وحدة المملكة المغربية علم وعمراندراسات محكمة

إضاءات عمرانية من خلال فهارس العلماء بالمغرب

الحلقة الثانية

ولإعطاء فكرة عن كثافة المعلومات وقيمتها العلمية والعمرانية أورد نصا في ترجمة العلامة النحوي الحافظ سيدي محمد بن الحسين الجَندوز (ت 1148 ه)، قال في “السلوة“:” ومنهم : الشيخ الشهير، النحوي الكبير، الحافظ المحقق(…)، الأنفع سيبويه زمانه، والمقدم في علم العربية والتصريف على سائر الأئمة في عصره وأوانه، أبو عبد الله سيدي محمد بن الحسين الجندوز؛ به عرف، الفاسي دارا، المصمودي نجارا، من مصمودة زاوية وزّان، له عكوف على تعليم العلم وتعلمه، لا سيما علم العربية، فإنه برع فيه، يقوم على ألفية ابن مالك بشروحها وحواشيها، ويستحضر كثيرا من تحقيقات الدَماميني في شرح “التسهيل”، ومن شرح الرَضي على “كافية” ابن الحاجب وغيرها من كتب العربية، ويحفظ كثيرا من الأدب، والحكم واللغة وأيام العرب، ماهرا في جميع ذلك، مقبلا على التدريس، وله فيه لسان فصيح وتبليغ بليغ، مجلسه مجلس هيبة ووقار، لا يستطيع أحد أن يجلس فيه إلا مشمرا عن ساعد الجد، وله فيه مكانة وعلو وجلالة، لا يسع أحدا الجلوس في مجلسه إلا مطرقا مستمعا، مصغيا مستجمعا. أخذ -رحمه الله- عن الشيخ المَسناوي وأبي العباس الوَجَّاري، وأبي العباس أحمد الشَدَّادي الأكبر… وكان من خلقه : أنه يرافق تلامذته في الجلوس في درس من هو دونه في العلم تواضعا وحرصا. وأخذ عنه جماعة من الأعيان؛ كسيدي عبد المجيد المَنالي، وأبي عبد الله سيدي محمد بن الطيب القادري صاحب “النشر”، والشيخ سيدي التاودي ابن سودة المري… إلى أن توفي عشية يوم الخميس الثالث من المحرم عام ثمانية وأربعين ومائة وألف. كذا ذكر وفاته في “النشر”، ودفن من الغد، وهو يوم الجمعة – في عرصة من هذه الحومة للشرفاء أهل وزان، اتخذوها مقبرة لهم بجوار روضة الشيخ سيدي محمد بن مولاي التهامي..

في ترجمة   العلامة محمد بن أحمد الصباغ البوعقيلي (ت: 1076) يقول في “السلوة : “ومنهم: الفقيه الجليل، الحيسوبي الفرائضي؛ أبو عبد الله سيدي محمد بن أحمد الصباغ لقبا، البوعقيلي نسبا. أصله من مكناسة الزيتون، ونشأ بفاس، وأخذ بها عن أبي العباس ابن القاضي، وكان – رحمه الله – عارفا بعلم الحديث، مشاركا في الفقه، ماهرا في علم الحساب والهيئة والفرائض، سلم له أهل عصره في ذلك، ورجعوا له في خبايا تلك العلوم، وتصدى هو لتعليمها، فانتفع به قوم. وله شرح حسن على المنية لابن غازي (يقصد مُنية الحسّاب)؛ سماه : “البغية في شرح المنية”، وله “اليواقيت في الحساب والفرائض والمواقيت”، واختصر شرح المنجور على “المنهاج. توفي – رحمه الله – عام ستة وسبعين وألف. قال في “الصفوة” :  ودفن بعين أَصْلِيتن بدار ضريح ابن عبد الكريم من فاس، وعمره ست وثمانون سنة “…

وفي ترجمة الفقيه الشريف سيدي الحسن بن محمد ابن ريسون (ت 1055ه ) يقول: توفي – كما ذكره في “بستان الأذهان” – ضحوة الجمعة سادس وعشرين جمادى الأولى سنة خمس وخمسين وألف.  قال في “النشر”: “ودفن بالروضة المعروفة لهم بفاس، قرب الفخــارين “؛ وفي “التقاط الدرر” ما نصه : “وفي عام خمسة وخمسين، يعني: من القرن الحادي،  توفي الفقيه البركة النسابة الحسن بن محمد ابن ريسون الحسني العلمي، ودفن داخل باب الفتوح “. وروضته – رحمه الله – تعرف بروضة الشرفاء أولاد ابن ريسون، وهي قريبة من جامع الأندلس، تقابل الفندق الكبير الذي تباع به الخضر؛ المسمى على لسان العامة بالسويقة، بينه وبين الفخارين..

بعد هذا التعريج على كتاب “السلوة” الذي اشتغلنا عليه كمشروع متكامل أطلقنا عليه اسم “عمران فاس من خلال سلوة الأنفاس”، والذي تبدو وحدته الموضوعية مع كتب الفهارس، نكتشف الآن بعض ما يمكن استخلاصه من كتب الفهارس المغربية في مجال العلاقات العلمية والحياة الثقافية و العمران والاجتماع البشري.. فلنعرف أولا الفهرس أو الفهرسة، ثم نتعمق قليلا في بعض متون الفهارس خدمة لأهدافنا التي أبرزناها في المقدمة..

“الفهرس أو الفهرسة عبارة عن كتاب يذكر فيه المؤلف شيوخه وما قرأ عليهم من كتب، وأسانيدهم في تلك الكتب مروية عن شيوخهم بتسلسل إلى مؤلفي تلك الكتب أو واضعي العلوم وأئمة المذاهب. ويطلق الأندلسيون على الفهرس غالبا اسم البرنامج أو الثبَت.. وتعد الفهارس من أهم الكتب وأطرفها، فهي تقدم بكيفية خاصة صورة حية لثقافة المؤلف وروافدها، وتبين بكيفية عامة حالة الثقافة والفكر والعمران في عصره معرّفة برجال العلم ونشاطهم في التدريس والتأليف وأماكن تدريسهم وسكناهم، وامتداد الحركة العلمية وتسلسلها؛ وبذلك تكون أفيد شيء لمن أراد أن يتعرف على النشاط الثقافي والفكري والعمراني في عصر ما”[1]. والفهارس في تاريخ المغرب الفكري لا حصر لها، لكن بعضها اشتهر وذاع صيته وحُقِّق ونشر مثل فهرسة القاضي عياض المسماة “الغُنية”، وفهرس ابن غازي المكناسي المسمى التعلُّل برسوم الإسناد بعد انتقال أهل المنزل و النّاد”، وفهرس “أحمد المنجور”، وفهرسة اليوسي، وفهرسة محمد ميّارة الفاسي، ومعجم الشيوخ لعبد الحفيظ الفاسي، وفهرس محمد بن الحسن الحجوي، وفهرس الإمام التاودي بن سودة، و و”فهرس الفهارس” لعبد الحي الكتاني الذي جمع بين التراجم والتعريف بالفهارس..

وكان العلماء يجيزون الفهارس بأسانيدها كما فعل ابن القاضي أحمد بن محمد مع أحمد بن محمد المقري حيث أجازه بفهرسة محمد بن أحمد بن غازي العثماني، وفهرسة أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، وفهرسة أبي عبد الله المنتوري، وفهرسة ابن جعفر بن الزبير، وفهرسة محمد بن جابر الواد آشي.
كما أجازه ب”رحلة” ابن رشد ومصنفات عبد الرحيم العراقي وزروق البرنسي وخليل بن إسحاق المالكي[2] وقد كان محمد بن الغازي الكبير جماعا للفهارس والمعاجم[3].

ويذهب عبد الحي الكتاني إلى أبعد مدى في “فهرس الفهارس”[4] مبرزا أهمية التراجم وتحقيق الإسناد والعلم بوفيات الأعيان في ضبط معطيات الاجتماع الإنساني و التعرف على طبائع العمران بقوله : “قال صاعقة المغرب أبو عليّ اليوسي في فهرسته : كل ما يحتاج إليه كتاريخ سكة معلومة أو مكيال أو مسجد عتيق أو كون فلان من الرواة بفلان، أو مكان التقائه، أو كون فلان من المتقدمين أو المتأخرين أو من الصحابة أو لا أو غير ذلك، فهو داخل في العلوم الشرعية..”

 

[1] أنظر محمد حجي. مقدمة تحقيق فهرس المنجور. الرباط. 1976.

[2] الفهرسة والكناشة في نشاط المغرب الفكري  عبد العزيز بن عبد الله. مجلة التاريخ العربي عدد 7 صيف 1998.

[3] عبد الله الجراري  أعلام الفكر المعاصر، ج 2، ص. 186

[4] فهرس الفهارس. دار الغرب الإسلامي بيروت. ط2، ج 1، ص83

د. جمال بامي

  • رئيس مركز ابن البنا المراكشي للبحوث والدراسات في تاريخ العلوم في الحضارة الإسلامية، ومركز علم وعمران بالرابطة المحمدية للعلماء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق