةٍ يَمَّمُوا /// بَانَةَ الحَاجِرِ أَوْ وُرْقِ الحِمَى

أَوْ بُدُورٌ فِي خُدُورٍ أَفَلَتْ /// أَوْ شُمُوسٌ أَوْ نَبَاتٌ أَنْجَمَا

أَوْ بُرُوقٌ أَوْ رُعُودٌ أَوْ صَبًا /// أَوْ رِيَاحٌ أَوْ جَنُوبٌ أَوْ سَمَا

أَوْ طَرِيقٌ أَوْ عَقِيقٌ أَوْ نَقًا /// أَوْ جِبَالٌ أَوْ تِلَالٌ أَوْ رِمَا

أَوْ خَلِيلٌ أَوْ رَحِيلٌ أَوْ رُبًى /// أَوْ رِيَاضٌ أَوْ غِيَاضٌ أَوْ حِمَى

أَوْ نِسَاءٌ كَاعِبَاتٌ نُهَّدٌ /// طَالِعَاتٌ كَشُمُوسٍ أَوْ دُمَى

كُلُّمَا أَذْكُرُهُ مِمَّا جَرَى /// ذِكْرُهُ أَوْ مِثْلُهُ أَنْ تَفْهَمَا

مِنْهُ أَسْرَارٌ وَأَنْوَارٌ جَلَتْ /// أَوْ عَلَتْ جَاءَ بِهَا رَبُّ السَّمَا

لِفُؤَادِي أَوْ فُؤَادِ مَنْ لَهُ /// مِثْلُ مَا لِي مِنْ شُرُوطِ العُلَمَا

صِفَةٌ قُدْسِيَّةٌ عُلْوِيَّةٌ /// أَعْلَمَتْ أَنَّ لِصِدْقِي قَدَمَا

فَاصْرِفِ الخَاطِرَ عَنْ ظَاهِرِهَا /// وَاطْلُبِ البَاطِنَ حَتَّى تَعْلَمَا

فمن قوله في آخر هذه القصيدة:

فَاصْرِفِ الخَاطِرَ عَنْ ظَاهِرِهَا /// وَاطْلُبِ البَاطِنَ حَتَّى تَعْلَمَا

يمكن لنا أن نتخذ قاعدة عامة في قراءة الشعر الصوفي جميعا، فهو جماع هذا الباب من معاني الشعر –ولا سيما الصوفي-، لأنها لا تُنال بظاهرها وما يكون باديا لمن لم يُنْعِمِ النظر فيها، وإنما السبيل في ذلك أن يطلع على ما تعارفته الصوفية في كلامها، فإنهم يقصدون إليه من غير الوجه الذي استقر عند عامة الناس.

-1 منازعُ ابن عربي في شعره وإشاراتُه:

إن لابن عربي إشاراتٍ وكناياتٍ كثيرةً في شعره، قد نعدها ظواهرَ يمكن الوقوف عليها وتحليلها، مع ذكر مواضعها من شعره وسياقها فيه، ومعتمَدنا في ذلك، شرحُه الذي وضعه لديوانه، فإنه قد شرح جميع شعره وأوضح ما غمُض من عباراته، وما بعُد من إشاراته، فأَعْيَا أن يُدْرَكَ إلا بحَبْلٍ من شرحه وتفسيره له. وفيما يلي أكثر العبارات التي يكررها ابن عربي من نحو هذا الباب الذي نحن فيه:

* المركوب: وهو كل ما ركبه الإنسان، ويعبر عنه ابن عربي بالعيس والمطايا والناقة والأجمال (جمع جَمَل)،  وهو في كل ذلك إنما يعني بها الهِمَمَ، لأنها باعثة لكل مُريد على بلوغ المراتب العُليا.

قال في الصفحة 34:

نَادَيْتُ إِذْ رَحَلَتْ لِلْبَيْنِ نَاقَتَهَا /// يَا حَادِيَ العِيسِ لَا تَحْدُو بِهَا العِيسَا

فكنّى عنها بالناقة والعيس معا. وسيأتي الحديث عن هذا البيت في قوله: يا حادي العيس.

وقال في الصفحة 181:

يُرَاعُونَ مَرْعَى العِيسِ حَيْثُ وَجَدْنَهُ /// وَلَيْسَ يُرَاعُوا قَلْبَ صَبٍّ مُضَلَّلِ

وقد شرحها بأنها مطالب الهمم ومقاصدها، لأنها تعرُج بصاحبها إلى أمانِيه وما يَصبو إليه.

وبعد هذا البيت مباشرة قال:

فَيَا حَادِيَ الأَجْمَالِ رِفْقًا عَلَى فَتًى /// تَرَاهُ لَدَى التَّوْدِيعِ كَاسِرَ حَنْظَلِ

فقد عبّر عنها هنا بالأجمال, وهو جمع جمل كما تقدم، قال في شرحها: والأجمال، الهِمَم. وهذا البيت مأخوذ من بيت امرئ القيس في طالعة معلّقته، وهو قوله كما في ديوانه في الصفحة 9:

كَأنِّي غَدَاةَ البَيْنِ يَوْمَ تَحَمَّلُوا /// لَدَى سَمُرَاتِ الحَيِّ نَاقِفُ حَنْظَلِ

فقد شبها نفسيْهما حال التوديع بذاك الذي يجني الحنظل ويَنْقُفُهُ فتسَّاقط الدموعُ غِزارا.

* الحادي: هو الذي يسوق الإبل من خلفها ويزجرها لتخفف سيرها وتمضي. وابن عربي في شعره يعني به داعيَ الحق والملائكة والشوق. قال في البيت الذي تقدم إيرادُه:

نَادَيْتُ إِذْ رَحَلَتْ لِلْبَيْنِ نَاقَتَهَا /// يَا حَادِيَ العِيسِ لَا تَحْدُو بِهَا العِيسَا

قال في شرحه: والملائكة المقرّبون هم حُداة هذه الهمم. فقد كان ابن عربي في حالة روحانية جلبتها له همته، فلمّا أرادت هذه الهمة الرحيل، جعل يطلب من الملائكة ألا يحدوا بها لئلاّ يخرج من حالته تلك.

وقال في البيت الذي تقدم أيضا، وهو قوله:

فَيَا حَادِيَ الأَجْمَالِ رِفْقًا عَلَى فَتًى /// تَرَاهُ لَدَى التَّوْدِيعِ كَاسِرَ حَنْظَلِ

قال في شرحه: يخاطب داعي الحق الذي يدعوهم إلى دار السلام. والأجمال، الهمم. والكناية بالحادي عن داعي الحق كثيرة في شعره. منه قوله في الصفحة 192:

يَا حَادِيَ العِيسِ بِسَلْعٍ عَرِّجِ /// وَقِفْ عَلَى البَانَةِ بالمُدَرَّجِ

وقوله في الصفحة 199:

فَإِنَّ لَنَا قَلْبًا بِهِنَّ مُعَلَّقًا /// إِذَا مَا حَدَا الحَادِي بِهِنَّ أصَاخَا

وأما كنايته بالحادي عن الشوق، ففي قوله في الصفة 37:

فَيَا حَادِيَ الأَجْمَالِ إِنْ جِئْتَ حَاجِرًا /// فَقِفْ بِالمَطَايَا ساعَةً ثُمَّ سَلِّمِ

قال في شرحه: فهو يخاطب الشوق الذي يحدو بالهمم إلى منازل الأحبة. فمن هذا تعلم أن الحادي يصدُق على كل ما كان آخذا بهمم المريد إلى غاياته.

* خَليلَيَّ: تثنية خليل، وهو الصاحب الذي تخللت مودته القلبَ. ويعني بهما ابنُ عربي قلبَه وإيمانه. قال في الصفحة 35:

خَليلَيَّ عُوجَا بِالكَثِيبِ وَعَرِّجَا /// عَلَى لَعْلَعٍ وَاطْلُبْ مِيَاهَ يَلَمْلَمِ

قال في شرحه: يخاطب عقله وإيمانه أن يعوجا بالكثيب. وفي هذا البيت تفنن من ابن عربي في القول، فهو يذكر بعض الأسماء أو الأماكن ويشير بها أو بألفاظها إلى المعنى الذي يريده. فقوله: لعلع، من التولّع، وهو مناسب لمقامه وحاله إذ عاج على هذه المواضع التي بها مؤمّله، ويشهد له قوله في قصيدة أخرى في الصفحة 211:

تَوَلَّعْتُ فِي لَعْلَعٍ بِالَّتِي /// تُرِيكَ سَنَا القَمَرِ الزَّاهِرِ

فدل على أنه يقصد به التولّع. وأما قوله: يلملم، فهو ميقات أهل اليمن، وهم أصل العرب لِمَا كان من إصهار إسماعيل –عليه السلام- إلى قبيلة جرهم. فكأن ذكره لِيَلَمْلَمَ تنبيه منه إلى أن أصل المعارف التي تنزلت عليه إنما هي من هذه المواضع، تماما كما كان الماءُ أصلَ كل شيء. وسيأتي ذكر بعض هذه الإشارات فيما بعد من عمل هذه المقالة.

* الأحباب: يقصد بهم الأرواح العُلوية كما قال في الصفحة 214:

أَلْمِمْ بِمَنْزِلِ أَحْبَابٍ لَهُمْ ذِمَمُ /// سَحَّتْ عَلَيْهِمْ سَحَابٌ صَوْبُهَا دِيَمُ

-2 الاقتباس والإشارة في شعر ابن عربي:

مَرَّ غيرَ بعيد بيت لابن عربي أخذه من امرئ القيس في وصف حاله عند التوديع بناقف الحنظل، وهذا قليل جدا في شعر ابن عربي، أعني أخذه من الشعراء، ومنه قوله في الصفحة 201:

وَمَا ذَاكَ إِلَّا مِنْ نُحُولِي وَنُورِهِ /// فَلَوْلَا أنِينِي مَا رَأَتْ لِيَ مَشْهَدَا

فإنه أخذه من قول المتنبي في الشعر الذي يُعزى إلى صِباه، وهو في ديوانه 507/2:

كَفَى بِجِسْمِي نُحُولًا أَنَّنِي رَجُلٌ /// لَوْلَا مُخَاطَبَتِي إِيَّاكَ لَمْ  تَرَنِي

وهذا كما قلت، قليل جدا. وإنما الغالب في هذا الباب أن يأخذ ويقتبس من القرآن الكريم، وهوكثير، ونقتصر منه على أمثلة فقط، ليتضح ما يذهب إليه ابنُ عربي في شعره.

قوله في الصفحة 38 عند شرحه لأبيات:

فَلَمْ تَكُ تَصْلُحُ إِلَّا لَهُ /// وَلَمْ  يَكُ يَصْلُحُ إِلَّا لَهَا

وَلَوْ رَامَهَا أَحَدٌ غَيْرُهُ /// لَزُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا

وهو إشارة إلى قوله تعالى: ﴿إِذَا زُلْزِلَتِ اِلَارْضُ زِلْزَالَهَا *﴾ [الزلزلة:1].

قوله في الصفحة 42: 

أَحَاطَتْ بِهِ الأَشْوَاقُ صَوْنًا وَأُرْصِدَتْ /// لَهُ رَاشِقَاتُ النَّبْلِ أَيَّانَ يَمَّمَا

ففيه إشارة إلى قول الله تعالى: ﴿وَلله المَشْرِقُ وَالـمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ إِنَّ اللهَ وَاسِعٌ عَلِيم *﴾ [البقرة:115]، لأن قوله: أيان يمّما، أي: أين قصد واتجه فإنه مُلاقٍ ما يتطلع إليه.

وقوله في الصفحة 213:

خَوَرْنَقُهَا خَارِقٌ لِلسَّمَا  (م) ءِ يَسْمُو اعْتِلَاءً عَلَى النَّاظِرِ

فالخورنقُ معروف، قصر بناه سِنِمَّارُ للنعمان بن امرئ القيس وهو النعمان الأكبر، وقصة بناء هذا القصر مبثوثة في كتب الأدب والتاريخ وغيرها، فلا نعرض لها ههنا. وأما ذكر ابن عربي لهذا القصر، فهو من جهة كونه قصرا عاليا لا يُدرك ولا يُستطاع. فكأنه أشار به إلى قوله تعالى: ﴿لاَّ تُدْرِكُهُ الَابْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الَابْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِير *﴾ [الأنعام:103].

ثم نختم ببيت آخر، وهو قوله:

وَاسْتَنْشِقِ الرَِيحَ مِنْ تِلْقَاءِ أَرْضِهِمُ /// شَوْقًا لِتُخْبِرَكَ الأَرْوَاحُ أَيْنَ هُمُ

فإنه إشارة إلى قوله تعالى على لسان يعقوب عليه السلام: ﴿وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمُ إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُون *﴾[يوسف:94]. فكما أن يعقوب -عليه السلام- وجد ريح يوسف من فرط محبته له وشوقه إليه، كذلك يريد ابنُ عربي الاستدلالَ بريح أحبابه على موضعهم، وهم الذين ذكرهم قبل هذا البيت في قوله الذي تقدم:

أَلْمِمْ بِمَنْزِلِ أَحْبَابٍ لَهُمْ ذِمَمُ /// سَحَّتْ عَلَيْهِمْ سَحَابٌ صَوْبُهَا دِيَمُ

وغيرُ هذه الأبيات كثير لا يسع الإتيان على آخره، فابنُ عربي كثيرُ الإشارة في شعره إلى هذه المعاني المأخوذة من كلام الله تعالى، وإنما مثّلنا عليها فقط.

-3 الأماكن التي يذكرها ابن عربي:

هذه أماكن ذُكرت في الشعر قديما وتداولتها الشعراء بأسمائها، فلا يكاد يخلو ديوان شاعر من أهل السابقة من ذكرٍ لهذه المواضع والأماكن. وفيما يلي نذكر أسماء بعضها مما اشتُهر وأعاد ابن عربي ذكره:

اللِّوَى، نجد، تهامة، البقاع المشرفة من ركن وحجر وعرفات ومنى والكعبة والمحصب (موضع رمي الجمار) وزمزم وطيبة، رامة، الأبرقان، ذو سَلَم، حاجر، سلع، إضم، برقة ثهمد، سلع، أذرعات…

-4 بعض أسماء النساء وصفاتها التي ذكرها ابن عربي:

عمد ابنُ عربي في ديوانه هذا الذي عمله في “نظام” ابنة الشيخ زاهر بن رُستم إلى الكناية بصفاتها عن المعارف الإلهية والأرواح العُلوية وغير ذلك مما يتحقق به كل صوفي سلك هذا المسلك. ثم إنه ذكر أسماء النساء التي تغزل بها الشعراء قبلُ، فكأنه لم يحِد عن طريقة الشعراء في ذكرهم لأسماء معينة  للنساء في شعرهم، وهذا مذهب معروف تكلم عنه نقاد الشعر قديما. وقد كان ابنُ عربي في ذكره لهذه الأسماء والصفات إنما يعني بها ما ترمز إليه، فهو حينما يصفها بأنها ظبي مُبَرقع، يقصد أن هذه المعارف محتجبة عنه، فلا يستطيع بلوغها إلا في حالة معينة وفي مقام معين يكون فيهما متجردا مما يُبقيه في عالم الخلق لينتقل إلى عالم الحقّ. وحينما يصفها بأنها عذراء، فهو يقصد بأنها معشوقة للنفوس، تُقبل عليها على وجه الشوق. وكذلك الأمر حينما يورد أسماء النساء التي تغزل بها الشعراء، فهو يقصد بها الحقائق واللطائف الإلهية ليوقع التشبيه يبن هذا وذاك من جانب المحبة التي كانت علةً لذكرهم لهذه الأسماء.

وهذه بعض الأسماء والصفات التي كرر ابنُ عربي ذكرها في شعره لِمَا يريد بها من معانيها وما ترمز إليه:

* الأسماء: دعد، الرباب، زينب، هند، سلمى، لبنى، هند، ليلى، ميّ، سُلَيْمى…

* الصفات: فاتكة الألحاظ، الغادة، الأوانس، نسوة عطِرات، عقائل، ظبي مُبَرْقَع، حسناء، خود، عَروب، حِسان، خُرّد، مريضة الأجفان، الغواني، لَعوب، طَفلة، بنات الخدور، كواعب، هيفاء، نُهَّد، رُعبوبة، لَمياء، ريّا المُخلخل، لؤلؤة مكنونة، مقصورة، مخضوبة البَنان، نواعم، عذراء…

-5 البديع في شعر ابن عربي:

إن الناظر في شعر ابن عربي أيّان يُقَلِّبْ طرفَه يجدْ فيه من المُحسنات البديعية ما تكاد لا تخلو منه قصيدة. فقد أكثر ابنُ عربي في شعره من البديع، حتى لقد جاءت بعض قصائده ومَا بيتٌ فيها إلا وقد كَساه بصورة من صور البديع، وهو في  ذلك -كما أسلْفنا-  إنما يريد المعاني التي تؤديها بعض الكلمات بما تحيل عليه ألفاظُها. وقد تقدم معنا بعض ذلك في قوله:

خَليلَيَّ عُوجَا بِالكَثِيبِ وَعَرِّجَا /// عَلَى لَعْلَعٍ وَاطْلُبْ مِيَاهَ يَلَمْلَمِ

وقلنا: إنه أراد بلَعْلَعٍ حالةَ التوّلع الحاصلِ بالمحبة والشوق.

ومن أكثر أبواب البديع التي استعملها ابنُ عربي كما يظهر، هي الجناس بنوعيه: المعنوي واللفظي. أما المعنوي فيمكن إدراج ما مَرَّ آنِفًا في حيزه، وهو قوله: لعلع الذي يحيل على التولع، وهذا يُدرك منه ما يحيل عليه بمعناه. ومنه قوله أيضا في الصفحة 167:

يَا خَلِيلَيَّ أَلِمَّـا بِالحِمَى /// وَاطْلُبَا نَجْدًا وَذَاكَ العَلَمَا

وَرِدَا مَاءً بِخَيْمَاتِ اللِّوَى /// وَاسْتَظِلَّا ضَالَهَا وَالسَّلَمَا

فالحمى من الحماية، واللوى من لَوَى الشيءَ، أي ثَناه وعَطَفه، يريد به العطفَ الإلهي،  والضّالُ من الضلالة، كأنه في مقام الحيرة، والسلَم من السلامة. فكل أولئك مما ذكرنا، إنما يعني به ابنُ عربي طلب الحماية والسلامة بعطف إلهي بعد حيرة وضلال كان فيهما.

وأما اللفظي فكثير جدا، نقتصر منه على قصيدة جاءت على هذا النمط من البديع الذي افتنّ فيه ابنُ عربي بما أوتِيَ من الحظ الأوفر من العربية، وذلك من غير ذكر كل وجه بديعي مفردا مع بيان نوعه وما أدّاه من معنى جمالي، لأن ذلك سيطول جدا إذا نحن أردناه، والقصيدة هي قوله في الصفحة 211:

لِطَيْبَةِ ظَبْيٍ ظُبَى صَارِمٍ /// تَجَرَّدَ مِنْ طَرْفِهَا السَّاحِرِ

وَفِي عَرَفَاتٍ عَرَفتُ الَّذِي /// تُرِيدُ، فَلَمْ أَكُ بِالصَّابِرِ

وَلَيْلَةَ جَمْعٍ جَمَعْنَا بِهَا /// كَمَا جَاءَ فِي المَثَلِ السَّائِرِ

يَمِينُ الفَتَاةِ يَمِينُ فَلَا /// تَكُنْ تَطْمَئِنُّ إِلَى غَادِرِ

مُنًى بِمِنًى نِلْتُهَا لَيْتَهَا /// تَدُومُ إِلَى الزَّمَنِ الآخِرِ

تَوَلَّعْتُ فِي لَعْلَعٍ بِالَّتِي /// تُرِيكَ سَنَا القَمَرِ الزَّاهِرِ

رَمَتْ رَامَةً وَصَبَتْ بِالصَّبَا /// وَحَجَّرَتِ الحَجْرَ بِالحَاجِرِ

وَشَامَتْ بَرِيقًا عَلَى بَارِقٍ /// بِأَسْرَعَ مِنْ خَطْرَةِ الخَاطِرِ

وَغَاضَتْ مِيَاهُ الغَضَا مِنْ غَضًى /// بِأَضْلُعِهِ مِنْ هَوًى سَاحِرِ

وَبَانَتْ بِبَانِ النَّقَا فَانْتَقَتْ /// لَآلِئَ مَكْنُونة الفَاخِرِ

وَأَضْلَتْ بِذَاتِ الأَضَا القَهْقَرَى /// حِذَارًا مِنَ الأَسَدِ الخَادِرِ

بِذِي سَلَمٍ أسْلَمَتْ مُهْجَتِي /// إِلَى لَحْظِهَا الفَاتِكِ الفَاتِرِ

حَمَتْ بِالحِمَى وَلَوَتْ بِاللِّوَى /// كَعَطْفَةِ جَارِحِهَا الكَاسِرِ

وَفِي عَالِجٍ عَالَجَتْ أَمْرَهَا /// لِتُفْلِتَ مِنْ مِخْلَبِ الطَّائِرِ

خَوَرْنَقُهَا خَارِقٌ لِلسَّمَا  (م) ءِ يَسْمُو اعْتِلَاءً عَلَى النَّاظِرِ

  فالقصيدة كلها تجنيس من ابن عربي بين الألفاظ ، ولا حاجة إلى ذكر كل تجنيس وبيان نوعه وإفراده بالتحليل كما قدّمنا.

ومن أبواب البديع التي استعملها ابن عربي في شعره، الالتفاتُ وهو كما قال ابنُ المعتز في البديع في الصفحة 152: “انصراف المتكلم عن المخاطبة إلى الإخبار، وعن الإخبار إلى المخاطبة وما يشبه ذلك”.

قال ابن عربي في البيت الذي مَرَّ قبلُ:

خَليلَيَّ عُوجَا بِالكَثِيبِ وَعَرِّجَا /// عَلَى لَعْلَعٍ وَاطْلُبْ مِيَاهَ يَلَمْلَمِ

فقد خاطب خليليْه أولا، وهما عقله وإيمانه، ثم قال بعد ذلك:

فَلَا أَنْسَ يَوْمًا بِالمُحَصَّبِ مِنْ مِنًى /// وَبِالمَنْحَرِ الأَعْلَى أمُورًا، وَزَمْزَمِ

فانتقل من الخطاب إلى التكلم على وجه الالتفات من ذلك إلى هذا، وهو من المحسنات البديعية التي تضيف إلى الكلام حسنا وبهاء،  ثم لا يترك السامع يشرد بين أطراف الكلام.

هذا بعض ما يمكن إيراده في هذا الباب، وهو كثير جدا تضيق عنه هذه المقالة الموجزة في حق شعر ابن عربي، فليس الشأن فيما نحن فيه أن نستطرد في ذلك، وإنما نذكر ما عساه يكون إشارة لكل باب، والقصد في ذلك أن تكون إشارةً إلى أن شعر هؤلاء يحتاج إلى بُعد نظرٍ وتأملٍ، وأن يكون الناظر فيه على معرفة لا بأس بها باصطلاحات أهل هذه الطريقة من المتصوفة، فإن شعرهم كله قائم على الرموز والإشارا ت التي تعارفوها فيما بينهم، ولا يكاد يعرف ذلك عنهم إلا القليل ممن اطلع على ما ذكرناه. وما هذه المقالة إلا إلْمامَة على شعر ابن عربي، حاولنا فيها أن نعرض لبعض الظواهر التي يقصد إليها قصدا، ويعيد تكريرها حتى كأنما عليها مَدار شعره أجمع.

وأخيرا، فإنّا لا نعدم أمرا مهما جدا من خلال قراءتنا للشعر الصوفي عامة، وهو جانب التأويل. فإن قارئ الشعر الصوفي يخرج منه وإنه أَوْلَى للتأويل حيزا كبيرا من قراءته، فلو لم يكن يعلّمه إلا التأويل، لقد كان كافيا. ثم تطلّبه لبعد النظر والتأمل الكثير في أسرار القول وخفاياه، فإن الشعر لا يأتي مغسولا  كما لو أنه لا عمل للشاعر فيه غير أنه أتى بالكلام على أصله الذي وُضع عليه في العربية من غير تقديم ولا تأخير، ولا حذف ولا زيادة، وإنما للشاعر أَيْدٍ خفية يُجيلها في الكلام فيغيّر منه على حسب ما تقتضيه مقاصده. وفي ذلك قولُ ابن عربي كما تقدم معنا، وبه نختم هذه المقالة:

فَاصْرِفِ الخَاطِرَ عَنْ ظَاهِرِهَا /// وَاطْلُبِ البَاطِنَ حَتَّى تَعْلَمَا

والحمد لله أولا وآخرا، وصلى الله على نبيه وعلى آله وصحبه أجمعين.

********

المصادر والمراجع:

– القرآن الكريم برواية ورش.

– البديع لابن المعتز، تحقيق محمد عبد المنعم خفاجي، دار الجيل.

– ديوان ترجمان الأشواق، بشرح ابن عربي واعتناء عبد الرحمن المصطاوي، دار المعرفة.

– ديوان المتنبي بشرح عبد الرحمن البرقوقي، تحقيق عمر الطباع، دار الأرقم.

– ديوان امرئ القيس: تحقيق أبي الفضل إبراهيم، دار المعارف.

Science

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق